الأربعاء 30 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. ترشيحات صادمة «2»

كدهوّن!.. ترشيحات صادمة «2»

لا شَك أن مهمة ترشيح الممثل المناسب للشخصية الدرامية تقع على عاتق المخرج بل تُعتبر من أهم مهامه الفنية التى يتوقف عليها نجاح العمل أو فشله، وعادة ما يقوم المخرج بترشيح أكثر من ممثل لنفس الدور لتكون هناك بدائل فى حالة اعتذار المرشح الأصلى ويراعى أن تكون تلك الترشيحات مشابهة لما يتوقعه الجمهور الذى يكره المفاجآت ويستمتع باستنتاج الأحداث قبل أن تحدث ويضحك بشدة عندما يقول الجملة قبل أن يقولها الممثل على الشاشة الفضية.. ومن هنا تأتى صعوبة التغيير أو الترشيحات الصادمة للجمهور وتحول الأمر إلى اتفاق غير معلن بين الجمهور والمخرج على توقع تلك الترشيحات الفنية فإذا ظهر فريد شوقى أو محمود المليجى يكون الدور لشرير، أمّا إذا رأى الجمهور الفنانة فردوس محمد فسيتوقع سريعًا أنها ستلعب دور الأم الطيبة، وإذا كانت الشخصية الدرامية لفتاة لعوب أو مثيرة فإن الدور سينادى على الفور الفنانة هند رستم أو تحية كاريوكا، وكِدَهُوّن..



 

 وأحيانًا يقرر المخرج المجازفة واختيار ممثل أو ممثلة فى دور لا يتوقعه منه الجمهور مما يُحدث صدمة قد ينجح معها الممثل فى تغيير جلده أو يفشل ويعود لأدواره المتوقعة منه مرة أخرى وكِدَهُوّن.. ولعلنا نتوقف كثيرًا عند دور «أبو سويلم» ذلك الفلاح الذى يرمز لشخصية المصرى الأصيل الذى يقاوم القهر والظلم ويضحى بحياته وهو يدافع عن أرضه التى اعتبرها عِرضه وشرَفه، وكان المتوقع من الجمهور أن يقوم بمثل هذا الدور فنان مثل يحيى شاهين أو شكرى سرحان الذى اعتاد تقديم مثل هذه النوعية من الأدوار إلا أن المخرج يوسف شاهين صدم الجمهور واختار الدور لشرير الشاشة المصرية الفنان محمود المليجى الذى نجح بامتياز بأن يجعل الجمهور ينسى أو يتناسى تاريخه الطويل مع أدوار الشر المطلق ورجال العصابات ويقتنع بأنه ذلك الفلاح العنيد الذى يتحدى الجميع ويدافع عن أرضه حتى النهاية ليقدم أهم أدواره السينمائية على الإطلاق وتتحول جملته الشهيرة: «كنا رجالة ووقفنا وقفة رجالة» كأحد الأقوال المأثورة فى السينما المصرية وكِدَهُوّن.. وعندما نفكر فيمن يقوم بدور الأب مزدوج الشخصية فى البيت الوقور العنيف الذى يهابه ويحترمه كل مَن فى البيت بداية من زوجته حتى أصغر أبنائه نجده على النقيض تمامًا ليلاً؛ حيث يتحول لرجل سكير وزنديق يطارد الراقصات والعاهرات، فبالتأكيد لن يتوقع الجمهور أن من سيقوم بهذا الدور هو الفنان الوقور يحيى شاهين الذى اشتهر بشخصية الرجل المنضبط أو رجل الدين أو ضابط الجيش، ولكن المخرج حسن الإمام كانت له رؤية أخرى ورشحه فى هذا الدور الشائك فى ثلاثية نجيب محفوظ ليحفر لنفسه بصمة سينمائية لا تمحى من ذاكرة الجمهور رغم غرابة الترشيح إلا أنه صدّقه وهو يتمايل خلف العوالم وهو يضرب بالرق ويغنى «البحر بيضحك ليه وأنا نازلة ادلع أملا القلل» وكِدَهُوّن.. وعندما نتخيل من سنقوم بدور الغازية الصعيدية اللعوب ذات الخبرة العميقة بما يحدث خلف الأبواب المغلقة فبالتأكيد أن نفكر فى هانم السينما المصرية ميمى شكيب ذات اللدغة الواضحة فى كلامها وكأنها تتكلم العربية بصبغة فرنسية؛ خصوصًا أن ملامحها الأوروبية أيضًا تتنافى مع سمرة أهل الصعيد وملامحهم المنحوتة ولكن المخرج بركات رشحها لأداء زنوبة الغازية فى فيلم (دعاء الكروان) رغم أن الأوقع أن تقوم بمثل هذا الدور على سبيل المثال تحية كاريوكا أو حتى زوزو نبيل ووداد حمدى، ولكن ترشيح ميمى شكيب كان صادمًا للجميع رغم تفوقها الشديد فى أداء هذه الشخصية البعيدة كل البعد عن شخصيتها التى اعتادها الجمهور، فلا نزال نتذكر جملتها الشهيرة «شريف أوى اللامهندز» وكِدَهُوّن.. نجد أيضًا مثالاً آخر لزنوبة العالمة ولكنها هذه المرّة فى فيلم (قصر الشوق)؛ حيث رشح المخرج للقيام بالدور شقراء الشاشة نادية لطفى فى مجازفة كبيرة جدًا لأن الجمهور اعتاد منها أدوارًا رومانسية مثل دورها فى فيلم (الخطايا) أمام عبدالحليم حافظ أو لويزا الأميرة الملائكية فى فيلم (الناصر صلاح الدين) أو حتى دور ماجى الفتاة الأرستقراطية المستهترة فى فيلم (النظارة السوداء)، ولكن أن تقدم شخصية عالمة محترفة فى ثلاثينيات القرن العشرين ترقص وتغنى فوق عربة كارو فى شوارع المحروسة وتقيم علاقة غير شرعية مع الأب وابنه فى نفس الوقت فكان الدور أقرب لشخصية هند رستم أو هدى سلطان وليست الوديعة نادية لطفى، ولكنها فعلتها ونجحت بشدة وعشقها الجمهور الذى صدمه الدور فى أول الأمر ليصبح من أهم أدوارها السينمائية على الإطلاق وتعيد تقديم هذه الشخصية أكثر من مرّة بعد ذلك فى أكتر من فيلم ولكن يظل دور زنوبة هو الأقرب لقلب جمهورها وكِدَهُوّن.. عندما نفكر فى شخصية الأم السوقية التى تعمل دلّالة وخاطبة عند اللزوم نتوقع أن من تقدم هذا الدور هى الفنانة فردوس محمد أو مارى منيب لتضفى مَلمحًا كوميديًا على الأحداث، ولكن المخرج حسن الإمام رشح الفنانة عقيلة راتب لتلعب دور الأم فى فيلم (زقاق المدق) لتجول وتثور فى هذا الدور الذى يتطلب منها الكلام بالعين والحاجب والدخول فى وصلات من الردح الطويل مع نساء الحارة وهو ما يتناقض مع الشخصية التى اعتادها الجمهور من الفنانة عقيلة راتب التى تقدم شخصية الأم الأرستقراطية فى العادة كما كانت فى فيلم (لا تطفئ الشمس) أو (أيام وليالى) مع عبدالحليم حافظ أو زوجة الباشا فى فيلم (القاهره 30)، ولكنها صدمت جمهورها بهذا الدور الشعبى لامرأة سوقية لأقصى درجة وأجادته رغم ابتعاده عن طبيعتها الشخصية وما يتوقعه منها الجمهور ولكنه أحبها وتقبلها فى هذا الدور الغريب عنها وكِدَهُوّن.  

ورغم أن اسم الفنان حسين رياض يرتبط بوجداننا بالرجل النبيل ذى الشخصية الطيبة المتسامحة إلا أنه يصدمنا عندما يلعب شخصية الخديوى فى فيلم (ألمظ وعبده الحامولى) فيقدمه كرجل شرير  يقف فى طريق قصة حب المطربة ألمظ والمغنى عبده الحمولى ويكيد لهما المؤمرات للوقيعة بينهما حتى يفوز هو بها  ضاربًا عرض الحائط بكل القيم الإنسانية من أجل ممارسة شهواته ونزواته، وهى بالتأكيد شخصية بعيدة كل البعد عما يتوقعه الجمهور من الفنان حسين رياض، ولكنه فعلها وصدقه الجمهور  ليكرر تلك الشخصية مَرّة أخرى أمام الفنانة شادية فى فيلم (لا تذكرينى) وكِدَهُوّن.. وعندما نكون بصدد دور كوميدى خفيف الظل لمحاسب يهوى الطبيخ بجنون فنتوقع أن من سيقوم بهذا الدور هو الفنان عبدالمنعم إبراهيم أو فؤاد المهندس أو حتى حسن مصطفى وليس الفنان نور الدمرداش الذى اعتاد تقديم دور الشرير ثقيل الظل كما سبق أن قدمه فى فيلم (شارع الحب)، ولكن المخرج نيازى مصطفى كان له رأى آخر واقتنع بأن نور الدمرداش يستطيع أن يُضحك الجمهور ربما للمرّة الأولى والأخيرة، ولكنه فعلها وجعلنا نضحك من قلوبنا عندما نشاهده يتورط فى خناقة وسط المجاميع فى الاستوديو ليصاب بالعديد من الإصابات بالخطأ فيثير ضحكات الجمهور فى فيلم (صغيرة على الحب) أمام السندريلا سعاد حسنى وكِدَهُوّن.. ولعل أسوأ ترشيح صادم كان من نصيب الفنانة مديحة يسرى فى فيلم (اعتراف) أمام الفنانة فاتن حمامة وإخراج سعد عرفة؛ حيث قدمت دور فتاة ليل محترفة اعتادت اصطياد زبائنها من الشارع حيث تتقدم نحو ضحيتها بخطوات مترنحة وفى يدها سيجارة غير مشتعلة لتطلب منه بلهجة ذات مغرى؛ «تسمح تولع لى؟» ورغم إجادتها للدور إلا أن الجمهور رفضها تمامًا فى مثل هذه النوعية من الشخصيات الدرامية ولم تعد مديحة يسرى أبدًا إلى تقديم مثل هذه الأدوار بل اعتبرته سقطة فى مشوارها الفنى وكِدَهُوّن.. وعندما نفكر بمن ستقوم بدور سيدة صارمة جدًا ومسئولة عن إدارة إحدى المؤسّسات الحكومية تنجح فى رفع كفاءة العمل بالمؤسّسة فبالتأكيد أن نذهب إلى دلوعة الشاشة صاحبة الصوت الشجى الجميل شادية، ولكن الأوقع أن تقدم هذا الدور شخصية أقرب للفنانة مديحة يسرى أو لبنى عبدالعزيز ولكن المخرج المبدع فطين عبدالوهاب اختار الترشيح الصادم للجمهور وقدم شادية فى دور غريب عن شخصيتها، ولكنها أجادت تقديمها فيما يشبه السهل الممتنع لسيدة عاملة ذات ملامح جادة لا تهتم إطلاقًا بأنوثتها بل تتعمد إخفاء جمالها خلف نظارة طبية وملابس حشمة وقورة تصلح لمسنة منها للدلوعة الشابة، ولكن شادية المغامرة بطبعها قد اعتادت فى تلك الفترة على أن تصدم جمهورها بأدوار متنوعة وغير متوقعة منها إطلاقًا كدور فؤادة تلك الشخصية الملحمية العنيدة وكأنها خرجت للتو من كتاب الأساطير لتحمل ملامح شادية بنظرتها العنيدة المليئة بالعند والتحدى وفى نفس الوقت بالمحبة لعتريس رغم رفضها الكامل لأسلوب حياته وظلمه لأهل قريتها، ولكن المخرج حسين كمال رأى فيها ما لم يره مخرج قبله فكانت أسطورة فؤاد تلك الشخصية المنحوتة من القصص الشعبية والتى تحمل فى طياتها العديد من المتناقضات والرموز لتتحول معها الفنانة شادية من دلوعة رقيقة لأسطورة سينمائية فى وجدان المصريين ورمز للمقاومة والقوة والتحدى فى وجه كل ظالم.. وكِدَهُوّن تحولت ترشيحات غير متوقعة وصادمة للجمهور إلى بصمات فنية مضيئة فى تاريخ السينما المصرية وعلامات لا تُنسَى فى حياة مبدعيها.