
حسن عيسى
كدهوّن!.. المشخصاتى
عشتُ طفولتى كلها لا أعرف اسمَه الحقيقى ولكنه ارتبط عندى بشخصية «أبو جهل» التى قدّمها فى فيلم (هجرة الرسول) بملامحه الغليظة وحواجب كثيفة وصوت أجَشّ وقسوة بلا حدود ليتحوّل مع الوقت لنموذج لشكل الكُفَّار فى السينما المصرية فى مخيلة الجمهور فى ذلك الوقت حتى أعتقد أن هذه هى ملامح الكفار عمومًا واعتقدتُ أنا بشكل شخصى أن هذا هو وجه «أبو جهل» الحقيقى حتى إنه ارتبط بداخلى لفترة طويلة الفنان «عدلى كاسب» بتلك الشخصية البغيضة المخيفة وبجملته الشهيرة فى الفيلم (اليوم خمر ونساء وغدًا نقتل الأعداء)، فنراه يشرب الخمر ويصاحب الغوانى والجاريات وبَعدها مباشرة يتفنن فى تعذيب المؤمنين بأبشع وسائل التعذيب وكأنه شرير حقيقى وليس مجرد ممثل يتقمّص شخصية كافر يعادى الإسلام والمسلمين فى الفيلم وكِدَهُوَّن..
مع الوقت والنضج بدأتُ أتعرَّف عليه أكثر وأعرف اسمَه الحقيقى وأنسى شخصية «أبو جهل» الذى قدمها ببراعة واكتشفتُ موهبته المتفردة فى فن التقمص والتشخيص جعلته يقدم أدوارًا كثيرة متنوعة ومختلفة تمامًا عن شخصية «أبو جهل» بمنتهى السلاسة والعفوية، ولعل دوره فى فيلم (أم العروسة) كان بداية إدراكى لحجم موهبته الطاغية؛ حيث قدّم لنا شخصية بسيطة وسهلة فى مَظهرها إلا أنه استطاع أن يمنحها من روحه وشخصيته ما جعلها تتوهج، ورغم صغر مساحتها؛ فإنها تركتْ بصمة واضحة مع الفنان عماد حمدى وتحيه كاريوكا فقدّم الأداء السهل الممتنع من خلال شخصية زوج خفيف الظل شره للأكل بشكل لافت للنظر وخاضع لسيطرة زوجته الصامتة دائمًا إلا أنها تحركه دائمًا بنظرة من عينيها، ولا ننسى مشهده الرائع فى الشرفة مع عماد حمدى وتقف زوجته إحسان الشريف وملك الجمل فى الخلفية وهو يكرر طلبات زوجته المستفزة وتحكماتها فى اختيار نوع الموبيليا وشروطها التعجيزية فى جهاز العروسة التى تفوق إمكانيات أسرة العروسة، فنرى الفنان عدلى كاسب يحتفظ دائمًا بابتسامة ودودة وهو يكرر بعد كل طلب (دى أوامر السّت) ويعود فيكرر فى براءة الأطفال (السّت عايزة كده) ثم يطلق ضحكة قصيرة وكأنها اعتذار مبطن عن طلبات السّت زوجته مما أضاف للمشهد خفة ظل رغم قسوته فى الواقع وكِدَهُوَّن..
يعود الفنان عدلى كاسب لأدوار الشر المطلق أحادى الجانب فى فيلم (المراهقات) مع الفنانة عزيزة حلمى والفنانة زيزى مصطفى فيقدم شخصية الأب حاد الطباع قاسى القلب المدمن للخمور الشرس الذى لا يتردد فى إيذاء أقرب الأقرباء بدءًا من زوجته حتى ابنه الوحيد الذى يضربه بالحزام بمنتهى الجبروت لمجرد أنه عارَض إرادته بل ويتسبب فى وفاة حبيبة ابنه بسبب رفضه ارتباطهما فتقمص عدلى كاسب الشخصية بمهارة وحنكة كبيرة تجعل المُشاهد يكره هذا الرجل المفرط فى القسوة غير المبررة ولكنه قدّمها باحتراف يُحسَد عليه ربما يجعل المُشاهد لا يصدّق أن هذا الممثل هو نفسه الذى قدّم شخصية الخال الساذج ضعيف الشخصية فى الفيلم الكوميدى (العريس يصل غدًا)، وأيضًا شخصية رئيس التحرير فى فيلم (سر طاقية الإخفاء) أمام عبدالمنعم إبراهيم.. وكِدَهُوَّن.
اقتنع المُشاهد بصدق أداء عدلى كاسب فى كل مرّة يتلون فيها بأداء مختلف وبشخصيات متناقضة وكِدَهُوَّن.. ويتحول لشخصية الجزار العنيف ذى الشخصية الإجرامية الذى يسيطر على الحارة ويفرض سطوته عليها حتى بات الجميع يتجنبوا معارضته أو مناقشته خوفًا من بطشه وجبروته.. وهكذا يتحول عدلى كاسب فى فيلم (السفيرة عزيزة) لرمز من رموز الشر ومحرك أساسى للأحداث حتى فى المَشاهد التى لا يظهر فيها نجد الجميع يتحدث عنه وكأنه الغائب الحاضر.. ولعل من ذكاء عدلى كاسب أنه قدّم تلك الشخصية من دون افتعال أو مبالغة واكتفى فى مَشاهد كثيرة بنظرة عينيه الحادة الفاحصة الماحصة لمن يقف أمامه وكأنها تهديد مستتر لما هو أبشع وأخطر ولم يلجأ إلى الصوت العالى إلا فى مَشاهد محددة للضرورة الدرامية فقط ولم يسهب فى الأداء السطحى المباشر لشخصية الشرير كما اعتدنا عليها فى العديد من الأعمال ولكنه احتفظ بهامش إنسانى صغير فى شخصيته كسعادته بقدوم طفله الوليد أو بحُرية على أداء الواجب يوم صبحية أخته السفيرة عزيزة ونلاحظ فى هذا المَشهد بالذات تحوُّل أدائه مع شكرى سرحان من الشدة إلى اللين ومن العداوة للمَحبة بحُكم النَّسَب الجديد وحتى بعد خروجه من السجن واشتباك مع شكرى سرحان وعبدالمنعم إبراهيم فى خناقة بالسلاح الأبيض بينما عبدالمنعم إبراهيم يصرخ (الغوث.. الغوث) مما يثير الضحكات رغم سكينة عدلى كاسب التى تكاد تقترب من رقبته ويستمر فى جبروته فى الفيلم حتى نفاجأ به يضرب سعاد حسنى بقلم على وجهها بمنتهى القسوة وبلا رحمة وكأنه فعلاً جزار بنى آدمين لا يتردد فى ذبح كل من يختلف معه أو يعارضه وكِدَهُوَّن.. وكعادته يتحول من شخصية لأخرى بمنتهى المرونة واللياقة، فيقدم دور البطولة أمام الفنانة فاتن حمامة فى فيلم (شىء فى حياتى)؛ حيث لعب دور زوجها الطيب المُحب لها ولأسرته فى سلاسة وهدوء دون أن يهتز أو يتوتر بوجوده بجوار أسطورة كفاتن حمامة، وبالعكس نجده يقدم دورًا من أفضل أدواره على الإطلاق على الشاشة الفضية لحرصة على تقديم السهل الممتنع فى شخصية محايدة بلا ملامح درامية واضحة تبرز قدرات الممثل التمثيلية ولكنها على العكس قد تثير مخاوف بعض الممثلين لأنها شخصية سطحية تعيش على وتيرة واحدة هادئة مرحة بسيطة يثق فى زوجته ثقة عمياء رغم افتقادها للرومانسية فى علاقتهما الخاصة إلا أنه استطاع أن يكسب تعاطف الجمهور معه رغم أنه دخل فى منافسة مباشرة ووسامة ورشاقة الفنان إيهاب نافع فى صراعهما على قلب الزوجة الحائرة بينهما.. وكِدَهُوَّن لعب دورًا مشابهًا لتلك الشخصية فى فيلم (لقاء فى الغروب) أمام الفنانة مريم فخر الدين والفنان رشدى أباظة فقدم شخصية ودودة لزوج طيب لدرجة السذاجة يعشق الصيد ويهمل مَشاعر زوجته رغم حنانه الطاغى عليها وعلى ابنه الوحيد إلا أنه يترك زوجته فريسة سهلة لأى صائد محترف ولكنك كمُشاهد لا تملك غير أن تحبه وتتعاطف معه وتعشق نظرته البريئة الطيبة بعكس نظرته الحادة الشريرة كجزار فى فيلم (السفيرة عزيزة).. وكِدَهُوَّن نجد عدلى كاسب يقدم دروسًا فى فن التشخيص والتقمص من دون دعاية أو تقدير فنى يستحقه، فكان من الفنانين القلائل جدًا فى السينما المصرية الذين استطاعوا أن يغوصوا داخل كل شخصية درامية يقدمونها على الشاشة القضية.. فكان يصنع بنفسه مفرداتها وتفاصيلها الصغيرة التى تشكل فى مجموعها ملامح الشخصية الدرامية ويضيف لها من روحه وشخصيته ليحولها من شخصية مكتوبة على الورق لحالة نابضة بالحياة والحيوية والفن سواء كانت شخصية شريرة أو طيبة بصرف النظر عن حجم الدور ومساحته إلا أنه دائمًا ما يترك بصمته الخاصة على كل شخصياته الدرامية ليستحق عن جدارة لقب «المشخصاتى».