
هناء فتحى
عكس الاتجاه.. حكاية حب «جو» و«إيرما جارسيا»
كالغريق الذى يتشبث بـ(قَشّة) تحولت بوصلة المواطن الأمريكى وانشغل بأجمل قصة حب عاشها زوجان مَيّتان على أرض أمريكية، وتناسى المواطن مؤقتًا ما وصل إليه حاله من إفقار وبطالة -بعد عِزّ- ومرض يتفشى ولا يختفى، وانقسام ورعب من مجهول قادم لا محالة أوصله إليه «بايدن» ومؤسسات الحكم بدق إسفين الحرب الروسية الأوكرانية والتى ما إن أشعلتها أمريكا حتى كانت أول من اكتوت بلظاها.
فى الحادثة الإرهابية الأمريكية الأخيرة والتى قتل فيها مواطن مراهق إنجليزى الأصل 19 تلميذًا أمريكيًا مكسيكى الأصل ومعهم اثنان من المعلمين بمدرسة ابتدائية ببلدة (يوفالدى) بولاية تكساس، الجريمة التى نفذها فتى أبيض عمره 18 عامًا، وهو أحد أعضاء جماعة اليمين الشعبوى، جماعة الخلايا النائمة والتى ظهرت قبل عامين باقتحام الكابيتول وفعلت ما فعلت حزنًا على سقوط سيدهم «ترامب» فى الانتخابات الرئاسية 2020.
المراهق الذى بيّتَ النية وعَمّر البندقية واقتحم فصلًا أثناء الحِصّة ونظر فى عيون الصغار وقال لهم: إنكم ميتون.. وسدد الفوهة بعناية على مواطنين ليسوا من بنى جلدته ممن لا يشبهون لونه ولا عِرقه ولا أصوله ولا لهجته، من الذين يعتبرهم القاتل وعصبته محتلين لبلد ليس هو ولا أهله ولا جدوده الشعبويين كانوا أصحابها، لكنه فعل ما فعله جدوده الأقدمين فى الهندى الأحمر صاحب البلد.
انشغلت أمريكا كلها عن بكرة أبيها بالحادثة الإجرامية وانقسم الانشغال على أمرين:
1 -فشل الرؤساء جميعهم وكذا فشل الحكومات الأمريكية المتعاقبة فى السيطرة على سوق إنتاج بيع السلاح للمواطنين وللدول المتنازعة، إذ أن شركات السلاح الأمريكية وليس الرئيس هى من تتحكم فى حجم الصناعة والبيع، ورأس المال المجنون النازى العنصرى لا يعنيه موت بنى وطنه بل يعنيه نسبة أرباحه من الموت.
وكأن الولايات الأمريكية الشمالية والتى لم تردعها 4 سنواتٍ من الحرب الأهلية الطاحنة، فكان ما قبل العام 1865 مثل ما بعد هذا العام، وكان ما قبل «إبرام» لنكن مثل ما بعد «إبرام لنكن»، فكان أن قالت العنصرية والهمجية والشعبوية الأمريكية للأفارقة السود والصفر الآسيويين وللسُمر اللاتينيين: بِلّوا الدستور واشربوا ميته!
2 - من بين كل هذا العبث والركام، خرجت من الطين الأمريكى العَطِن وردةٌ فوّاحةٌ، خرجت من برك دماء قتلى مدرسة تكساس قصة حب حية من قلب عاشقيّن كتبا بموتهما تاريخًا آخر للبلاد التى بلا قلب.. كان من بين القتلى الـ 21 مُدرّسة من أصل لاتينى تُدعى «إيرما جارسيا» وهى زوجة لـ«جو» والتى ستصبح حكاية موتهما قصة أمريكية حديثة خالدة، ففور دفنه لزوجته ووضع الزهور على قبرها تلبّسه حزن لا مثيل له فكان أن فارق الحياة بعد 48 يومًا من دفنها فيما يعرّفه العلماء بـ(متلازمة كسر القلب).
قبل عدة أيام من تاريخ هذه العملية الإرهابية الأمريكية، زَحزَح المواطنُ الأمريكى كل الاستقطاب الذى يعيشه منذ حقبة «ترامب» ما بين الحزبين الكبيرين، ونَحّى جانبًا شبح نقص الوقود والمواد الغذائية والبطالة التى خيمت على الولايات الخمسين إثر الحرب الروسية الأوكرانية التى صنعها وأججها الساسة الأمريكان وتجار السلاح فى البلاد، زحزح كل هذا جانبا وراح يحتفى مع الصحف والمواقع والقنوات التليفزيونية بقصة الحب العظيمة التى كُتِبَت بدماء الموتى.
ما بين قصة حب وموت «إيرما وجو جارسيا» اللذان عشقا بعضهما وتزوجا وهما فى المرحلة الثانوية وعاشا 24 عامًا وماتا معًا، وما بين قصة نشأة وتاريخ أمريكا الشمالية سنعرف أن حكاية «إيرما وجو» قصة حب عظيمة لا تنتمى لبلد رأسمالى فج، تبدو وكأنها لم تَدُرْ فوق أرض شمالية أمريكية بل فوق أرض أمريكية جنوبية، هى حكاية حب لاتينية بامتياز، كتلك التى خلدها روائيون لاتينيون كُثُر، هى رواية حب عظيمة كتلك التى هام بها وشَغِفَ بها «ماركيز» -مع اختلاف السردية والتفاصيل القدرية- عن بطليه «فلورنتينو» و«فيرمينا» فى روايته (الحب فى زمن الكوليرا) البطلان اللذان لم يبرح الحب قلبيهما منذ الصغر حتى وهن العظم وتشقق الجلد وفَصَدَت الروح.