الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
صناعة حروب الطعام والجوع ورفع الفائدة والتضخم من أجل إسقاط روسيا: الحرب الأوكرانية أسقطت مفاهيم الحضارة الغربية

صناعة حروب الطعام والجوع ورفع الفائدة والتضخم من أجل إسقاط روسيا: الحرب الأوكرانية أسقطت مفاهيم الحضارة الغربية

صنعت الحرب الأوكرانية سلسلة تفاعلات لم تنتهِ حتى الآن، ما بين الآثار المباشرة للعمليات العسكرية فى أوروبا الشرقية، أو سلسلة العقوبات الغربية على روسيا، وما تلاها من موجة تضخم كبرى وخلل فى الأسواق المالية والبورصة حول العالم، وصولًا إلى أزمة فى سلاسل إمداد الطاقة والطعام وعموم التجارة الدولية.



 

لكن هذا المَشهد الذى يبدو فى بعض الأحيان ارتجاليًا وعشوائيًا، وفى أحيان اخرى شديد الترتيب، تقف شبكة من المستفيدين والمنتفعين، وحسابات سياسية معقدة جرت فى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وروسيا كلٍّ على حدة، وفى خطابه الأول عقب اندلاع الحرب، أوضح الرئيس الأمريكى چو بايدن أن بلاده نسّقت مع ثلثى دول العالم منذ ستة أشهُر على الأقل من أجل سَن عقوبات منتظرة على روسيا حال اندلاع الحرب.

إن شَن حرب الإلغاء أو حرب إلغاء روسيا يُعد بندًا رئيسيًا فى أچندة إدارة چو بايدن منذ أن تسلمت السُّلطة فى يناير 2021، وعادة ما تقوم الإدارات الأمريكية الجديدة باتخاذ فترة انتقالية ما بين ستة أشهُر إلى عام لترتيب المشهد أمريكيًا وفى بعض الأحيان دوليًا من أجل تدشين الحقبة الجديدة.

وفى حالة إدارة چو بايدن؛ فإن الولايات المتحدة سعت إلى تهدئة الشرق الأوسط ونقل قواعد اللعبة إلى أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى لمناوءة روسيا، والشرق الأقصى لمناوءة الصين، وشحن أوكرانيا بجميع وسائل الاستفزاز التى تجعل التدخل العسكرى الروسى حتميًا.

وجرت اجتماعات سرّيّة بالغة التكثيف فى أمريكا وأوروبا وكندا وأستراليا من أجل بحث طبيعة العقوبات الغربية المنتظرة، من أجل محو روسيا من المسرح الدولى؛ حيث المطلوب ليس هزيمة عسكرية تقليدية أو مجرد الدفاع عن أوكرانيا؛ ولكن إلغاء تأثير روسيا بشكل حاسم ونهائى فى التاريخ الإنسانى.

ولعل هذا ما يفسر العقوبات التى طالت الأدب والفن الروسى، والرياضة واللغة الروسية، وحتى فصائل الحيوانات الروسية، إلى جانب مصادرة أغلب الممتلكات الروسية خارج جمهورية روسيا الاتحادية، ولم تكن المُصادرة جارية بحق الأصول التى تملكها الدولة الروسية فحسب؛ ولكن حتى الأصول التى يملكها القطاع الخاص أو الأفراد الروسيون، جرى تجميدها ثم التضييق عليها ومصادرتها تحت الادعاء أنها تنتمى إلى رجال أعمال مقربين من الكرملين.

إن عراقة الأدب الروسى، والتنوير الروسى عمومًا، مَثل دائمًا عقدة للأمريكان فى سنوات الحرب الباردة، كذلك تأثير الرياضة الروسية والفن الروسى على القارة الأوروبية، وهكذا فإن الغرب حينما اجتمع لمعاقبة روسيا، قرر أولًا حسم الحرب الثقافية والفكرية مع روسيا، عبر إلغاء التواجد الروسى فى تلك المحافل، حتى لو أدى ذلك إلى تعرية ادعاء الحداثة الغربية، التى طالما ادعت الفصل بين السياسة والرياضة، وبين السياسة والفن، وبين السياسة والثقافة.

ولكن على ضوء العقوبات الغربية على الفن والرياضة والأدب الروسى، يتضح أن كل هذا مسيس تمامًا، ويتم استخدامه وتوظيفه سياسيًا، وأن الوصول إلى منصات الجوائز العالمية الصحفية والأدبية والثقافية، ومهرجانات كان وبرلين وفينيسيا والأوسكار وهوليوود وجولدن جلوب، هى دروب سياسية بحتة ولها أچندات سياسية بحتة، والأمر بعيد كل البعد عن قيمة هذا الإبداع أو فكرة أنه يليق بمصطلح الإبداع من أساسه.

البند الثانى فى حرب إلغاء روسيا، هو مصادرة المال الروسى بالكامل؛ خصوصًا أن التجربة الاقتصادية لـ فلاديمير بوتين، وفّرت لروسيا تمددًا اقتصاديًا خارج المجال الحيوى الروسى، وجعلت موسكو تمتلك عشرات الشركات والأصول والأسهم فى أوروبا وأمريكا، ومع احتياج بعض دوائر الغرب لأموال روسيا سواء المملوكة للدولة أو الممتلكات الخاصة، تم سَحْقُ قيم ومبادئ احترام الملكية الخاصة وقوانين التجارة الحرة، وبدأت عملية مصادرة مشبوهة للأموال الروسية فى أوروبا وأمريكا على النمط الشيوعى فى دول رأسمالية ليبرالية، وسقطت كل ديباجات احترام الغرب للقانون الدولى.

كما تقرر انسحاب الغرب من أفغانستان فى سبتمبر 2021 والعراق فى ديسمبر 2021، حتى لا يكون هناك تواجُد عسكرى غربى؛ خصوصًا أمريكى فى مناطق يسهل على الموالين لروسيا أن يستهدفوا فيها الجيش الأمريكى، فالانسحاب من أفغانستان والعراق لم يكن سوى التمهيد لتركز الجهد العسكرى الغربى على أوكرانيا؛ خصوصًا أن حلف الناتو كان يدير العمليات العسكرية الغربية فى أفغانستان.

بالإضافة إلى حظر تدفق الاستثمار الأجنبى وشراء التكنولوچيا وشرائح الكمبيوتر والاتصالات ومنتجات الزراعة والطعام التى تحتاجها روسيا، فى هدم صريح لمبادئ الاقتصاد حول حرية الاستثمار الأجنبى النيوليبرالية.

لقد قرر الغرب أن يهدم جميع قيمه بنفسه من أجل الخلاص من المنافسة الروسية، أو خطة بوتين لتأسيس العولمة الروسية المضادة للعولمة الغربية أو الأمريكية فى الأساس.

ولكن أخطر ما جرى فى تلك الاجتماعات، التى كشفت عنها وكالة أسوشيتد برس فى تقرير نشر فى مارس 2022 عن خطة سرّيّة «أمريكية- أوروبية» لحصار روسيا اقتصاديًا جرت قبل الحرب عبر اجتماعات فى بروكسل وباريس ولندن وبرلين، أن هنالك شبكات مصالح غربية كانت تسعى إلى تحقيق أكبر مكاسب من العقوبات على روسيا بغض النظر عن تأثير تلك العقوبات على الغرب، بعيدًا عن القيمة الثقافية والفكرية من تفكيك نظريات الحضارة الغربية؛ فإن التأثير ذهب إلى الاقتصاد والتجارة الأوروبية والأمريكية، وهو ما سعت إليه شبكات المصالح الغربية بدم بارد.

إذ إن حظر القمح والنفط والغاز والسلاح والذَّرة والزيت والفحم الروسى، وكذا أغلب المنتجات الروسية بما فى ذلك إمداد بعض دول البلطيق بالكهرباء والمياه، يعنى بالضرورة أن يتعاقد المتضرر مع البديل الأوروبى والأمريكى للمنتج الروسى.

كما أن نقص تلك السلع وبدء حرب الجوع وحرب الغذاء سوف يرفع سعرها بشكل غير مسبوق، وهكذا فإن البديل الأوروبى والأمريكى لن يبيع بالسعر العادى قبل الحرب الأوكرانية ولكن بزيادة سوف تصل إلى 50 % على الأقل ومن المتوقع أن تصل إلى 100 %.

وإذا كانت أزمة التضخم العالمى قد بدأت فى أكتوبر 2021، باعتبارها التأثير الاقتصادى المتوقع لجائحة «كورونا» التى بدأت فى يناير 2021، ولكن هنالك إشارات إلى أن دوائر اقتصادية ذهبت إلى فكرة أن العالم بحاجة إلى مزيد من التضخم الاقتصادى.

إن ديون الولايات المتحدة الأمريكية تصل إلى 20 تريليون دولار على هيئة أذون بنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى، ولقد عمد الرئيس السابق دونالد ترامب إلى الوصول بنسبة الفائدة إلى أقل معدل لها منذ عقود، وهو ما أدى لخسائر باهظة لشبكات المصالح الغربية التى تستثمر فى الديون الأمريكية، وبالتالى فإن رفع الفائدة وبشكل هستيرى لن يتم إلا بحدوث أزمة تضخم أمريكية وعالمية.

كل 0.5 % زيادة فى سعر الفائدة عبر الفيدرالى الأمريكى، تعنى مكاسب سنوية تصل إلى 400 مليار دولار لمستثمرى أذون الخزانة الأمريكية، إلى جانب مكاسب أخرى فى الأسواق الأمريكية إضافة إلى إجبار البنوك المركزية فى بريطانيا وألمانيا وصولًا إلى البنك الأوروبى الخاص بمؤسّسات الاتحاد الأوروبى على رفع الفائدة، كل ذلك يصب فى مصلحة خزائن أباطرة العولمة الأمريكية.

المحلل الاقتصادى كارل سميث كتب تقريرًا بوكالة بلومبيرچ يوم 11 أكتوبر 2021 بعنوان «أمريكا بحاجة إلى أزمة تضخم أعلى وأطول فترة مما نحن الآن» America Needs Higher, Longer-Lasting Inflation يتحدث عن حاجة اقتصاد أمريكا لأزمة التضخم العالمى التى صنعتها العقوبات الغربية على روسيا!

وبالفعل مع بدء الحرب الأوكرانية، بدأ الفيدرالى الأمريكى فى خطة رفع الفائدة على ست مرات، ما بين عامَى 2022 و2023، ومع أول ضربة فحسب، بدأ العالم أجمع يئن من التأثير الاقتصادى.

المسار العسكرى الذى بدأ فى أوكرانيا فى 24 فبراير 2022 لم يجرِ كما خطط  له بوتين، واضطر بوتين لإعلان بدء المرحلة الثانية من الحرب فى 1 إبريل 2022، شملت إبعاد جهاز المخابرات العامة وجهاز أمن الدولة الفيدرالى عن سير العمليات العسكرية، وإسناد المهمة بالكامل لإدارة المخابرات الحربية الروسية وتحميل المخابرات العامة المسئولية الكاملة عن عدم توقع أو فهم قوة الميليشيات الراديكالية الأوكرانية التى تصدت للجيش الروسى وفجّرت المفاجأة التى نعرفها اليوم بـ«المقاومة الأوكرانية»، وهى المفاجأة التى كانت من نصيب الأمريكان أنفسهم قبل الروس، وبعد كان كانت المخابرات المركزية الأمريكية تتوقع سقوط كييف خلال ثلاثة أسابيع من بدء الحرب، أعلن الجيش الروسى انسحابه من محيط العاصمة الروسية مع بدء المرحلة الثانية من الحرب التى تركزت على حسم معركة فصل الساحل الأوكرانى عن الداخل الأوكرانى وتحديدًا بحر آزوف ثم البحر الأسود، وفتح خط برّى ما بين الغرب الروسى والشرق الأوكرانى وصولًا إلى جمهورية القرم الروسية فى الجنوب الأوكرانى قبل الوصول إلى الحدود «الأوكرانية- المولدوفية» وربط هذا الخط البرى مع جمهورية ترانسنيستريا الانفصالية الواقعة فى شرق مولدوفا.

ولكن التعثر الروسى فى الشق الحربى رافقه تفوق روسى فى الشق الاقتصادى؛ حيث يدير بوتين الملف الاقتصادى بنفسه على ضوء حصوله على درجة الدكتوراه فى رسالة أكاديمية بعنوان «التخطيط الاستراتيچى للموارد الإقليمية فى ظل تكوين علاقات السوق».

إن الاستعداد الروسى للمواجهة الكبرى والانتقال من الدفاع للهجوم كان دأب بوتين منذ توليه السُّلطة فى روسيا يوم 31 ديسمبر 1999؛ حيث حوّل روسيا إلى إمبراطورية فى عالم الغاز والنفط والفحم والكهرباء، إضافة إلى أكثر من 600 مليار دولار احتياطى نقدى بحوذة الحكومة الروسية، ورفع مستوى الروبل الروسى، وهكذا فإنه ما أن بدأت العقوبات الغربية على روسيا حتى كان بوتين جاهزًا بعدد من القرارات المضادة، ما بين التبادل التجارى مع الصين باليوان الصينى، أو بيع الغاز الروسى إلى أوروبا بالروبل الروسى، واستطاع الاقتصاد الروسى والروبل الروسى الصمود خلال الأشهُر الأولى من الحرب أمام العقوبات الغربية بشكل فاجأ الأمريكان والأوروبيين على حد سواء.

التعثر الاقتصادى صادف الغرب أكثر من روسيا، إذ تفاجأ الغرب بعزوف السعودية والإمارات عن التعاون فى ملف زيادة إنتاج النفط عوضًا عن حظر استيراد النفط الروسى، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع أسعار برميل النفط ليلامس الــ 120 دولارًا للبرميل، وقد يظن البعض أن ارتفاع سعر البرميل لصالح شبكات المصالح الغربية وهو أمرٌ غير صحيح، إذ تنظر تلك الشبكات إلى أن سعر البرميل دون الـ 100 دولار أو 110 دولارات على أقصى تقدير هو الأفضل، والسبب فى ذلك أن زيادة سعر برميل النفط تذهب لصالح روسيا وبالتالى فلا فائدة من العقوبات الاقتصادية على روسيا إذا ما ارتفع سعر برميل النفط وعوّض تلك الخسائر.

وكانت معضلة ارتفاع سعر برميل النفط هى هاجس البيت الأبيض فى الأشهُر الأخيرة من العام 2021، وقد قرر بايدن الإفراج عن الاحتياطى النفطى الأمريكى لخفض سعر برميل النفط دوليًا لكبح المكاسب الروسية فى هذا الملف، ولمّا فشلت جميع الإجراءات الأمريكية التقليدية، فجأة أتت النجدة عبر متحور «أوميكرون» الذى فرمل هذا الصعود وأبطأ سلاسل الإمداد ودعم صعود التضخم عالميًا!

ولكن الجنون استمر، رُغم بدء وجود أزمة فى السلع الغذائية فى الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا على وجه التحديد، واندلاع احتجاجات شعبية فى إسبانيا يوم 19 مارس 2022 على ضوء نقص الوقود، ولكن شبكات المصالح الغربية وعدت حكومات الغرب بدعمهم للاستمرار فى الحُكم مقابل استمرار لعبة عَضّ الأصابع مع روسيا.

فلا مشكلة لشبكات العولمة النيوليبرالية فى أن يعانى الإنسان الغربى، أو حتى تسقط حكومات الغرب، فالحكومة التى تسقط سوف تأتى بدلًا منها حكومة أخرى لديها نفس القابلية للتعاون مع شبكات المصالح من أجل استمرار اللعبة بغض النظر عن حقوق الإنسان الغربى، فالهدف الأساسى هو استمرار مكاسب تلك الشبكات وفى الوقت نفسه القضاء على المنافس الروسى هذه المرة للأبد بعد أن فشلوا فى الإجهاز على المنافس السوفيتى عقب انهياره.

كما أن المبالغة فى الجنون وضرب الاقتصاد العالمى وهدم المعبد على رؤوس الشعوب فى الغرب قبل الشرق من أجل التخلص من روسيا؛ هو رسالة صريحة من الغرب إلى «العدو التالى»، ألا وهو الصين؛ بأن الغرب لن يهمه انهيار قيم التحضر الغربى، أو انهيار الدولار واليورو، أو حروب الجوع والنفط والغاز والطعام، فى مقابل التخلص من المنافس العالمى؛ بل إن شبكات المصالح الغربية سوف تجد لها مكسبًا فى هذا الانهيار، ولاحقًا عقب التخلص من المنافس الروسى، ثم المنافس الصينى، سوف تعيد بناء الاقتصاد العالمى وهندسة التجارة الدولية بما يتناسب مع مصالحها فحسب.

إن أزمة الغذاء العالمية التى تلوح فى الأفق، سوف تجعل الطعام حصريًا فى يد شبكات المصالح الغربية، أو الدولة الوطنية القوية مثل مصر، وفى هذا المضمار فإن شبكات العولمة الغربية سوف تتحكم فى الدول التى ليس لديها مشاريع غذائية أو تنموية، ويصبح الغرب هو الذى يحدد مَن الذى يستحق الغذاء من عدمه، مَن هو الذى يستحق الطاقة من عدمه.

إن هذه الفيدرالية العالمية هى أساس فكرة العولمة، وأن تخسر الدول استقلالها الوطنى مقابل سيادة نموذجة اللا دولة مقابل نموذج دولة العولمة.

  صعود الحركة الوطنية والتيار القومى

إن الرهان الوحيد لكسر شبكات المصالح الغربية لن يكون بانتصار روسيا أو حتى الصين، ولكن انتصار الحركات الوطنية القومية فى أوروبا وأمريكا، وتحرير القرار الوطنى لهذه الدول من قبضة العولمة الأمريكية وشبكات المصالح الغربية، فالدولة الوطنية هى الحل، وسنوات حُكم القوميين للولايات المتحدة فى زمن إدارة دونالد ترامب هى أكثر سنوات العالم هدوءًا منذ انتهاء الحرب الباردة، وأكثر سنوات الرخاء الاقتصادى للعالم أجمع منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ويكفى أن ننظر إلى الأرقام الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية على المستوى الدولى، ومصر على مستوى الأسواق الناشئة فى تلك السنوات، حتى ندرك تلك الحقيقة.

 استهداف مصر والأسواق الناشئة

إن الغرب وهو يسارع إلى هدم مَعبد الاقتصاد الدولى فوق رؤوس الجميع على أمل تحقيق مكاسب سرّيّة تتحول إلى مكاسب علنية عقب هزيمة روسيا ثم الصين، يسعى أيضًا إلى فرملة وإبادة التجارب الاقتصادية المهمة مثل التجربة المصرية، فالهدف هو إبادة الأسواق الاقتصادية الناشئة التى صعدت فى سنوات ترامب الأربع، ومصر هى المستهدف الأول فى هذه اللعبة.

لذا فإن لعبة ضرب الاقتصاد وحروب الجوع والغذاء وسلاسل الإمداد ورفع الفائدة وسحب الاستثمار الأجنبى، وأزمة التضخم العالمى التى تضرب أمريكا نفسها قبل أى دولة أخرى، إضافة إلى بعض فعاليات حرب العملات الثالثة التى اندلعت عام 2008، بين الدولار واليورو والجنيه الاسترلينى والدولار الكندى من جهة، واليوان والروبل والين اليابانى من جهة أخرى، كلها مخططات بها جزء رئيسى متعلق بمصر وكيفية إسقاط تلك التجربة حتى لا تصبح منافسًا قويًا فى المستقبل لتجارب اقتصادية عتيقة فى أوروبا.  امتيازات أمريكية مقابل دعم أوكرانيا

ثم إن الولايات المتحدة الأمريكية ليست خاسرة على طول الخط من دعمها لأوكرانيا كما تذهب بعض القراءات، إذ إن أغلب المساعدات التى تقدمها أمريكا، تحصل مقابلها على امتيازات وسلع أوكرانية فورية فى مجال الزراعة والغذاء والثروات الطبيعية بأقل من نصف ثمنها فى السوق العالمية، وأكثر أهمية للولايات المتحدة الأمريكية مستقبلًا، وحينما تنتهى الحرب سوف يكون هنالك واقع جديد يتمثل فى امتيازات حصرية للولايات المتحدة الأمريكية فى الأسواق والاقتصاد الأوكرانى.

 عودة كورونا

وللمفارقة فإن الصين فى بادئ العمليات العسكرية قد علا صوتها الرافض للعقوبات الغربية على روسيا، وتحدثت تقارير أمريكية عن دعم صينى سرّى لروسيا.

ولكن فجأة صمتت بكين، وخفت صوتها لدرجة أن البعض لم يلاحظ هذا الصمت المفاجئ وظنه تريثا استراتيچيًا أو مراقبة چيوسياسية للموقف فى أوروبا الشرقية وانعكاساته على الشرق الأقصى؛ ولكن الحاصل أن تلك الأيادى المجرمة التى تمتلك محابس الأوبئة فى زمن الحرب البيولوچية والأيكولوچية قد سارعت إلى ضربة جديدة، لم تكن فى ووهان - مَهْد جائحة «كورونا»- هذه المرّة، ولكن الضربة كانت أشد، وتحديدًا فى شنجهاى التى اجتاحها «كوفيد- 19» بشكل مفاجئ ومتشعب للغاية ودون تفسير واضح.

ما إن حل الأسبوع الثانى من مارس 2022 حتى راحت شنجهاى تسجل يوميًا 20 ألف حالة إصابة بالفيروس المميت، ما جعل السُّلطات الصينية تقوم بعزل المدينة فى 27 مارس 2022 عن العالم بشكل لم يحدث مع أى مقاطعة صينية منذ بدء الجائحة رسميًا فى يناير 2020، فقد تم غلق المدينة بحواجز إسمنتية وبلاستيكية ومنع دخول أو خروج أى شخص باستثناء الأطقم الطبية التى عملت على الإمكانيات المتاحة داخل شنجهاى.

وأدى ذلك إلى مشكلة فى الطعام والمياه والطاقة داخل المدينة، ما أدى إلى اندلاع انتفاضة شعبية داخل شنجهاى منتصف أبريل 2022.

السُّلطات الصينية حولت بعض المجمعات السكنية إلى مراكز للحَجْز الصحى وتم إجلاء السكان من تلك المناطق، بالإضافة إلى نصب عشرات المستشفيات المؤقتة.

وشنجهاى هى عاصمة الصين الاقتصادية، وأكبر مدينة صينية على الإطلاق، وهى المرفأ والميناء الصينى الأهم، ويبلغ عدد سكانها 24.8 مليون نسمة ما يجعلها أكبر مدن الصين من الناحية السكانية، وعُرفت المدينة منذ تأسيسها فى القرن الحادى عشر بنشاطها فى التجارة البحرية، وفى القرن التاسع عشر توافد الاحتلال البريطانى والفرنسى على المدينة طمعًا فى المكانة التجارية، وصولًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية واليابان فى القرن العشرين، وأثناء الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) التى شهدت احتلال اليابان للصين سيطرت طوكيو على المدينة، وعقب انتهاء الحرب وأمام المقاومة الصينية انسحبت بريطانيا وفرنسا وأمريكا من المدينة بحلول عام 1949.

وعقب الانفتاح الاقتصادى فى الصين نهاية سبعينيات القرن العشرين تحولت المدينة الواقعة شرق الصين إلى عاصمة الاقتصاد الصينى، وتمتلك الحصة الأكبر من صناعات الصين فى مجالات النقل البحرى والتعدين والسفن والغزل والنسيج، ما جعلها من أكبر مراكز الاقتصاد والمال والتجارة فى العالم.

وكانت الصين قد عانت من خسائر اقتصادية فادحة جراء وباء «كورونا»، وقد وبخت الصحافة الدولية الحكومة الصينية بأنها لم تعلن عن خسائرها كاملة وفقًا لمبدأ الشفافية، وفى سبتمبر 2021 أعلن رسميًا بعد تكتم شديد انهيار شركة أيفرجراند عملاق العقارات الصينية وثانى أكبر مطور عقارى فى الصين، ما جعل العالم يتخوف من تكرار أزمة الرهن العقارى الأمريكى صيف 2008 والتى تحولت إلى الأزمة الاقتصادية العالمية الشهيرة فى سبتمبر 2008.

 زمن التوحش الفائق

ما بين أجيال جديدة من كورونا يتم التمهيد لها، وربما أوبئة أكثر خطورة فى عشرية الأوبئة الذكية التى تنفذ أچندة اقتصادية لصالح شبكات بعينها فى الغرب، وأزمة اقتصادية دولية تحت عنوان التضخم سوف يتبعها أزمة اقتصادية عالمية ثانية تحت عنوان الركود، أسقط الغرب عمدًا كل مفاهيم الحضارة الغربية والحداثة الغربية التى سعى الغرب لتكريسها باعتبارها صورة عن تحضره لمدة تزيد على 200 عام.

وأثبت الغرب قبل أى طرف آخر أن كل شىء خاضع لحسابات السياسة، سواء كانت الرياضة أو الفن أو الأدب والصحافة والثقافة والفكر وحتى حقوق الحيوان، وأن العالم اليوم يعيش فى زمن التوحش الفائق، فالحضارة الغربية تآكلت والغرب بحاجة إلى عصر جديد من التنوير حتى يستطيع إنجاز فلسفة ومفهوم متحضر لعصر ما بعد الحداثة.

وإن شبكات المصالح الغربية التى تدير العولمة الأمريكية النيوليبرالية تتآمر على الغرب قبل الشرق، طالما فى ذلك انتصارًا لمصالحها الاقتصادية، وانتصارًا على المنافسين الأقوياء فى الصين وروسيا، ودول الأسواق الناشئة وعلى رأسها مصر، والقوى الاقتصادية الخليجية الكبرى وتحديدًا المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، والنمور الآسيوية مثل الهند واليابان وكوريا الجنوبية، وفى هذا الطريق المُعَبّد بمذابح الاقتصاد والجوع والعُملة ضد الإنسانية، لا يجد الغرب أدنى مشكلة فى تفجير الدول الوظيفية التى ساعدته لسنوات من أجل رسم واقع جديد، مثل تركيا وإيران وقطر، إضافة إلى ضرب فكرة الوحدة الأوروبية حتى لا يصبح الاتحاد الأوروبى منافسًا للولايات المتحدة الأمريكية، فالمطلوب أن تبقى أمريكا هى الأساس لمدة قرن آخر من الزمان بحسب مشروع القرن الأمريكى الذى تم تأسيسه فى تسعينيات القرن العشرين، وأى محاولة أوروبية للتمرد على هذه التوصية سوف تجابه بمنتهى العنف، تمامًا كما حاولوا دائمًا كبح جماح تجربة ألمانيا ما بعد انهيار سور برلين، وبريطانيا ما بعد بريكست، وفرنسا الماكرونية.