الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

فى ذكرى ميلاد «الأديب الحكاء» جمال الغيطانى صاحب الألف عام

«نعم.. الذكرى لمن كان له قلب» فما بالك بمن ضبط إيقاع دقات قلبه على حركة القاهرة وتاريخها.. هكذا تتجدد ذكرى الأديب الكبير جمال الغيطاني دائما، فهو الذي وهب عمره لتاريخ القاهرة فأصبح أحد رموزها الكبار.. مرت قبل  أيام ذكرى ميلاده الـ76 لكنه صاحب الألف عام من الحكايات ، حيث ساهم فى إحياء الكثير من النصوص العربية المنسية وإعادة اكتشاف الأدب العربى القديم بنظرة معاصرة.



رحلة الغيطانى مع الزينى بركات

لم يذهب الغيطاني إلى الماضي مرتديا ثوب المؤرخ، ولكنه فضّل بدلة الحكاء ليهب للحكايات التاريخية روحًا جديدة تعيد لها الحياة فى عصر غير عصرها.. لذلك تجاوز نصه في «الزيني بركات» استخدام التاريخ أو التراث كمصدر للتركيبات الجاهزة، لكنه قدم صياغة جديدة للتاريخ بوقائعه وأبطاله.. كما ضفر مع الحكايات التاريخية واقعه بمستجداته وفهمه لطبيعة الإنسان.

لذلك رغم مرور أكثر من نصف قرن على نشرها في العام 1971، تظل «الزينى بركات» قادرة على تجسيد كل صورها الفنية والفكرية، فضلا عن مساحات تأويلها الكثيرة لأنها ارتبطت بحكاية الوجود البشري واللحظات الإنسانية.

بدأت الحكاية بتدوين ملاحظاته عن شخصية انتهازية من العصر المملوكي، لكنه فوجئ أثناء الكتابة بتغير الموضوع وتحولت الرواية بحسب ما يقول إلى «عالم البصاصين، عن وسائل قهر الإنسان، وكيف يُوظَّف جهاز قمعي هائل لتغيير إنسان، لتحويله من إنسان نقي إلى عميل».

بهذه الطريقة قدم الغيطاني شخصية محتسب ورد ذكره فى كتاب «بدائع الزهور فى وقائع الدهور» إلى ملحمة تعبر عن شوق الإنسان الأزلي للحرية والعدل، كما قدم شخصية الديكتاتور في كل تناقضاتها كنموذج إنساني حائر لكنه في الوقت نفسه قائد يملك حلمًا يريد تحويله إلى حقيقة، سرعان ما تنتقل حيرة البطل إلينا كقراء بين كونه ممثلاً للقوة والعدل إلا أنه نموذج للظلم والرغبة في التحكم والسيطرة.

تجاوز حكاية الزيني بركات كونه شخصية تاريخية في العصر المملوكي، وأصبح انعكاسًا لفترة الستينيات وطبيعتها خصوصا أن التاريخ المملوكي لم يكن يعرف منصب كبير البصاصين الذي تخيله الغيطاني في روايته.

ويقول الغيطانى عن الزيني بركات فى أحد حواراته: «كان فى بداية حياته مكلفاً بحراسة قوافل الحج إلى أن وصل إلى أعلى المراتب، وبغض النظر عن حجم الحقيقة أو المتخيل فى رواية الزينى بركات، يشعر القارئ أنه كل حاكم أو صاحب سلطة تشكّله ملكات وقدرات خاصة، تجعل منه هذا المزيج الذى يجعل ألد وأشد أعدائه، يريد أن ينال منه، لكنه يحترمه ويشعر بضرورة وجوده، وقيمته بالحياة»

وترجمت رواية «الزينى بركات» إلى الألمانية والفرنسية عام 1985 بعد أن حققت أصداء واسعة فى وسط الدوريات الثقافية فى العالم، كما تحولت الرواية إلى مسلسل مصرى تاريخى من إخراج يحيى العلمى وبطولة أحمد بدير ونبيل الحلفاوى.

 سؤاله الدائم من الطفولة

استمد جمال الغيطاني أغلب أعماله الروائية من حكايات البشر والملوك في العصور القديمة، لكنه كان أشبه بمن يبحث عن شىء ما وسط تلك الحكايات وكتب التاريخ، كانت خبيئة الطفولة في صدره التي تدفعه للبحث وراء مصائر البشر في الماضي سؤال يشغله منذ الطفولة ولا يزال حاضرًا حتى بعد رحيله: «أين ذهب الأمس؟».

ونجد ذلك واضحًا في رواية «حكايات الخبيئة»، حيث يناقش التناقضات الموجودة فى أعماق النفس البشرية، والتناقضات التى تتصارع فى أعماق البطالة، حيث يتشابك الواقع والوهم، وتتداخل الرؤى لدرجة انعدام الرؤية عند البعض، وبموهبة كبيرة ينفذ الغيطانى إلى أعماق شخصياته كى ينبش عما هو متجذر فى أعماق الذات كما يعيد الأشياء والشخصيات إلى أحجامها الحقيقية كى لا نراها إلا كما هى فجة وعاديةً تتحرك بدوافع من الشهوة والطمع ولا تترافع عن الأهواء والغايات.

قصص الغيطاني الهاربة من التاريخ

بعد خروج الغيطاني من المعتقل بشهور، ووقوع النكسة، قرر الهروب إلى التاريخ، فوجد فيه الواقع متجسداً في هزيمة الجيش المملوكي في شمال حلب في العام 1517، وقد تجسدت أمامه المتشابهات كأن التاريخ يكرر نفسه، ليس فقط في حجم الهزيمة التي لحقت بالجيش المملوكي، بل في الظروف المؤدية إلى تلك الهزيمة أيضاً.

ويبدو أن التاريخ وحده لم يكن كافيًا أمام صدمته مما حدث فتخيل أنه عثر على مخطوط قديم في أحد مساجد الجمالية، عبارة عن شذرات من مذكرات آمر سجن المقشرة في العصر المملوكي، وكتب قصته بأسلوب يحاكي أساليب السرد القديمة في العصر المملوكي، حتى إنه عندما قدمها للنشر في جريدة «المساء»، أجازها الرقيب على أنها مخطوطة قديمة فعلاً!

كتب الغيطاني مجموعة أخرى من القصص، منها «المغول» و«هداية أهل الورى لبعض مما جرى في المقشرة» و«اتحاف الزمان بحكاية جلبى السلطان»، ليكتشف بعد ذلك أن القصص القصيرة غالباً ما تكون تمهيداً لعمل روائي كبير، ومن ثم كانت تلك القصص بمثابة خطوات مؤدية إلى روايته «الزيني بركات».

 الغربة في بلاد النفط.. ورسالة البصائر فى  المصائر

رصد الغيطاني التحولات الكبرى فى المجتمع المصرى بعد الانفتاح الاقتصادى، وأراد التعبير بدقة عما جرى للمصريين ممن حاربوا أو الذين تغربوا فى بلاد النفط في رواية «البصائر والمصائر»، ما يجعلها واحدة من أهم تجاربه الأدبية. ترجمت الرواية «البصائر  والمصائر» إلى الألمانية عام 2001 واعتبرها أستاذ علم الاجتماع والمفكر الكبير السيد يس، المغامرة الإبداعية الأهم لجمال الغيطانى.

 من التاريخ إلى الفانتازيا

بالإضافة لإسهامات الغيطاني الكبيرة في الأدب والتراث العربى خصوصا أنه صاحب العديد من  الروايات الرائعة، فإنه لم يتوقف عند ذلك فقط بل اتجه أيضا  للفانتازيا في رواية «شطح المدينة».

يقدم خلالها صراعًا فى عوالم مدينة يقودها مجموعة من البشر غير المرئيين فى أحد المراكز العلمية «جامعة»، الذين يسيرون الجماد والعباد بطرق لا يتخيلها العقل، هنا كانت أيضا القضايا العملية الواقعية حاضرة لكن ببعد أسطورى ورمزى. 

وقف الغيطاني في هذه الرواية على الخط الفاصل بين الواقع والخيال، ليقدم رؤية سياسية من الدرجة الأولى، في رواية يصفها بأنها «خيالية لدرجة الحقيقة.. وحقيقية لدرجة الخيال».

يبدو أن الغيطاني كان يلجأ للفانتازيا محملا بانتقادات كثيرة لواقعه، فيطرها في صورتها الرمزية، حيث نجد في رواية «هاتف المغيب» تجربة أخرى في الفانتازيا، ألفها بعد غزو العراق للكويت، لينتقد بعض الأوضاع السياسية بأسلوب قصصى وغير مباشر، وهي حكاية تدور حول شاب مصرى يسمع هاتفًا غريبًا يضطره للهجرة إلى الغرب فى رحلة مليئة بالعجائب والحكم وحتى أخبار الطيور.

 علاقته بأديب نوبل

في حوار معه تحدث الغيطاني عن موقف جمعه بأديب نوبل نجيب محفوظ قائلا: «ذات يوم سألنى نجيب محفوظ عن سبب حزنى، فقلت له: لم أكتب منذ شهر، فقال: هل تقرأ؟، قلت: أقرأ كثيراً، فرد على قائلاً: «أطمن على نفسك القراءة مثل الكتابة».

يدل ذلك الموقف على مدى اقترابه من نجيب محفوظ.. لكن كيف بدأت تلك الصداقة؟

بصدفة تليق باثنين من المبدعين تعرف الغيطاني على نجيب محفوظ، حيث يحكي ذلك في أحد حواراته قائلاً: «كنت أقف بالقرب من ميدان العتبة، وكان عندى وقتها 14 عامًا، ورأيت نجيب محفوظ يمر من أمامى فاستوقفته وسلمت عليه، وعرفته بنفسى، ودعانى فى كازينو الأوبرا وهو عبارة عن قهوة، ووقتها أجلس على القهوة وكانت الجلوس عليها وقتها مرتبطًا فى ذهنى بالفساد، بالإضافة إلى أن هذا المقهى يعلوه ملهى ليلى، ومن هنا بدأت علاقاتى بنجيب محفوظ إلى أن توفى، لدرجة أننى أقدم صديق له».