الثلاثاء 8 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الطريق الثالث.. فقه الطعام وفلسفة الصيام

الطريق الثالث.. فقه الطعام وفلسفة الصيام

وبدأ الشهر الكريم، شهر رمضان المبارك، الذى نترقب قدومه كل عام، ونستعد لحلوله بكل الأمنيات، داعين المولى عز وجل أن يهلّ علينا باليمن والبركات، فنخرج بإذن الله منه فائزين، وجزاء الصوم المقبول هو «الثواب العظيم»، وندعو الله أن نكون مع الفائزين، وندعوه أن يتقبل صيامنا وصلاتنا وقيامنا وصالح أعمالنا، وأن يرزقنا «الرحمة والمغفرة والعتق من النار»، حتى وإن كان حديثهم ضعيفًا، إلا أن أثرهم قوى فى تحفيز الصائمين على الإخلاص فى العبادات والطاعات خلال الشهر الفضيل.



ومع ثبوت هلال رمضان، تتأرجح طموحاتنا كل عام، فننوى من اليوم الأول الاقتصاد فى الطعام وعدم الإسراف، وبعد أن ينتهى إفطار «اليوم الأول»، الذى يشتمل على كل ملامح الكرم الرمضانى المعروف لدى عموم المصريين، تتحطم وتنهار أحلام «الريجيم» الاقتصادى، بين صنوف الطعام والأطباق الشهية، ومعها نردد كلمتين ساحرتين خفيفتين على اللسان تسكنان ضميرنا الغذائى وتخدره: «رمضان كريم».

إن الكرم الرمضانى حقيقة نلمسها جميعًا، ولكن للأسف يسىء بعضنا فهم هذا الكرم ويُسرف فى استهلاكه، مما يفسد عمله فيخرج مفلسًا، وتضيع عليه العطايا الإلهية المتنوعة التى يهديها لنا المولى عز وجل فى شهره الكريم. والحديث عن ارتفاع استهلاك المصريين (والمسلمين عمومًا) فى شهر رمضان، ليس كلامًا مرسلًا، بل هو واقع أليم نعيشه كل عام، فالدراسات تؤكد أن نحو 83 % من الأسر المصرية تغير عاداتها الغذائية خلال شهر رمضان، ويزداد استهلاك المصريين بشكل ملحوظ من جميع الأغذية، وبحسب تقرير غرفة الصناعات الغذائية المصرية، «فإن معدلات استهلاك السلع الغذائية خلال شهر رمضان يرتفع بمعدل %70، عن باقى أشهر السنة، ويرتفع استهلاك منتجات اللحوم والدواجن بنسبة %50»، فيما أشار تقرير حكومى إلى أن الأسر المصرية تنفق 250 مليار جنيه سنويًّا على الطعام بما يمثل %45 من إجمالى إنفاقها السنوى، وشهر رمضان وحده يستأثر بالنصيب الأكبر منها مقارنة بباقى شهور العام، حيث يصل الحجم المتوقع من مبيعات الطعام خلاله إلى 45 مليار جنيه بواقع 1.5 مليار جنيه يوميًّا.

ورغم هذا السلوك الاستهلاكى المنافى تمامًا للشهر الكريم، فإن الأشد قسوة هو ما كشفت عنه آخر الإحصائيات، حيث يتم إهدار نحو 1.3 مليار طن من الغذاء سنويًّا حول العالم، وبتكلفة تزيد على تريليون دولار، وتُعدّ الدول العربية من أكثر الدول إهدارًا للطعام، خصوصًا فى شهر رمضان، إذ تذهب أطنان من الطعام للنفايات، وتتصدر المملكة العربية السعودية قائمة الدول العربية الأكثر إهدارًا للطعام، إذ يُهدر المواطن السعودى 427 كيلوجرامًا من الطعام سنويًّا، وتتبعها الإمارات، بواقع 196 كيلوجرامًا، فيما أكد مسئولون فى منظمة الأمم المتحدة للغذاء والزراعة «فاو»، أن الفرد الواحد فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يهدر 250 كيلوجرامًا من الطعام الصالح للأكل سنويًا، لافتين إلى أن المواطن المصرى الواحد يهدر 73 كيلوجرامًا من الطعام سنويًّا.

مجمل ما تضعنا أمامه الدراسات، أننا أمام نمط سلوكى لا يقبله الإسلام، ولا يليق بالمسلمين الذين حَوَّلوا شهر الامتناع إلى صراع على الإشباع.. وتسابق معظمهم فى شبق محموم على الملذات الزائفة، مفرطين فى كل شىء، من الطعام إلى المسلسلات.

ولا أضيف جديدًا عندما أذكِّرُكم بحكمة الصوم، وقد انتخبت كلمات طيبات، مختصرات (بتصرف) من الخواطر الإيمانية لفضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى (رحمه الله) فى تفسيره للآية الكريمة من سورة البقرة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»، حيث ذكر أن الآية تحمل «تكليف محبة» من المولى عز وجل لـ«الذين آمنوا»، موضحًا أن الصيام سبب لحصول التقوى، والتقوى ميزة عظيمة وهى جماع الخير، وقد كتب علينا الصيام لنتقى الله، أى نتقى غضبه، ولنهذب شهواتنا، فكل معاصى النفس تنشأ من «شَرَهِ مادِّيَّتِها»، والصيام يضعف وقود المادية، والعبد إذا صام فإنه يتربّى على العبادة ويتروّض على المشقة، وعلى ترك المألوف وعلى ترك الشهوات، وينتصر على نفسه الأمّارة بالسوء ويبتعد عن الشيطان.

وهذا العام، تفرض علينا الضرورات أن نجاهد أنفسنا أكثر، ونقتصد فى استهلاكنا، فالأيام القادمة حبلى بالمخاطر التى لا يعلم مداها إلا الله، فلقد وضعتنا الحرب فى أوكرانيا على حافة أزمة اقتصادية كاسحة، بدأنا نستشعر أوجاعها فى الأسابيع الأخيرة، وعلينا أن نستثمر المنحة الربانية فى رمضان، ونتعود على قلة الطعام والشراب، ونُدرب أنفسنا على تقليص استهلاكنا إلى أدنى المستويات، وأن نعتبر رمضان فترة إعداد مجانية لاعتياد النقص فى المواد الغذائية، وهى الأزمة التى يستعد العالم لمواجهتها إذا استمرت المعارك فى شوارع كييف وغيرها من المدن الأوكرانية.

وعن «فلسفة الصيام»، أنقل لكم ما كتبه الأديب والشاعر مصطفى صادق الرافعى فى مقاله المنشور فى ثلاثينيات القرن الماضى، والذى صدر بين دفتى كتابه الشهير «وحى القلم»، حيث يقول: «لم أقرأ لأحدٍ قولًا شافيًا فى فلسفة الصوم وحكمته، أما منفعتُهُ للجسم، وأنَّه نوعٌ من الطب له، وبابٌ من السياسة فى تدبيره»، ويصف الصوم بأنه: «فقرٌ إجبارى يُراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمِّها حين يتساوى الناس فى الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة».

أما الأستاذ عباس محمود العقاد فيصف الشهر الكريم فى كتابه «الإسلام دعوة عالمية»، قائلاً: «رمضان شهر الإرادة»، ثم يوضح: «أدبه أدب الإرادة، وحكمته حكمة الإرادة، ومن ملك الإرادة فزمام الخلق جميعًا بين يديه، وإذا استطاعت الجماعة أن (تريد) ذلك التنظيم وذلك التغيير، فليس نمط من أنماط المعيشة لا تستطيعه على هذا المثال فى الشدة أو الرخاء».

صوموا تصحوا.. وعندما تفطروا لا تسرفوا فى طعامكم.. وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.. وكل عام وأنتم بخير.