
حسن عيسى
كدهوّن!.. إشاعة البهجة
منذ عدة سنوات ذهبتُ لحضور عرض أوبرالى لفريق أجنبى بدار الأوبرا المصرية، وبدأ العرض والتزم الجميع الصمت والإنصات للنغمات الرائعة والأداء الأوبرالى الفخيم حتى هتف المغنى باللغة الإيطالية وبأعلى صوته (ماما) فرد عليه الجمهور المصرى الوقور فى نفس اللحظة: (ياروح أمَّك)، وبنفس أداء يوسف بيه وهبى فى فيلم (إشاعة حب)، ثم ضحك الجميع ماعدا المغنى الإيطالى الذى ارتبك للحظات من غرابة المشهد وضِحْك الجمهور غير المبرر من وجهة نظره.
ثم عاد الجمهور إلى هدوئه مرة أخرى وكأن شيئًا لم يكن وعاد المغنى لاستكمال اللحن، ولكن فى حذر من هذا الجمهور المريب وكدهوّن. لقد عشق الجمهور المصرى هذا الفيلم بشكل خاص وارتبط بشخصياته الدرامية وكأنها أحد أفراد أسرته؛ بل حفظ حوارات يوسف وهبى بالكامل عن ظهر قلب، والغريب أنها لا تزال تُضحكه حتى يومنا هذا رغم مرور أكثر من ستين عامًا على إنتاج هذا الفيلم حتى تحولت إفّيهات يوسف وهبى لفلكلور مصرى يتندَّر به المصريون فى لحظات الهزل والجد تمامًا كما فعلها أيضًا يوسف وهبى داخل أحداث الفيلم عندما قرر أن يسخر من أدائه المسرحى الكلاسيكى القديم والذى عَفَّى عليه الزمنُ ولم يعد يصلح لأن يقدم بهذا الشكل بعد ظهور فن السينما وتطور الأداء التمثيلى وأصبح أكثر واقعية وأقرب للحوار البسيط الذى يستخدمه رجل الشارع بلغة عاميّة بسيطة دون أن يضطر إلى استخدام كلمات بالفصحى فى الحوار كما كان يحدث فى بدايات أعماله السينمائية؛ حيث كان لا يزال متأثرًا بالأداء المسرحى، ومع الوقت أدرك أن هذا الأداء المُبالغ فيه لم يَعُد يصلح لأن يقدم إلا من خلال فيلم كوميدى، وهنا تكمن عبقرية يوسف وهبى وقدرته الفنية العظيمة عندما أقدَم على السخرية من نفسه قبل أن يسخر من أدائه الآخرون لينجح بمنتهى الذكاء المهنى فى التحول من الأداء الميلودرامى العتيق إلى الأداء الكوميدى المرح وكأنه يمنح لفنه قُبلة الحياة ليستمر ويعيش فى وجدان المصريين إلى ما لا نهاية بعكس تجربة الفنانة العظيمة فاطمة رشدى؛ حيث توقفت عند أداء مسرحى ولم تستطع أن تتطور وتحاكى الأداء السينمائى، فكانت نهايتها الفنية واختفاؤها من على الساحة الفنية إلى الأبد وكِدَهُوَّن.. يتوقف الزمن فجأة ويعود يوسف وهبى لأداء روائعه المسرحية على مسرح رمسيس فيفاجأ الجمهور به يصيح بحدة فى وجه عمر الشريف: «أنت ملعون بعدد القبور التى فتحت من أيام آدم لحد النهارده.. أنت ملعون بعدد رمل الصحراء يالا حجم الصاعقة امشى من هنا مش عايز أشوفك فى بيتى.. أنا بيتى محرَّم عليك تحريم الدم».. بينما يقف عمر الشريف مذهولاً من تدفق كل هذه اللعنات فوق رأسه فى فيلم كوميدى مرح، وقبل أن يندمج يوسف وهبى ويتمادى فى سرد حواراته الميلودرامية هذه يتدخل عمر الشريف بتلقائية (بذكاء من المخرج) وهنا يحاول أن يوقظه ويعود بالجمهور لإجراء الفيلم مرة أخرى فيقول له عمر الشريف: «كفاية بقى الناس مشيت انت استحليت الشتيمة ولاّ إيه!»، ليرد عليه يوسف وهبى: «معلشى يا ابنى.. أصل الجلالة أخدتنى».. وهنا كسرٌ مفاجئ لحالة الاندماج التى قدمها يوسف وهبى وكأننا نراقبهم داخل كواليس المسرح وليس حدثًا فى أحداث فيلم سينمائى فيستيقظ الجمهور فجأة من حالة الاندماج ويستوعب المفارقة الدرامية فيضحك بشدة ربما تفوق ما هو متوقع من المشهد؛ لأنه فى هذه اللحظة يضحك على تاريخ طويل من الفواجع الدرامية بَعد أن سخر منها الأستاذ يوسف هبى شخصيًا وكِدَهُوَّن. تتوالى صفعات يوسف وهبى الكوميدية فنسمعه يطلب بمنتهى الوقار والجدية من سكرتيره ضرورة إرسال شحنة ملايات لف ومناديل بؤية لجمعية المحاربين القدماء فى باريس، ويستمر بمنتهى الجدية فى أداء هذه الجُمل العبثية، مما يثير ضحكات الجمهور المصدوم من تحوُّل يوسف بيه الذى ينظر لزوجته ويقول للكاميرا: «أهى صوَّتت بالبلدى بنت صَلطح بابا» وكأنه لسان حال الجمهور.. ويبقى المفاجأة الحقيقية فى هذا الفيلم هو اختيار المخرج فطين عبدالوهاب ليوسف وهبى لأداء دور كوميدى رغم أن الدور أقرب للفنان حسين رياض أو الفنان إستيفان روستى أو حتى الفنان حسن فايق الأقرب لأداء هذا الدور الخفيف لرجل هلّاس زير نساء اعتاد المغامرات النسائية بشكل مَرضى؛ بل يخشى افتضاح أمره أمام زوجته المتسلطة ابنة صَلطح باشا وكِدَهُوَّن، إلا أن المخرج قرر أن يعتمد على الكوميديا الصادمة بوجود الأب الروحى للفواجع يوسف وهبى، وهذه معضلة أخرى قدمها الفليم فكيف يقتنع الجمهور بأن هذا العملاق المسرحى يخشى غضب زوجته التى أدت دورها ببراعة إحسان الشريف دون أن نشعر بتوترها ورهبتها منه فى الحقيقة وهى تقف بندية أمام يوسف وهبى؛ بل تتطاول عليه وتهينه بمنتهى البساطة وكأنها فعلاً تمارس حقوقها كزوجة مصرية أصيلة تعنف زوجها وقت المشاحنات العائلية اليومية وتُذَكره بأصله وفصله غير الجدير بها وبأسرتها العريقة وتطلق جملتها الخالدة «بلدى أوى ياحسين» وكِدَهُوَّن.. لم يتوقع أحد أن من سيسخر من مدرسة يوسف وهبى المسرحية وأدائه الفخيم وهو يقدم الفواجع والمآسى الإنسانية على خشبة المسرح هو يوسف وهبى ذات نفسه؛ بل يحولها إلى مواقف كوميدية رائعة تثير الضحكات بعد أن كانت تستدر دموعهم، وهذه هى عبقرية الفنان الكبير عندما قرر أن يُضحك الجمهور بنفس أدواته القديمة، ولكن فى غير مكانها الطبيعى كما اعتاد الجمهور منه لتنفجر شلالات الضحك والبهجة فى نفوس المصريين ويبقى بوجداننا إلى الأبد.