السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
من الرابح.. فى معركة بلا مدافع؟ ملاحظات استراتيجية على ما أنتجته الأزمة الأوكرانية

من الرابح.. فى معركة بلا مدافع؟ ملاحظات استراتيجية على ما أنتجته الأزمة الأوكرانية

لنتحدث  عن الأزمة الأوكرانية إذا جاز الوصف.. أو لنقل التوتر بين روسيا وأوكرانيا بالصيغة الإخبارية.. دعنا نرصد أبعاد المعترك السياسى والدبلوماسى بين الغرب وروسيا ومن خلفهما الصين لنكون أكثر واقعية.



أكثر من أسبوعين يتابع العالم عن كثب كل تفصيلة فى صراع بدا أنه قديم، ولكن جاءت إطلالته الحديثة لتثبت بعض الأبعاد عن شكل نظام عالمى يتم بلورته.. بلغ المشهد قمته فى اللحظة التي أعلنت فيها الولايات المتحدة موعد غزو روسى لأوكرانيا وحددته فى السادس عشر من فبراير.

حرب تصريحات.. بوادر انفراجة.. يعقبها نفى.. والكل يتبع مسارًا محددًا بدا للمراقبين قدر من أبعاده الاستراتيجية والتكتيكية، ولكن.. وما دام الوصف ينسحب على حدث تتغير تطوراته بين لحظة وأخرى ليكن تصنيفها أنها ملاحظات.

فى البداية.. علينا أن نحدد الأطراف الحاضرة فى المشهد ثم الأطراف الفاعلة ثم الأطراف المتأثرة.

نحن أمام روسيا (بوتين) واستراتيجيته التي تريد إعادة صياغة موسكو بصفتها قوة عظمى، وهذه الصياغة علاقتها عكسية بحضور حلف الناتو، بمعنى أنه كلما تمدد الناتو تراجعت الاستراتيجية الروسية والعكس صحيح كلما تم تحجيم الناتو مضت الاستراتيجية الروسية بثبات.

كذلك ميدان الأزمة (أوكرانيا) التي تنزف اقتصاديًا من الحرب الإعلامية وأصبحت بين مطرقة التمسك بالسيادة من جهة والمواجهة مع روسيا من الجهة الأخرى، بل تفتيتها بعد اعتراف البرلمان الروسى باستقلال الأقاليم التي تطالب بالانفصال عن أوكرانيا.

فى المقابل وهذه الملاحظة الأولى.. ظهر سياق يمكن توصيفه بالدبلوماسية (الأنجلوسكسونية) الجديدة ما بين واشنطن ولندن خط سياسى واضح بين العاصمتين أشبه بالحبل السرى.. الكلمة من واشنطن يعقبها صدى من لندن.. تقارير إنجليزية يعقبها ختم أمريكى.. هذا السياق هو أول ممارسة فعلية للدور الدولى البريطانى بعد الخروج من الاتحاد الأوروبى أو ما يعرف بالبريكست.

من الناحية الاستراتيجية تمضى الولايات المتحدة وفق منهج استمرارية قدرتها على المجال العالمى خلال القرن الحالى كحال القرن السابق وقطع كل الطرق على عودة الندية المباشرة بين واشنطن وموسكو.

تشابهت الأزمة الأوكرانية مع أزمة نشر الصواريخ السوفيتية فى كوبا، ولكن تبدلت مواقع أطراف اللعبة.. فى ستينيات القرن الماضى حاول الاتحاد السوفيتى نشر صواريخ تحمل رءوسًا نووية فى كوبا، وهو ما يجعل العمق الأمريكى فى لوحة التنشين وخاصة ولاية فلوريدا الأمريكية.. وقتها تصدى الرئيس كيندى بحسم دبلوماسى وفرض حصارًا على كوبا وللمفارقة أن كيندى وبايدن هما فقط الرئيسان الكاثوليكيان فى تاريخ الولايات المتحدة فى حين أن جميع الرؤساء من البروتستانت.

الآن المخاوف لدى روسيا من انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو بما يحمله ميثاق الناتو من تضامن عسكرى، وهو ما يجعل العمق الروسى مكشوفًا أمام الولايات المتحدة فى أى لحظة قدرية.

على الصعيد التكتيكى.. البيت الأبيض كان يحتاج إلى أزمة دولية كبرى لا تتورط فيها أمريكا عسكريًا، وفى الوقت نفسه تعطى الزخم المطلوب للحضور العالمى الأمريكى من جهة وللرأى العام الداخلى الأمريكى من جهة أخرى.

الرأى العام الداخلى الأمريكى الآن يعيش مرحلة ريبة إذا جاز التعبير.. هذه الحالة يعانى منها الحزب الديمقراطى الذي ينتمى إليه الرئيس جو بايدن لأسباب كثيرة من بينها ارتفاع معدل التضخم بشكل هو الأكثر قسوة منذ 40 عامًا وبلغ 7.5 % وهو ما أدى إلى تحريك الأسعار.. التوسع فى صرف إعانات بطالة لشريحة لا تدفع الضرائب، مما جعل القوة العاملة تتأثر. وأعنى هنا شريحة العمالة اليومية لأن قطاعًا ارتكن إلى المعونة على حساب كسب الرزق من العمل، وهو ما ضاعف العبء على أصحاب المحال التجارية لأن ساعة العمل ارتفعت بسبب قلة العمالة، وفى الوقت نفسه ارتفعت القدرة الشرائية دون معطيات سليمة، مما ساهم فى ارتفاع الأسعار، وهى النتيجة التي كان مفادها قرار البنك الفيدرالى برفع سعر الفائدة فى مارس المقبل.

هذا التراكم يأتى فى توقيت سياسى حاسم، حيث سيشهد هذا العام انتخابات التجديد النصفى للكونجرس الأمريكى، والسياق لم يعد بحاجة إلى تنبؤ بأفضلية نسبية يحظى بها الحزب الجمهورى الآن تدفعه للسيطرة على المجلسين (مجلس الشيوخ ومجلس النواب). أكثر دليل على ذلك اقتناص ولاية فيرجينيا والتي تتمتع بـ13 صوتًا فى المجمع الانتخابى من قبل الجمهوريين وأصبح حاكم الولاية فى نوفمبر الماضى جمهوريًا وهو جلين يونجكين.

وبالتالى النبرة الأمريكية المتشددة تأتى متوافقة مع السياق الاستراتيجى والتكتيكى للفكر السياسى الأمريكى الآن.

كذلك علينا أن ننظر إلى الدبلوماسية الأوروبية، وهنا نعنى قوتين كبريين داخل الاتحاد الأوروبى وهما: (فرنسا - ألمانيا) جاءت الأزمة الأوكرانية فى توقيت بالغ الدقة لكلتا الحكومتين.

بالنسبة لفرنسا هى تعيش حالة رصد لطبيعة الدبلوماسية الأنجلوسكسونية ما بين واشنطن ولندن، وكانت أولى بوادرها خسارة فرنسية عندما قررت أستراليا إلغاء صفقة غواصات فرنسية فى السادس عشر من سبتمبر الماضى واستبدالها بصفقة غواصات أمريكية تعمل بالطاقة النووية وفق التحالف الأمنى الجديد بين (أستراليا - أمريكا - بريطانيا).

فى الوقت نفسه، تسعى الدبلوماسية الفرنسية إلى تعظيم دور الاتحاد الأوروبى فى فترة معاناة جماعية على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعد محصلة الفواتير الأولية لجائحة كورونا.

أما الدبلوماسية الألمانية فجاء دورها متسقًا مع مناحٍ متعددة، أولها أن الحكومة الألمانية الجديدة فى مرحلة ترتيب سياسى لحقبة ما بعد ميركل.. حدوث الأزمة فى فصل الشتاء، وهو ما أدى إلى ارتفاع فواتير الطاقة.. إن روسيا مورد رئيسى للغاز بالنسبة لألمانيا، وهذا الأمر استثمرت فيه ألمانيا من أموال دافعى الضرائب، فضلاً عن تحملها مناوشات سياسية بين المستشارة السابقة ميركل والرئيس الأمريكى السابق ترامب.

الأزمة وإن كانت من الناحية الجغرافية تنحصر فى نطاق منطقة البلطيق إلا أن عنصر الطاقة جعل لها امتدادًا طبيعيًا لمنطقتين تعتبران من الدوائر الاستراتيجية بالنسبة لمصر.

المنطقة الأولى هى الشرق الأوسط، وهنا نقصد المنطقة المتاخمة لجنوب آسيا الوسطى وتشمل المشرق العربى ومنطقة الخليج وصولاً إلى حافة القرن الإفريقى، كذلك منطقة شرق المتوسط التي تعتبر الكنز الاستراتيجى فى العصر الذي نعيشه.

خلال الأسبوعين الماضيين جرت تحركات استراتيجية وتكتيكية فى منطقة الخليج.. هذه التحركات كان أبرز مشاهدها حدوث مقاربات بين عواصم كان بينها بالأمس القريب حالة تضاد سياسى.. حدث انفتاح أمنى بين عواصم كان بينها حتى البارحة ولو فى العلن نفور استراتيجى ولا تزال المقاربات ولو وقتية تستحق الرصد والفهم، ولكنها لم تتخذ بعد مرحلة الثوابت، وهو ما يجعلنا أيضًا نتوقع مقاربات وقتية مصرية إذا دعت المصلحة الاستراتيجية لمصر ذلك.

هذا المشهد برمته يجعلنا ندرك قوة القراءة الاستراتيجية للدولة المصرية وللقيادة السياسية الوطنية ممثلة فى الرئيس عبدالفتاح السيسى، وذلك إذا ما استرجعنا المسار الاستراتيجى المصري منذ العام 2014 وحتى اليوم ونحن فى الربع الأول من العام 2022.

إذ نجحت الدولة المصرية فى رسم دوائر استراتيجية جديدة وصلبة تتسق مع تعاظم القدرات التي باتت عليها الدولة المصرية، هذه الدوائر تمتد غربًا حتى آخر نقطة فى الإقليم العربى وتنطلق شمالاً حتى جنوب أوروبا وتمتد شرقًا حتى آخر حبة رمال فى الأراضى العربية وتمضى منها جنوبًا نحو أمن البحر الأحمر وحتى مشارف القرن الإفريقى.

أضف إلى ذلك الحسم المصري فى ترسيم الحدود البحرية واستخراج الثروات المصرية وامتلاك القدرة على حمايتها ومضاعفة الكم الاستراتيجى لقناة السويس بإضافة الممر الملاحى الجديد (قناة السويس الجديدة).

والانطلاق بأفق غير مسبوق فى عملية البناء والتنمية وتعظيم القدرات الذاتية للدولة المصرية.

هذا المنهج المصري هو ما جعل مصر الآن فى موضع طمأنينة وسط حالة صراع دولى بالغ الحدة.. ولكن على قدر الثقل يأتى النصيب من الصراع والتحديات. بمعنى أن عالم اليوم الصراع فيه على أمرين وهما المياه والطاقة، وهو ما يجعل مصر فى قلب مضاعفات تشكيل النظام العالمى الجديد، وهو ما يعزز المطلب الدائم للقيادة السياسية بضرورة وحتمية استمرار البناء وامتلاك القدرات مهما بلغت التحديات.