الأربعاء 30 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. الست عقيلة

كدهوّن!.. الست عقيلة

لم أستوعب فى طفولتى أن كل هذه الشخصيات الدرامية المختلفة جدًا من حيث الشكل والمضمون التى أشاهدها على شاشة السينما هى لممثلة واحدة فقط ولكنها بالتأكيد مجموعة ممثلات مختلفات حتى أدركت مع الوقت أنها عفاريت الست عقيلة راتب وكدهون عندما شاهدتها تقدم ثلاث شخصيات مختلفة ومتباينة بإجادة كبيرة لثلاث أمهات من طبقات اجتماعية مختلفة فى نفس العام (أوائل الستينيات)..



 

قدمت ثلاثة أفلام وكل فيلم بشخصية وأداء وشكل مختلف وكدهون أدركت المعنى الحرفى لكلمة (تشخيص) وكأن عفريت كل شخصية درامية يسيطر عليها تمامًا حتى تتلاشى شخصيتها الحقيقية وتختفى ولا ترى ولا تصدق غير تلك الشخصية التى تتقمصها على الشاشة فى سلاسة وتمكن ونعومة ودون افتعال أو ضجيج تتلون بلون كل شخصية على حسب بيئتها وثقافتها وأبعادها النفسية وكدهًون فهى السيدة السوقية الفقيرة التى تتحدث بالعين والحاجب كما تفعل السيدات المصريات فى الحوارى والأزقة وتلف جسمها بملايا لف مهلهلة وتمد الخطوات بخشونة الرجال وتقف فى عرض الطريق تردح بالصوت الحيانى بما تيسر لها من الشتائم الملحنة وبخبرة سيدة محنكة بتجارب السوق هى نفسها تلك الهانم السيدة الأرستقراطية الراقية قليلة الكلام وإن عبرت عينيها عن قلة حيلة وخضوع شديد للعادات والتقاليد رغم تمرد أبنائها على كل شىء تظل هادئة للنهاية رغم مأساة موت ابنها فى الفيلم وكأنها تشاهد رواية لا تنتمى إليها إلا أن ملامح وجهها تعبر لك عن حجم مأساتها الإنسانية وفجأة تنتقل بنا إلى فيلم كوميدى فى دور أم أيضًا ولكنها هذه المرة من الطبقة المتوسطة بكل عصبيتها وتشنجاتها التى تثير الضحكات وهى تعنف أبناءها وتتدخل فى حياتهم بدون رابط أو ظابط كما تفعل أى أم مصرية مندفعة بعاطفة الأمومة الجياشة لحماية أبنائها من وجهة نظرها من أخطار تهدد مستقبلهم وكدهون هكذا قدمت الست عقيلة راتب ثلاثة أدوار فى نفس السنة دون أن نشعر بأى تشابه أو تكرار فى الأداء فقد تحولت بالفعل لثلاث شخصيات لا يربطها أى صلة فى الواقع ولا يجمعها غير عفريت الفن الذى يجعلها تتقمص كل شخصية من تلك الشخصيات الدرامية وكدهون أولا فى فيلم زقاق المدق تجدها هى أم حميدة (أم  الفنانة شادية). تلك الخاطبة الفقيرة التى تتكلم بالغمز واللمز وتستخدم لغة الجسد فى تجسيد الشخصية الشعبية لكن كثيرًا ما تستخدم يدها فى وجه من تحدثه (لزوم الشغلانة) وعند اللزوم يتحول لسانها إلى كرباج يلسع من يوقعه حظه العاثر فى طريقها فتتحول لنمرة شرسة تفترش ملايتها فى عرض الحارة لتصد العدوان عن ابنتها بالتبنى ثم تعود مرة أخرى لشخصية الخاطبة ذات اللسان المعسول وهى تجلس مع خطيب ابنتها عباس مرددة فى خبث (ده أنت أمك الله يرحمها كانت حبيبتى) ثم تنقلب على اتفاقها معه بمجرد أن تقدم لابنتها تاجر ثرى فتقنع ابنتها بالموافقة عليه رغم فرق السن بينهما وينتهى بها الحال فى نهاية الفيلم بالصراخ والولولة على موت ابنتها فى عرض الحارة كأى معددة محترفة وكدهون وفى نفس العام تقدم شخصية الأم الأرستقراطية فى فيلم لا تطفئ الشمس تختلف تمامًا عما قدمته فى فيلم زقاق المدق فنجدها هنا سيدة راقية أرملة حائرة صامتة دائمًا تجاه كل ما يخص أبناءها نظرًا لضعف شخصيتها الذى يجعلها تحتمى فى شخصية شقيقها تارة وفى شخصية ابنها الأكبر تارة أخرى للسيطرة على باقى أبنائها دون أن تتدخل فى اتخاذ أى قرار واكتفت دائمًا بتلك النظرة المهزومة والملامح الحزينة حتى فى لحظات البهجة تظل حائرة بين الفرح والحزن وكأنها اعتادت الحيرة ورغم ذلك نجدها دائمًا فى كامل أناقتها مع اهتمامها باكسسواراتها ومجوهراتها التى تنم عن ذوق أصيل وسلوك محايد وتظهر عبقريتها فى التشخيص عندما يموت ابنها فى الفيلم أحمد رمزى نجد رد فعلها كسيدة راقية تختزل الحزن بداخلها يختلف تمامًا عن رد فعلها كسيدة شعبية عند موت ابنتها حميدة فى فيلم زقاق المدق حيث ملأت الحارة صراخًا وعويلًا وآهات تشق صمت الليل نجدها فى فيلم لا تطفى الشمس تكتفى بذلك الأداء الرزين المغلف بحزن دفين يغلب ملامحها المرهقة. 

 بصدمة فقد الابن دون أن تبكى أو تنوح حظها مع حرصها على ارتداء ملابس الحداد السوداء دون أى مجوهرات أو زينة وكدهًون وفجأة وفى نفس العام نجدها تقدم دور أم أيضًا من الطبقة المتوسطة ولكن فى الفيلم الكوميدى عائلة زيزى نجدها مرة أخرى تغير جلدها وروحها أيضًا لتقدم أمًا عصبية متسلطة شديدة التحكم فى حياة أبنائها مما يجعلها دائمًا تصرخ للكاميرا فى أداء هيستيرى يثير ضحكات المشاهدين مرددة جملتها الشهيرة  وهى تشير إلى أبنائها فى الفيلم فؤاد المهندس واحمد رمزى وسعاد حسنى صارخة فى وجوههم (ده إيه الغلب ده يا ربى ماهو لو مصيبة واحدة كانت تهون مصيبتين كانت تتبلع لكن تلات مصايب كتير علىّ يا رب) تتقدم منها ابنتها الطفلة زيزى لتقول لها أربعة يا ماما، فتنظر الست عقيلة للكاميرا وهى تكاد تبكى حكمتك يارب فتثير الضحكات بأدائها الصادق دون افتعال أو تعمد الإضحاك وكدهون كلام فى حب الست عقيلة راتب ودروس  فى فن التشخيص والتقمص.