
حسن عيسى
كدهوّن! أنا لا أنــام
ما زالت السينما الأبيض والأسود تتمتع بمساحة كبيرة من السحر والحميمية وجمال يجعلها تلعب دور العالم الافتراضى بداخلى حيث تأخذنى لذكريات الطفولة والخيال والحكايات المستحيلة بالنسبة لعالم طفل فى السابعة من عمره لم يدرك بعد الخيط الرفيع الذى يفصل الواقع والخيال وكدهًون.
لم أكتفِ وقتها بمشاهدة الأفلام فقط بل كنت أضع بصماتى عليها «فى خيالى» فأضيف شخصيات أو أغير نهايات أو أدخل خطوطا درامية وهمية على أحداث الفيلم وأحيانًا تتصارع مع أبطال العمل نفسه وكدهون ومازال تأثير بعض الأفلام يلازمنى حتى يومنا هذا، فلم أستطع أبدًا أن أنسى أو أتناسى ضحكات الست زوزو نبيل الهستيرية فى فيلم «هذا الرجل أحبه» حيث لعبت دور سيدة مجنونة تسير ليلا فى المنزل بمفردها وفى يدها شمعة أو لمبة جاز وفى النهاية تحرق المنزل بأصحابه وهى تضحك ضحكات هستيرية كفيلة بأن تسرق النوم من عينى لمدة أسبوع لخوفى من دخولها غرفتى ليلاً بشمعتها اللعينة. وكدهًون ولكن ويبقى لفيلم «لا أنام» إخراج الأستاذ صلاح أبو سيف حالة خاصة جدا حيث أنى تعاملت معه فى ذلك الوقت على أنه فيلم رعب منذ عرض أول لقطة فى الفيلم للسماء الملبدة بالغيوم وكأنها على وشك إرسال أشباح وكائنات فضائية لكوكب الأرض وتأكد إحساسى هذا مع دخول الصوت المستكين للست فاتن حمامة تخاطب ربنا بأغرب جملة يمكن لطفل أن يستمع لها ويتفهمها وهى تقول: يارب خذنى عندك حتى أسألك حكمتك من تعذيبى.. أو كف عنى عذابك.. ثم تصمت قليلا لتعود فتقول: أستغفر الله العظيم.. هذه الجملة لوحدها كانت كفيلة بأن تزرع الرعب بداخلى أياما وليالى طويلة وتجعلنى أختبئ أسفل المنضدة طوال عرض الفيلم منتظرا حدوث ما هو أسوأ من شكل السماء المغيمة المصاحب لصوت الست فاتن وهى تبث عذاباتها لله، فلا بد من وقوع مفاجآت قاتلة بعد هذه البداية الموحشة جدًا وشكوى الست فاتن قبل حتى أن نشاهد الفيلم وكدهون ويبدأ الفيلم الذى تدور أغلب أحداثه داخل قصر كئيب جدا ذى نوافذ زجاجية عملاقة أقرب لتلك القصور المهجورة التى يسكنها مصاصو الدماء فى أفلام الرعب مما مهد لى خيالى بأنى سأشاهد من خلال إحدى هذه النوافذ العملاقة أحد مصاصى الدماء الذى قد يظهر بين لحظة وأخرى ليمص دم هذه الأسرة أثناء تناولهم الطعام مثلا أو يأخذه الفضول لمعرفة طعم دم هند رستم وهى تتراقص فى دلال ورشاقة ولا تبالى نظرات فاتن الحاقدة وكدهون الا أنه لم يظهر اى مصاص دماء يبرر وجود الابطال داخل هذا القصر الكئيب والنوافذ الزجاجية العملاقة وظل الأبطال يمارسون حياتهم بإيقاع بطىء جدا ويتبادلون الضحكات على نكت لم أفهمها أو لم أجد سببا مقنعا يبرر ضحكاتهم الساذجة طوال الفيلم وعليه لابد وأن يظهر أحد مصاصى الدماء حتى يحسم أمر تلك الأسرة التعيسة ويثرى الأحداث بمزيد من الإثارة والمتعة دون جدوى.. وكدهون توسمت فى أنه يحيى شاهين يصلح تماما لأن يكون هو مصاص الدماء ذات نفسه وهذه هى مفاجأة الفيلم خصوصا أن ملامحه تؤهله تمامًا للعب هذا الدور المرعب فهو ضخم الجثة حاد الملامح وله ضحكة عالية تثير فزع المشاهدين المساكين داخل قاعات العرض السينمائى، إذن هو مصاص الدماء الذى سينتقم من جميع من سخروا منه وخانوا ثقته فهيم خصوصا ابنته وزوجته وأخاه وعريس ابنته الكل سخروا من سذاجته بشكل أو بآخر حتى تحول إلى ملطشة الفيلم، ولكنه أيضا لم يتحول لمصاص دماء لينقذ ماء وجهه على الأقل وينقذ الفيلم من الملل.. ولا أدرى لماذا سيطر على هذا الهاجس الغريب ربما لذلك القصر الكئيب الذى تدور بداخله أحداث الفيلم وشكل الديكور وسلوك أبطال العمل الذى يذكرنى بذلك المجتمع المخملى فى الأفلام التى تدور فى العصور الوسطى جعلتنى أتوقع ظهور شبح أو على الأقل مصاص دماء من وقت للآخر خصوصا فى تلك المشاهد الليلية التى كانت تتلصص فيها بطلة الفيلم فاتن حمامة على غرفة والدها وزوجته وتسمع همهمات غير واضحة يعقبها همسات متقطعة كنت أترجمها يومها على أن يحيى شاهين بيعذب السيدة الرقيقة مريم فخر الدين التى يصل لنا على استحياء صوت بكائها الهامس مما يصيب فاتن حمامة بالرهبة والخوف فتجرى لسريرها وهى تبكى خوفا، مما يحدث فى غرفة والدها مصاص الدماء «من وجهة نظرى»، أكيد شاهدت يحيى شاهين بيعذب مريم فخر الدين واكتشفت حقيقة كونه وحشا آدميا وهذا سبب بكاء فاتن حمامة طول الفيلم «بس لما كبرت فهمت كل حاجة وإن الست مريم كانت مبسوطة ومش بتعيط» وكدهون وكان طبيعى بعد كل هذه الأحداث الدامية أن ينتهى الفيلم بنهاية تليق بكل هذه الأحداث اللامعقولة فنشاهد طفلة تقترب بلا داعى من فاتن حمامة ثم تضع شمعة صغيرة بجوار فستان زفاف البطلة «عقاب السماء» فتحترق فى لحظات وتتحول لحتة فحمة مشتعلة كأنها شربت صفيحة بنزين لينتهى الفيلم غريبًا كما بدأ غريبا، وتبقى تساؤلات عديدة بداخلى تجاه كل هذه الأحداث والحكايات وكدهون، كيف أقنعت فاتن حمامة زوجها عمر الشريف بأن يلعب دور عمها بينما تقول لمريم فخر الدين يا طنط، وتحول يحيى شاهين الذى طالما لعب أمامها دور الحبيب لأب بينما، عماد حمدى شريك أفلامها الرومانسية يقول لها أنت صغيرة وأنا راجل كبير عليكى وكدهًون، لا أدرى لماذا لم يتم الاستعانة بنجوم كبار فى العمر كزكى رستم أو يوسف وهبى وعقيلة راتب أو زوزو ماضى أو حتى مديحة يسرى على سبيل المثال حتى يكون هناك مصداقية للأحداث وكدهون، ولماذا قدمت كل الشخصيات أحادية الجانب، فنجد فاتن حاقدة وشريرة بالفطرة ومريم ملاكًا بريئًا لا يغضب ولا يثور أو ينتقم لكرامتها، ويحيى شاهين «ملطشة الفيلم»، ساذج ومغفل كبير يصدق كل ما يقال له بدون تفكير أو وعى وعماد حمدى مراهق أربعينى يقيم علاقة مع تلميذة فيكافأ بالزواج من مريم فخر الدين، أما عمر الشريف فهو قليل الحيلة، وهند رستم منحرفة بفجور وبغباء يجعلها تبذل كل جهدها لتزوج عشيقها لابنة زوجها فى مجازفة غير محسوبة لأنه بالتأكيد سيقع فى حبها لثروتها وجمالها وخصوصا لو أنجبت أطفالا وكدهون، سيظل فيلم «لا أنام» من أهم كلاسيكيات السينما المصريةً حتى يومنا هذا رغم كل هذه التساؤلات وهواجس الطفولة البريئة التى جعلتنى لا أنام أيامًا وليالى طويلة خوفا من مصاصى الدماء وضحكات زوزو نبيل.