معاصرات أثرن فى الحياة الكنسية أول طبيبة فى الشرق الأوسط.. رحلة كفاح هيلانة سيداروس

وفاء وصفى
إن المجتمع المصرى يذخر بنماذج نسائية قوية، استطعن بقوتهن أن يؤثرن فيه ويتركن بصمتهن على من تعاملوا معهن، بل منهن من أصبحن أيقونة تلمع فى سماء هذا الوطن وأصبحن منارة عالية ترشد كل من تاه فى طريقه.
فى هذه السلسلة نتحدث عن سيدات معاصرات منهن من رحلن ومنهن من لا زلن يعشن فى وسطنا، لمعت أسماؤهن وبرزت بحروف من نور فى سماء الكنيسة وكانت بصمتهن فى خدمتهن خير دليل على قوة السيدة المصرية بشكل خاص، وجاءت قصة حياتهن لتؤكد بأن المرأة إذا أرادت فإنها تستطيع أن تفعل، فهى تمتلك من قوة الإرادة ما يكفى لتغير حياة كثيرين.
من أبرز تلك الشخصيات هيلانة سيداروس وهى أول طبيبة مصرية فى الشرق الأوسط كله.
تعتبر هيلانة سيداروس شخصية مصرية أضاءت مسرح الأحداث فى الثلث الأول من القرن العشرين، وأثرت بصدق فى مجرى الأمور واستطاعت بإرادة جديدة أن تحرك القوى الكامنة لدى الناس وساهمت بوعى وفكر مستنير فى إطلاق طاقتهم المبدعة.
ولُدت هيلانة بمدينة طنطا فى 13 يناير 1904 فى تلك الفترة كان تعليم الفتيات مقصورًا حتى السنة الثالثة الابتدائية فقط، وغير مصرح لهن بالتقدم إلى الامتحانات العامة ولا حتى شهادة إتمام الدراسة الابتدائية، كان قيادتهن للسيارات أمرًا يُثير الدهشة والاستغراب وغير مألوف، هذا بالإضافة إلى أن المهنة الوحيدة التى كانت متاحة للمرأة هى مهنة التدريس. فبالإضافة إلى كل هذه القيود التى كانت هى سمات تلك الفترة فإن هيلانة كانت طفلة ضعيفة البنية، فلم تتمكن من الذهاب إلى المدرسة فى السن المقررة، لذلك التحقت بكلية البنات القبطية وهى فى الثامنة من عمرها.
كانت هيلانة تحلم بأن تكون طبيبة لتعالج المرضى وتخفف عنهم آلامهم رغم أن ظروفها فى ذلك الوقت لم تكن تنبئ بذلك.
وفى مساء السبت 23 أكتوبر 1909 عقدت جمعية الوفيق بمقرها اجتماعاً عاماً حضره إلى جانب أعضائها عدد كبير من أهل الرأى والفكر لإنشاء كلية للبنات.
والهدف الأول من إنشاء هذه الكلية هو إعداد جيل جديد من الفتيات القبطيات يلقن بتاريخ مصر وأن تصوغ قلوب طالباتها وأخلاقهن فى القالب الاجتماعى القائم على حب العلم والوطن والفضيلة وأن تكون تربية الفتاة القبطية تربية راقية تضعها فى مصاف البنات الأجنبيات ولم يكن للعائلات القبطية من سبيل للوصول إلى هذا الهدف سوى عدد قليل من مدارس الإرساليات الأجنبية.
انبثقت عن هذا الاجتماع لجنة فنية أكدت على ضرورة الاهتمام بتاريخ مصر، تاريخ الكنيسة القبطية، مبادئ الديانة المسيحية واللغة القبطية والأخلاق، ونظراً لتفوقها فى دراستها وتمتعها بذكاء شديد أرسلها والدها للالتحاق بالقسم الداخلى بمدرسة السينية بالقاهرة، ثم التحقت بعد ذلك بكلية إعداد المعلمات إذ لم يكن أمامها اختيار آخر سوى هذا الطريق. كانت مدة الدراسة بهذه الكلية أربع سنوات، وكانت جميع التلميذات يقمن بالقسم الداخلى كما كان التعليم مجانيًا. فى تلك الكلية كانت ناظرة المدرسة والمدرسات جميعهن إنجليزيات باستثناء مدرس اللغة العربية.
بعد أن أنهت دراستها بالسنة الثانية بكلية إعداد المعلمات تم ترشيحها على بعثة حكومية للسفر إلى إنجلترا لدراسة الرياضيات، وذلك نظرًا لتفوقها فى هذا العلم.
فرحت جدًا هيلانة بهذا الترشيح، كما أن أسرتها وافقتها على السفر لما توسمت فيها من نبوغ وعبقرية فى التفكير الرياضى.
سافرت هيلانة إلى إنجلترا لدراسة الرياضيات وبعد فترة من بداية دراستها علمت أن الدراسة ستقتصر على ما يعادل شهادة إتمام الدراسة الثانوية فى مصر، وفى نهاية الدراسة ستحصل على خطاب يحدد تخصصها.
غضبت هيلانة لهذا الأمر وسارعت بإرسال خطاب إلى الملحق الثقافى كما كان يطلق عليه فى ذلك الوقت بالسفارة المصرية بلندن تطلب فيه موافقته على رغبتها فى العودة إلى مصر لاستكمال دراستها هناك.
وبعد مضى أسبوع من إرسال خطابها هذا حضر السيد المستشار الثقافى إلى المدرسة بلندن -التى كانت تدرس بها-وطلب مقابلتها وقدم لها عرضًا لدراسة الطب، وكانت قد تأسست فى مصر فى ذلك الوقت جمعية كيتشنر التذكارية بهدف إقامة مستشفى للمرضى من النساء فقط وعلى أن تتولى إدارتها طبيبات مصريات فقط، ولهذا تقرر تدريب فريق من الطالبات المصريات بإنجلترا وقد اخُتيرت هيلانة واحدة من أعضاء هذا الفريق.
وافقت هيلانة على هذا الترشيح الجديد كما وافقت أسرتها أيضًا، وبعد أن اجتازت هيلانة الامتحان النهائى للمرحلة الثانوية بإنجلترا التحقت بمدرسة لندن الطبية للنساء مع خمس مصريات أخريات؛ كان ذلك عام 1922. كان تقدمها لدراسة الطب فى إنجلترا سبب دهشة الأساتذة الإنجليز، ولأنهم أشفقوا عليها من مشقة دراسة الطب عرضوا عليها أن تتخصص فى مجال التعليم فى رياض الأطفال، لكنها رفضت بإصرار وقبلت التحدى بدراسة الطب. كانت الأسابيع الأولى من دراستها فى الطب شاقة للغاية، إذ كانت مادة التشريح تسبب لها آلامًا وضيقًا.
لكن بعد فترة تقبلت نوعية الدراسة فى الطب واجتازت فترة الدراسة بنجاح وتفوق، وفى عام 1929 أصبحت طبيبة مؤهلة لممارسة مهنة الطب وهى تبلغ من العمر 25 عامًا. عادت هيلانة إلى مصر عام 1930 ومعها شهادة الطب والتوليد من الكلية الملكية البريطانية والتحقت للعمل بمستشفى كيتشنر بالقاهرة، فى ذلك الوقت كانت الطبيبة المقيمة بالمستشفى إنجليزية وبعد أن عادت إلى وطنها شغلت د.هيلانة مكانها بكفاءة. فى عام 1935 بعد أن انتهت الفترة الإلزامية التى ينبغى أن تقضيها فى المستشفى، عرض عليها د.على بك فؤاد العمل فى رعاية الطفولة مع فتح عيادة، وشجعها الدكتور عبدالله الكاتب وعاونها على فتح عيادتها فى باب اللوق بالقاهرة، وفى الوقت نفسه كانت تقوم بعمليات الجراحة والتوليد بالمستشفى القبطى بالقاهرة بناءً على طلب من الدكتور نجيب باشا محفوظ؛ رائد علم أمراض النساء والتوليد بمصر.
عندما قامت ثورة 1919 شاركت هيلانة وهى ابنة الخامسة عشرة من العمر فى المظاهرات التى قادتها بعض الفتيات والسيدات فى ذلك الوقت، استمرت فى المشاركة فى الكفاح الوطنى للمرأة المصرية ضد الاحتلال الإنجليزى. كانت تتردد على منزل سعد زغلول الذى عُرف باسم «بيت الأمة»، حيث كانت تُشارك فى اجتماعات الحركة النسائية بقيادة السيدة صفية زغلول من أجل مناهضة الاحتلال الأجنبى ومقاطعة البضائع الإنجليزية، ثم انضمت إلى جمعية هدى شعراوى.
وبعد أن تجاوزت السبعين من عمرها رأت أنه ليس من الصالح لمرضها أن تستمر فى العمل، إذ أن الشيخوخة كانت قد أدركتها فاستقالت من عملها وانضمت إلى الجمعية الخيرية القبطية للعمل الاجتماعى. تلك الجمعية التى اهتمت بإنشاء المستشفى القبطى بالقاهرة كأول مستشفى وطنية فى مصر وذلك بغرض توفير مكان لإقامة المرضى المصريين وقد تم افتتاحها عام 1926. بعد ذلك بعدة سنوات بدأت تظهر مستشفيات وطنية أخرى بالقاهرة والإسكندرية مثل مستشفى المواساة بالإسكندرية والمستشفى القبطى بالإسكندرية ومستشفى الجمعية الخيرية الإسلامية بالعجوزة.
فى فترة عملها بالجمعية الخيرية القبطية اهتمت بترجمة العديد من الكتب للأطفال ومشاهير الرجال. كانت فى الفترة الأخيرة من حياتها تعيش فى شيخوخة صالحة، بعد أن خدمت الوطن بصفة خاصة والإنسانية بصفة عامة بأمانة كاملة إلى أن توفيت فى صباح الخميس 15 أكتوبر 1998 بعد رحلة عطاء كبيرة ومثمرة ورحلة كفاح يحتذى بها.