الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

رحيل فاطمة اليوسف فى نهاية الخمسينيات كان مشهد النهاية للمرحلة وأحمد بهاء وصفه بدقة: نصف الساعة الأخير

إن سرَّ «فاطمة اليوسف» يتلخص فى نصف الساعة الأخير من حياتها.. لقد استطاعت إرادتها أن توقف الموت عند بابها، نصف ساعة كاملة، قبل أن تأذن له بالدخول..



لقد فاجأتها «السكتة» وهى جالسة فى إحدى دور السينما، ولكنها لم تسقط من الضربة الأولى، وهى الرقيقة الصحة، كما يحدث للآخرين، إنها لم تكد تشعر بها، حتى قالت للسيدة التى كانت ترافقها: أريد أن أعود حالا إلى البيت! وخرجتا تبحثان عن سيارتها فلم تجداها، وحاولت صاحبتها أن تغريها بأن تستريح دقائق حتى تحضر السيارة ولكنها رفضت، وركبت أول تاكسى إلى البيت.

 

وأغلب الظن أنها كانت قد عرفت أن هذه هى النهاية، والمؤكد أنها لم تنزعج، ولم تندهش، بدليل أنها كانت فى الشهور الأخيرة تتحدث عن النهاية بلا سبب، تتحدث عنها وهى تبتسم كأنها تتحدث عن سَفر عادى.. وبدليل الابتسامة الغريبة التى تركها الموت على شفتيها، ابتسامة الرضَى النفسى، والراحة العميقة، التى يحس بها من عاد من رحلة طويلة ناجحة.

كانت قد عرفت أن هذه هى النهاية ولكنها كانت مصممة على أن تصل أولا إلى بيتها، وإلى فراشها، لقد كانت دائمًا تقول أنها أصبحت لا تريد شيئًا إلّا أن تلقى النهاية فى بيتها هادئة.. وقد تبدو هذه للكثيرين أمنية عادية بسيطة، ولكنها أمنية عميقة المغزى، عند الذين عاشوا حياة حافلة بالخطوب، حارَّة كلهب المعركة، إن الوطن لا يعرف قيمته إلا المغترب، والأمن لا يحس بطعمه إلا المحارب، والنهاية الهادئة فى البيت لا يتمناها أحد كالذين ذاقوا البداية الشاقة والحياة المضطربة الصاخبة..

وقد وصلت بالفعل إلى باب بيتها، وأخرجت المفتاح ووضعته فى ثقب الباب، ولكنها عجزت عن أن تديره، كانت حياة صحتها وحياة جسدها قد انتهت، ولم تبقَ إلا حياة إرادتها فحسب! وفتحت صاحبتها لها الباب.. ودخلت هى سائرة على قدميها إلى حجرة النوم، وغيرت ثيابها، ووضعت كل شىء فى مكانه، وفى اللحظة التى مالت فيها إلى الفراش لتنام، فى اللحظة التى تركت فيها إرادتها، انطفأت الشمعة الأخيرة.. جاءتها النهاية التى تنحَّت عن طريقها جانبًا، نصف ساعة كاملة، احترامًا لإرادتها!

إن سرَّ «فاطمة اليوسف» وجوهرها النادر هو هذه الإرادة، إرادة لا تضعف فى وجه أى شىء، إرادة تستصغر الخطر، وتبتسم للمحنة، وتجعل كل شىء، يبدو ممكنًا فى عينها وفى أعين الذين حولها! وليست هذه الإرادة موهبة عادية يتساوى فيها الجميع.. إنها موهبة لا يحظى بها إلا القليلون النادرون، فنوع الإرادة هو الذى يفصل فى مستقبل كل شىء.. هل يكون.. أو لا يكون؟

ولم تكن إرادة «فاطمة اليوسف» إرادة سلبية، إرادة صمود ودفاع فحسب، ولكنها كانت إرادة إيجابية، بنّاءَة.. خلّاقة.. وإلا، فكيف يمكن أن نفسّر قصة حياتها العجيبة الباهرة، التى لا أعرف فى تاريخ الشرق العربى الحديث كله قصة واحدة، لامرأة واحدة تدانى قصتها فى الروعة والخصب والبناء؟!

كيف نفسر- بغير هذه الإرادة الخلّاقة- قصة فتاة كآلاف الفتيات، وجدت نفسَها يتيمة فقيرة وحيدة جميلة وهى فى العاشرة من العمر.. ثم استطاعت أن تحيا هذه الحياة الحافلة، فتنشئ مؤسَّسَة ضخمة، وتطاول الساسة والزعماء، وتلعب دورًا كبيرًا فى حياة وطنها السياسية والعقلية والفنية على السواء؟..

إنها إرادة مُرَكّبة من جوهر غريب نادر، يفتت الذَّرَّة، ويشق الطرُق المغلقة، ويخلق الوجود من العدم.

لقد دخلت هذه الفتاة اليتيمة الفقيرة الوحيدة بإرادتها إلى المسرح الحافل بالأبطال والبطلات، فكانت أسرع الجميع فى التقاط فن التمثيل، ودراسته، والإخلاص له، ثم لم تلبث أن أصبحت نجمته الأولى.. لم تصل إلى هذا فى سهولة ويُسر، ولكنها تنقّلت بين الفرق التمثيلية، وجابت قرى القطر المصرى مع الفرق التى كانت تنصب مسرحَها فى كل قرية، وتجمع الجمهور البسيط حول أضوائها، وتعمل عملاً مضنيًا طول اليوم؛ لتجد آخر اليوم طعامَها.. صنعت هذا كله قبل أن تصبح مَلكة المسارح الأولى فى القاهرة، وقبل أن تجعل جمهور العاصمة المستنير الصعب يشق السّهر بتصفيقه لها كل ليلة.

وبنفس الإرادة العجيبة، تركت هذا المجد المسرحى كله بقرار واحد، وبدأت فى ميدان جديد تمامًا، أكثر صعوبة من الميدان الأول، هو ميدان الصحافة السياسية. الميدان الذى كان العشرات من ذوى الأموال الطائلة، والشهادات العالية، يتساقطون فيه صرعى، فاستطاعت هى أن تصمد فيه، وأن تنشئ، وأن تترك هذا البناء الشامخ من بَعدها.

والذين يبنون- فى أى مجتمع- قلة قليلة، وهم مَهما جنوا من ثمار بنائهم؛ فإن كل ما يعود عليهم من خير، لا يقاس شيئًا بجانب الثمار التى يجنيها المجتمع، ويجنيها الآخرون.

هذه الدار التى أقامتها.. والصعوبات الهائلة التى تحمّلتها فى سبيل إقامتها وتدعيمها والدفاع عنها، وتعب السنوات وحرمان الليالى.. كيف يمكن أن تقاس الثمرة التى جنتها منها، والتى تركتها اليوم، إلى جانب الثمار التى جناها منها الوطن.. وجنتها أجيال من الكُتّاب والمفكرين والمثقفين؟

لقد كان كفاحُها هذا كله.. لكى أجىء أنا.. ويجىء عشرات مثلى، جيلاً بعد جيل.. فيجدون الدارَ التى تضمّهم، والمنبر الذى يشبّون عليه، والقلعة التى تستعصى على الإغراء، وتستعصى على الإرهاب، وتستعصى حتى لحظة ضعف الإنسان، بينه وبين نفسه!

و«البناء» هنا لا يُقاس بالدار، والمطابع، ورقم التوزيع، وعدد الذين يعملون؛ إنما يُقاس بمئات الآلاف: بل بالملايين، الذين أتاحت لهم أن يقرأوا.. بالملايين الذين أقامت لهم «جهاز إرسال» ضخمًا تصل موجاته إلى قلوبهم وعقولهم ونفوسهم، سنة وراء سنة وراء أخرى، فإذا بهم يتكوّنون ويتطوّرون.

هذا هو البناء..

وهذه هى الإرادة الخلّاقة البانية.. وهذا هو ربحُها.. وربحُنا!

على أن الأعجب من هذا، أن توجد هذه الإرادة الخلّاقة الصلبة، فى إهاب رقيق جميل حساس!

لقد كانت النقلة من مكتبها إلى بيتها كالنقلة من عالم إلى عالم، إن الجَوّ المبدع الخلاق الذى كانت تصنعه فى مكان العمل، لا يدانيه إلا الجَوّ الجميل الوادع الذى كانت تخلقه فى البيت، الإنسان الذى يعمل معها، ترعاه فى مكتبها رعاية المشجعة والباعثة على الإصرار، وترعاه فى بيتها رعاية الأمّ الفنانة الحنون، فنجان القهوة الذى تقدمه لك جميل، كوبة الماء جميلة، منفضة السجاير جميلة رقيقة.. اليد والعين التى تختار وتطهو وتنسّق كفنانة، لا تكاد تصدق أنها اليد أو العين التى تعاين المطابع، وتشترى أطنان الورق، وتلوح فى وجه الأزمات!

وقد كانت هذه الإرادة الثمينة مصدر شبابها الخالد!

نعم، شبابها الخالد! لقد دخلتْ إلى مكتبى منذ أيام قليلة، وجلست تحدثنى عن متاعب الإدارة، وعن انصراف الشباب فى مصر عن أعمال الإدارة رُغْمَ مستقبلها العظيم وأهميتها الكبرى، حتى أصبحت الإدارة فى العالم الحديث علمًا راقيًا وفنًا رفيعًا.. وقالت لى أنها سمعت أنهم فتحوا فى مصر مدرسة مسائية لتعليم فن الإدارة الحديثة، وأنهم استحضروا أساتذة من الخارج ليعلموا رؤساء الإدارات فى الحكومة والمؤسّسات الكبرى.. ثم قالت: أنها تفكر فى الالتحاق بهذه المدرسة!

ولم أندهش من تفكيرها هذا، فهو ليس غريبًا عليها، ولكننى فقط حاولت أن أقنعها بأن صحتها قد لا تحتمل مجهودًا جديدًا!.

وبعد..

لقد قلت فى أول هذا المقال أنها كانت فى الشهور الأخيرة تتحدث عن النهاية ببساطة واطمئنان.. وقلت فى آخره أنها كانت تفكر فى الالتحاق بمدرسة الإدارة.. ولم يكن بين هذَيْن التفكيرَيْن- فى نفسها- أى تناقض!

لقد وصلت فى آخر حياتها إلى حالة جميلة رقراقة من الصفاء والتوازن النفسى.. فهى ليست خائفة ولا قلقة أن تأتى النهاية غدًا، أو أن تأتى أيام كثيرة طويلة من العمل؛ إنما هى راحة ورضى وحمد، وشفافية كشفافية هذه السماء التى صعدت إليها باسمة!