
حسن عيسى
كدهوّن!.. ساكن قصادى وبراقبه
استيقظت مذعورًا فى ذلك الصباح الباكر على صيحات متلاحقة وصراخ حاد منبعث من حنجرة جارتى الست انشراح يشبه صفارة إنذار الحريق وتستغيث بالرجال السمر الشداد لإنقاذ المنطقة والمناطق المجاورة من تلك الكارثة الكبرى التى ستقضى على الجميع فظننت وأغلب الظن إثم بأن حريقا ضخما قد اندلع بشقتها الملاصقة لشقتى مباشرة (وتلك هى المشكلة) بما جعلنى أقفز سريعا من فوق سريرى على غير عادتى (حيث إنى كسلان بطبعى خصوصا يوم إجازتى) وصوت دقات قلبى تكاد تعلو على صياح انشراح وأنفاسى تحاول أن تهرب من صدرى بدون راجعة من هول الصدمة ولسان حالى يلعن حظى الذى أسكننى بجوار الست انشراح وكدهون.
وخرجت مسرعًا إلى شرفة منزلى فى محاولة جادة منى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ومساندة هذه الأرملة الوحيدة التى مازالت تئن وتتوجع وتستغيث بالسمر الشداد دون جدوى وكدهون للعجب الشديد أنى لم أجد أى أثر لنيران مشتعلة ولا تصاعد لأى دخان كما توقعت من شرفتها. مما أثار حيرتى لماذا تصرخ هذه السيدة بهذه الطريقة المستفزة طالما لم يحدث حريق أو أى حادث يهدد حياتها كما هو واضح لى من وقوفها أمامى بكامل لياقتها ثم نظرت حولى لاستكشاف الأمر لأفاجأ بكل جيرانى يقفون فى شرفاتهم ويصوبون نظراتهم الفضولية نحو شرفتى بما أنها ملاصقة لشرفة الست انشراح وصياحهم يرتفع باسمى لإنقاذها من شىء لا أعلمه أو أدركه إلا أن صيحاتهم المستمرة باسمى جعلتنى أشعر بنشوة الشهرة للحظات وكأنى ممثل أقف على خشبة مسرح ولست مجرد رجل صاحى من النوم مذعور يقف فى شرفة منزله لإنقاذ جارته العجوز بطلة الأحداث وكدهون أصبحت أنا أيضا فى مرمى بصرهم وقبل أن أتقدم خطوة أخرى للأمام نظرت لحالى وبكيت فقد اكتشفت بأنى وسط هذا الهرج والمرج قد نسيت ارتداء بنطلون ببجامتى وإن كنت ارتدى فانلة قطنية طويلة إلى حد الستر أمام كل هذه الجماهير الغفيرة ولكنه لا يكفى للبقاء طويلا فى الشرفة بهذا الوضع المخزى وكدهون وقبل أن أتراجع بهدوء إلى داخل غرفتى مرة أخرى لارتداء بنطلون البيجامة والعودة لإنقاذ انشراح من هذا المجهول الذى لا أعلمه وقبل أن ينكشف المستور وتصبح فضيحتى مثل فضيحة المطاهر يوم خروجه على المعاش (كما كانت تقول جدتى فى مثل هذه الأحوال) وقبل أن أتحرك صرخت جارتى التعيسة بأعلى صوتها: يا أستاذ منعم أنت فين وسايبنى لوحدى فى المصيبة دى شفت اللى بيحصل يا أستاذ منعم؟ روهنا شعرت بكل أعراض الشلل تهاجمنى بدون إنذار وتوقف عقلى عن التفكير والتدبير وأنا فى مثل هذا الوضع الذى لا أحسد عليه فهل أطلب منها أن تغمض عينيها للحظات حتى أتمكن من الدخول إلى غرفتى وارتداء بنطلونى أم أتقدم لإنقاذها أولا وقبل أى شىء وكما قال الأستاذ زكى رستم أن الدقيقة بتفرق فى الحروب يا نوال وكدهون وقبل أن أتوصل لقرار حكيم ينقذنى من تلك الورطة فوجئت بالست انشراح تقف على السلم الخشبى فى شرفتها وتصعد وتهبط عليه بكل رشاقة وحماس وقد اختفت كل شكواها من آلام المفاصل التى تعانى منها حتى اعتقدت للحظات أنها محاولة منها للقفز الحر من الشرفات لكسر الرقم القياسى للقفز فى المنطقة ولكن هل حقا ستنتحر وكدهون وقبل أن أطلب منها إعطائى فرصة للدخول إلى غرفتى توقفت فجاة عن الكلام المباح والصراخ المزعج وصعدت سلمة أخرى على السلم الخشبى وأمعنت النظر طويلا فى عكس الاتجاه وكأنها تشاهد كائنات لا يراها غيرها ثم شهقت شهقة أعلى من شهقة الملوخية وعادت تهمهم بكلمات سريعة غير مفهومة ثم أخذت وضع الاستعداد للمرحلة القادمة، بينما أنا أحاول أن أتراجع للخلف فى أثناء ذلك وانشغالها بملاحقة كائناتها الخفية وكدهون، فجأة سحبت التليفون المحمول من على المنضدة وفتحت كاميرا التليفون وهى تهذى بكلمات مبهمة وبدأت فى إرسال تهديد صريح بالفضيحة والجرسة واستدعاء والشرطة وكدهون، وقفت أستمع لكل تهديداتها هذه وأنا فى حالة إعياء شديد من كل ما يحدث وخصوصا أنها تتحدث بمنتهى العصبية وتلعن البجاحة وقلة الأدب والأيام الغبرة إلى خلت الناس تقلع برقع الحيا وتمشى بملابس فاضحة ترى هل تقصدنى أنا أم الكائنات الاخرى التى لا أراها؟؟ كيف أشرح لها انى خرجت مسرعا لإنقاذها دون أن أدرى بأنى بدون بنطلون البيجاما وكدهًون وقبل أن اتوسل لها أن تستر على وتتركنى أتراجع للخلف دون أن يشعر بى جموع المشاهدين فى الشرفات وكدهون اطلقت صرخة مدوية فى وجهى قائلة: يعجبك الحال المايل ده يا أستاذ منعم؟؟؟ إحنا كلنا عائلات محترمة وما يصح كده أبدا يا أستاذ عيب عليك وعلى كل الرجالة اللى واقفين ساكتين!! فخرج صوت رفيع من حنجرتى يتوسل لها بكرامة مجروحة: يا ست انشراح إن الله حليم ستار وما فيش داعى للفضايح خصوصا يعنى وأن الهدف من البداية كان نبيل وكدهون تجاهلت كلامى وعادت للنظر مرة أخرى فى نفس الاتجاه المعاكس وقد رفعت كاميرا المحمول لتصوير الواقعة الوهمية فاستغلت الفرصة وقفزت قفزة ثقة لوسط غرفتى وارتديت بنطلون البيجاما بعد طول معاناة وعدت لها من موقف القوة وقد ارتديت كامل ملابسى؟؟ فصرخت فى وجهها لأول مرة وقلت لها: ماذا يحدث بالضبط؟ ولماذا تصعدين على هذا السلم الخشبى؟؟ وأى شىء تقومين بتصويره؟؟ فقالت بمنتهى العصبية: يعنى أنت مش شايف قلة الأدب والسفالة إلى بتحصل قدامك؟؟ نظرت فى نفس الاتجاه وحاولت أن أجد أى شىء دون جدوى ولم أجد شيئا مما تذكر فاقتربت من صور شرفتها فى حذر وتردد وقلت لها: لامؤاخذة يا هانم أنا مش عارف حضرتك بتحكى عن إيه وزعلانة ليه؟؟ فأرسلت لى نظرات نارية تطايرت شرارتها فى وجهى وهى تصرخ: عايز تشوف إيه يا أستاذ منعم هو ده يصح ياراجل يامحترم؟؟ عايز تتفرج على ست خليعة قلعت برقع الحيا وماشية تتمختر وكدهون تراجعت على الفور وأدركت أن جارتى ترى أشياء لا يراها غيرها وتتوهم أشياء تحدث وأصوات لا نسمعها فقلت لها : أنا بصراحة لا أرى شيئا؟؟ فقالت لازم تقف على كرسى عالى علشان تقدر تشوف الولية العايبة وهى فى أوضتها وكدهون قلت لها ولماذا أقف على كرسى؟؟ فردت على الفور: حتى تراها بوضوح وهى فى غرفة نومها يا أستاذ، فقلت لها وقد نفد صبرى ولماذا أتجسس عليها وهى فى غرفة منزلها؟؟؟ فصرخت مرة أخرى فى وجهى: ما هى فاتحه الشباك على الآخر يعنى يصح كده؟؟ أى شاب يقف على سلم أو كرسى ممكن يشوفها وهى فى أوضتها باللبس المبتذل ده وبعدين هو مفيش نخوة؟ ترضى لابنك يشوف المناظر دى؟ فقلت لها وإيه اللى يخلى ابنى يراقب الجيران من شباك المنور وكدهون وقبل أن نستكمل حديثنا العبثى هذا سمعت صوت سارينة النجدة تتقدم الصفوف وتتوقف أمام منزلنا وكأنهم بصدد القبض على سفاح محترف أو جاسوس هارب وكدهون وقف أحد الأشخاص يفتخر بأنه هو من استدعى الشرطة بينما قال الآخر وأنا أنظر إلى صورتها بكاميرا الموبايل ونزلتها على السوشيال ميديا علشان تفضحها وتعرف أن الشارع ده كله رجالة جدعة وكدهون أطلقت السيدات الزغاريد وتبادل الجميع التهانى بالقضاء على وكر الرذيلة وكدهون هبط الشرطى وفى يده عروسة بلاستيكية عملاقة ترتدى مايوه بكينى وتساءل بعصبية مين اللى بلغ عن العروسة البلاستك دى يا حضرات؟؟ فصمت الجميع وساد السكون المكان حتى انصرفت النجدة وكدهون تعالت الصيحات مرة أخرى مرددة حتى لو عروسة بلاستيك احنا رجالة ووقفنا واقفة رجالة ومانوفقش بالحال المايل أبدا ؟؟.