الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. احكى يا هالة

كدهوّن!.. احكى يا هالة

عندما تحكى نساءُ الشرق لا بُدّ أن ينصت الرجال ويمتنعوا تمامًا عن الكلام المُباح وغير المُباح حتى تنتهى النساءُ من سرد حكاياتهن التى قد تطول أو تقصر، ولكنها فى النهاية تكشف المسكوت عنه فى مجتمع يهتم بالقضايا العامة والأحداث الكبرى التى تحدد مصير العالم ويترك للنساء مهمة غزل التفاصيل اليومية بمشاعرهن الفياضة وأحلامهن المجهضة على أعتاب العادات والتقاليد البالية لكى يَعدن تشكيل الواقع بمزيد من الجمال والحرية والعدالة.



 

هكذا نشأت أسطورة (شهرزاد) التى ظلت تحكى لألف ليلة وليلة لشهريار حكاياتها وحكايات نساء أخريات يتحملن جميع أنواع الضغوط الحياتية ويتألمن فى صمت من قسوة الرجال عليهن حتى أدرك شهريار حجم الجُرم الذى ارتكبه فى حق النساء وتطهَّرَ من كل امراضة النفسية التى جعلته يقتل امرأةً كل يوم كإجراء روتينى يتكرر كل يوم حتى اعتاد الجميع عليه ولم يعد يرون قبح هذا الفعل من كثرة تكراره يوميًا، وهكذا صنعت شهرزاد أسطورتها وأعادت خلق مجتمع جديد لا تُقتَل فيه النساء ويسعد الرجال بممارسة حياة طبيعية تخلو من قتل النساء وكِدَهُوَّن.. كلما ذهبتُ لمشاهدة فيلم من إخراج امرأة أتذكر تلك الأسطورة وقدرة شهرزاد المهولة على الحَكى ونَسْج التفاصيل الصغيرة لكى تصنع واقعًا مختلفًا تمامًا نراه فى حياتنا اليومية، وقد يراها البعض مجرد مبالغات نسائية مملة ومتاجرة بقضايا عفَى عليها الزمنُ وكِدَهُوَّن.. وأنا فى طريقى لمشاهدة الفيلم التسجيلى (من القاهرة) للمخرجة هالة جلال، وأنا رجل مُحمل بموروث سينمائى كبير يسخر من الحركة النسائية ومن محاولات المرأة المصرية لإيجاد مكان لها فى مجتمع رجالى حتى تحوّلت المرأة فى بعض الأفلام الأبيض والأسود لمادة خصبة لإثارة السخرية والتهكم من رغبتهن فى الحصول على حقهن فى المساواة مع الرجل.. ولا أزال أتذكر جيدًا الفيلم الغنائى المرح (بنات حواء) بطولة محمد فوزى ومديحة يسرى والذى قُدّم عام 1954؛ حيث بدأ الفيلم بمشهد تخيلى لجمعية نسائية تتشابك النساء بالأيادى لأنهن يرفضن الاعتراف بأعمارهن، وهكذا ينتهى المشهد بضحكات الجميع على تفاهة المرأة التى قد تفسد اجتماعًا مُهمًا لأسباب تافهة، وتستمر أحداث الفيلم هكذا حتى نسمع على لسان البطلة على سبيل الهزار أو الخطأ بأن الله قد خَلق المرأة للزواج وإنجاب العيال وطبخ الملوخية، ويستمر الفيلم على هذا المنوال حتى عادت البطلة لرُشدها فى نهاية الفيلم من وجهة نظر صناعه وتنازلت عن نجاحاتها وطموحها حتى تتزوج من البطل وتنجب وتطبخ ملوخية وكأنها النهاية السعيدة لأى بنت طبيعية وليذهب طموحها إلى الجحيم وكِدَهُوَّن.. بدأتُ مشاهدة الفيلم التسجيلى من القاهرة وأنا قلق مما سيقدمه من قضايا نسائية قد تتحول إلى بكائيات ومبالغات.

وكِدَهُوَّن توجستُ خيفة وأنا أشاهد المُخرجة ذات نفسها تستقبلنا فى اللقطات الأولى من الفيلم كى تحكى لنا حكايتها هى أولاً وقبل أى شخص آخر، وكأنها بذلك تفتح الطريق أمام العديد من النساء لسرد حكاياتهن دون خوف أو تردد لتبث لنا مخاوفها الدفينة والتى تعمدت إخفاءها عن الجميع، ولكنها اليوم قررتْ أن تعترف بخوفها طواعية وبكامل إرادتها وعلى الملأ وكأنها بذلك قررت أن تتطهر من هذا الخوف الذى يلازمها منذ طفولتها كرفيق الرحلة، فتعترف أنها تخاف من الطريق والضجيج والسيارات والنوم والطيران والقيادة ومن التواصل مع الناس ومن نظرة المجتمع لجسدها كملكية عامة من حق الجميع أن يشاركها أى قرار بشأنه حتى تحوّل جسدها لعبء كبير يشغل فكر المجتمع كله.. وهكذا تسرد «هالة» تفاصيل كثيرة ومتشابكة تعوق خطوتها وتدريجيًا تتلاشى تلك المخاوف على الشاشة وتغيب هالة لتفسح الطريق لحكايات هبة وآية والتى تتشابه مع حكايات فتيات كثيرات من الممكن أن نقابلهن فى حياتنا اليومية وكِدَهُوَّن.. تدريجيًا تلاشت مَخاوفى من مشاهدة بكائية نسائية ومظلمة من وضعهن فى مجتمع ذكورى لا يعترف إلا بالرجال الأقوياء، ولكننا استمتعنا بضحكتهن المصاحبة بأغانى عبدالوهاب ووردة وكِدَهُوَّن أخذتنا هالة فى جولة حرة غير مباشرة لمتابعة حياتهن وكأننا جزء من هذا العالم المبهج من خلال لقطات بسيطة ثابتة وأداء طبيعى غير مفتعل ولا مصطنع وكأننا نتابعهن من ثقب الباب ودون أن يشعرن بوجودنا وهن يمارسن حريتهن الشخصية داخل مملكتهن التى خَلقنها بعيدًا عن ضجيج المجتمع وصخب المدينة وينطلقن فى حكى مستمر دون مَلل أو كَلل وكأن كل واحدة منهن هى شهرزاد هذا الزمان بحكى حكايتها كى يتطهر المجتمع من أمراضه النفسية لتأتى لحظات مبهجة للخروج من هذه المتاهة باللجوء إلى الفنون والرياضة، فنساء الفيلم تخلصن من أزمتهن مع المجتمع عن طريق الفن التشكيلى والإخراج السينمائى والمونتاج والرياضة، فقد أصبحن أكثر قوة واستقلالية وسعادة. الفيلم بعكس ما توقعتُ يتحدث عن السعادة والقوة والحرية الشخصية وكِدَهُوَّن.. انتهى الفيلم وفى دماغى يرن بإلحاح مونولوج إسماعيل يس «كلنا عايزين سعادة بس إيه هى السعادة ولاّ إيه معنى السعادة قولى يا صاحب السعادة يعنى إيه هى السعادة» وكِدَهُوَّن.. فيلم هالة يحكى عن السعادة والحرية الشخصية والنجاح من خلال حكايات نساء نجحن فى الخروج من النفق المظلم بإرادتهن وليس منحة من أحد واستمددن قوتهن عن طريق ممارسة الفنون والرياضة؛ حيث هى المتنفس الشرعى لكسر حالة الجمود والعُزلة النفسية وخَلق لهن مساحة حرة يتنفسن فيها نسيم الحياة دون تدخلات أو إملاءات من الآخر