
حسن عيسى
كدهوّن!..خالتى شادية
نشأت وترعرعت وسط أسرة مقتنعة تمامًا بما لا يحمل أدنى شك بأن خالتى صباح نسخة متكررة من الفنانة شادية من حيث الشكل والشخصية والخفة والدلع والموهبة.
وكِدَهُوَّن ارتبط اسم شادية داخل أسرتى بأنها تلك النجمة التى تشبه خالتى صباح وليس العكس، مما أثر بشكل كبير على شخصية خالتى ذات نفسها فى تعاملها مع نفسها بوصفها نجمة وتعاملها معنا بوصفنا جمهورها الحبيب وليس أفراد أسرتها الحبيبة، فكانت كثيرًا ما تتقمص شخصية شادية وتشكو من ملاحقة المعجبين لها فى الشوارع والمحلات من شدة الشبه بينهما، كما كانت تعتقد والأسرة أيضًا ترسخ بداخلها هذا الاعتقاد؛ خصوصًا جدتى لأمى التى ترى ابنتها أجمل من شادية ولكنه الحظ الذى يحكم مصائر البشر كما كانت تردد دائما وكِدَهُوَّن.
من ناحيتها لم تقصر أو تتكاسل خالتى صباح فى أى خطوة تقرّبها من شبيهتها ومحبوبتها حتى كادت أن تتقمص روح شادية فى كل شىء فصارت تغير تسريحات شَعرها باستمرار وفقًا لأى جديد يطرأ على شَعر الست شادية، فتارة تصبغه باللون الأسود وتارة أخرى نجده أشقر فاتح ثم بُنى ثم أسود مرة أخرى وكِدَهُوَّن، وكم كانت حيرتها عظيمة عندما ذهبت لدار العرض السينمائى لتفاجأ بأن شادية يُعرض لها فيلمان فى نفس الفترة بتسريحة شعر مختلفة فنجدها فى (معبودة الجماهير) بشعر أسود طويل ينساب بنعومة على ظهرها بينما وجدتها فى فيلم (كرامة زوجتى) بشعر قصير عصرى مما جعل خالتى تلجأ إلى استخدام الباروكة لأول مرة ذات شعر طويل يشبه شعر معبودة الجماهير وتستخدم باروكة أخرى قصيرة تشبه تسريحتها فى فيلم (كرامة زوجتى) حتى تشعر بأنها تستطيع أن تكون الشخصيتين فى نفس الوقت كما فعلت شادية وبنفس البراعة والإتقان.
ولم تكتفِ خالتى صباح بذلك بل كانت تتعمد أن ترتدى أزياء تحاكى موديلات الأزياء التى ترتديها شادية فى أفلامها فكانت تقص صورها من المحلات وتعلقها على حائط غرفتها حتى تكون أمام عينيها طوال الوقت، وأحيانًا تصطحب معها الخياطة الجريجية التى تفصّل لها تلك الأزياء إلى دار العرض السينمائى لتعاين فساتين شادية بنفسها ونقلها بكل تفاصيلها، وكِدَهُوَّن تحولت خالتى مع الوقت وبكثير من الإصرار والإرادة لنجمة السهرات العائلية، فالجميع يتودد لها لكى تغنى فى أعياد الميلاد وحفلات الخطبة التى كانت تقام فى ذلك الوقت بالمنازل، وكان لخالتى برنامج فنى صارم جدًا فى حفلاتها العائلية لا يتغير أبدًا فتبدأ بأغنية «يا دبلة الخطوبة عقبالنا كلنا» وبعدها مباشرة تغنى أغنية «مكسوفة مكسوفة منك»، حتى تعطى العروسة فرصة لإظهار خجلها المفتعل أمام العريس الذى يصدقها ويضحك بسذاجة معلنًا سعادته بخجل عروسته، إمّا إذا كان سبوع مولود فكانت تغنى «حالقاتك برجالاتك حلقة دهب فى وداناتك» ثم أغنية «واحد اتنين أنا وياك ياحبيب العين».
ولا أدرى حتى الآن لماذا كانت تصر فى أعياد الميلاد على غناء أغنية «حنة يا حنة يا قطر الندى» دون أن يكون لها أدنى علاقة بعيد الميلاد وتنهى دائمًا وصلتها بأغنية «إن راح منك يا عين هايروح من قلبى فين»، وندرك نحن بخبرتنا كجمهور واع بأن خالتى قررت تنهى فقرتها وكأن هذه الأغنية هى النشيد الوطنى الذى يذاع فى نهاية الحفل وكدهُوّن.
وكِدَهُوَّن استمر الحال فى منزل جدتى هكذا لمدة طويلة حتى إن الجميع صار يدلل خالتى صباح باسم «شوشو» على اعتبار أنها البديل الطبيعى لشادية ومع الوقت نسينا أن اسمها الحقيقى هو صباح حتى انتهت من دراستها الجامعية وجاءت الشهادة باسم صباح وليس شادية وكِدَهُوَّن.
وواجهت خالتى أولى صدماتها عندما ارتبطت عاطفيًا بشخص مناسب لها فى كل شىء إلا أنه رفض أن تغنى أمام الجميع؛ خصوصًا أنه شخصية علمية جادة جدًا ولا تميل للفنون بشكل عام ولا يقبل بأن تقف زوجته المستقبلية تتغنى وتتمايل مع الألحان والموسيقى أمام الرجال حتى لو كانوا من أفراد أسرتها، فما كان من خالتى بعد تفكير قليل وبعند شديد إلا أن تقرر الانفصال عنه رغم حبها له لأنه لم يُقَدّر موهبتها حق تقدير بل وسخَر من عشقها الفن وقالت له بأداء فى فيلم (أغلى من حياتى): إحنا مش لبعض يا أحمد، ثم أجهشت بالبكاء المرير وكأنها تلعب دورها على مسرح الحياة وتنتظر تصفيق الجمهور، إلا أننا لم نصفق لها وهى تضحى بحبيبها من أجل الفن الذى لم ولن تحترفه أبدًا وكِدَهُوَّن، استلمت عملها كطبيبة بأحد المستشفيات وذاع صيتها وسط الأطباء والمرضى على السواء بأنها تلك الطبيبة التى تغنى أغانى شادية أثناء الكشف على المرضى وأيضًا داخل غرفة العمليات فكانت تغنى «أنا قلبى معاك إن شالله تروح آخر الدنيا تروح آخر الدنيا» وكِدَهُوَّن، وعندما رحل جدى وقفت بمفردها تغنى «قالى الوداع قالى الوداع حط إيده فى إيدى وقالى الوداع» وانفجرت بالبكاء وهى ترد أغنية «آخر ليلة» وكِدَهُوَّن، والغريب أن خالتى صباح ظلت على وفائها لشادية حتى عندما ارتدت الحجاب قررت خالتى هى الأخرى ارتداء الحجاب ولكنها لم تتوقف عن الغناء فى كل مراحل حياتها وكانت ترحب بنا عندما نقوم بزيارتها بابتسامتها المشرقة دائمًا وهى تغنى «مصر اليوم فى عيد» وكِدَهُوَّن.
دارت الأيام وأصبح أطفال الأسرة على أعتاب الشباب واكتشفنا الحقيقة الصادمة أن ملامح خالتى بعيدة كل البعد عن ملامح الفنانة شادية وتعجبت كيف اقتنعت الأسرة كلها بتلك الأسطورة الوهمية طوال هذه السنوات وكيف صدقتها خالتى صباح ذات نفسها وتعاملت معها كحقيقة واقعية غير قابلة للنقاش وكيف انتشرت وتوغلت وتعمقت فى محيط الأهل والأصدقاء والمعارف حتى أدركت أخيرا أن ما جمع بينهما هى نداهة الفن والروح المحبة والقلوب الطيبة وكدهون.
سلامًا إلى روح شادية وكل الأرواح الطيبة.
والمقال له جزء تانى الأسبوع المقبل بدراسة نقدية لأفلام شادية.