الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. يا عزيزى كلنا معاطى

كدهوّن!.. يا عزيزى كلنا معاطى

بعد يوم عمل مكثف وصاخب جدًا  قررت العودة سريعًا لحُضنى منزلى الحبيب وأنا أحلم بالهدوء والطمأنينة وراحة البال وطبيخ زوجتى الشهى، ثم أحتسى قهوتى على الكرسى الهزاز الخاص بى وأنا أشاهد التليفزيون وكِدَهُوَّن.. وما أن اقتربت من الحى الذى أقيم به حتى تقدم منّى شخص عملاق وهتف فى بَلادة متعمدة: لو سمحت يا عمو ماتعرفش فين مكان قهوة  معاطى؟ وتعجبت  لماذا افترض  هذا العملاق  المتبلد  أنى فى سن عمّه؟ وأعاد بغباء يُحسَد عليه تكرار سؤاله مصحوبًا بلفظ «عمّو» للمرة الثانية على التوالى مما أصابنى بصدمة كبيرة جعلتنى لا أنتبه لسؤاله عن تلك القهوة اللعينة واكتفيت  فقط بنظرة نارية مع كرمشة ملامح وجهى فى غضب واضح واكتفيت بإجابة ساخرة  لم يفهمها ذلك المتبلد: عمّك ما يعرفش العنوان ده يا ابن أخويا.



تركته واقفًا ينظر لى بذهول وأنا أراقبه من خلال مراية  سيارتى وأبتسم لانتقامى الساخر من هذا العملاق المتصابى الذى يتوهم أنى بعمر عمّه وكِدَهُوَّن.. وواصلت السير  وأنا سعيد بانتصاراتى الصغيرة حتى استوقفنى أحد الأشخاص مرة أخرى ليسألنى أيضًا عن عنوان قهوة معاطى، فأوضحت له بتعالى العارفين بمواطن الأمور بأن هذا الحى الذى أقيم فيه منذ سنوات هو حى سكنى فقط وغير مصرّح بإقامة أى مشروع تجارى به ولو كان مجرد قهوة، ولذلك أنت تبحث عن المكان الخطأ وكِدَهُوَّن.. إلا أنه نظر لى نظرات شك وريبة وكأنى مجنون هارب من مستشفى المجانين للتو وتركنى مبتعدًا عن سيارتى وهو يقول: أنا مش فاهم منك ولا كلمة ياجدع أنت بالع راديو فى زورك؟  وقبل أن أنطق وأرد إهانته لى كان قد ابتعد عنى وكِدَهُوَّن.. أفاجأ برقبة طويلة تنتهى برأس رجل تدخل لى من شباك سيارتى  ويكاد يسحب كل الأوكسچين من الجو وهو يكرر نفس السؤال اللعين عن قهوة  معاطى، حتى شعرت أنى ضحية لإحدى حلقات الكاميرا الخفية وسوف يظهر المذيع ضاحكا  وهو يقول لو عايز تذيع قول ذيع وكِدَهُوَّن.. قررت أن أحافظ على هدوئى وأنا أكرر إجابتى  بالنفى المغلف بابتسامة باردة، إلا أنه مد رقبته نحوى  فى إلحاح مزعج ويشير إلى ورقة أخرجها من جيبه ويؤكد بإصرار جنونى قهوة معاطى بجوار مطعم  أم إبراهيم. وقبل أن أرد عليه بنفس العصبية تذكرت أنى قد سمعت تلك الأسماء قبل ذلك، ولكن أين ومتى يا منعم؟، وقبل أن أنطق شلت يدى من هول المفاجأة وهاتفت ياويحى هل يمكن أن يكون معاطى هذا  هو نفسه معاطى خفير منزلى وزوج أم إبراهيم  التى تساعدنا فى البيت؟ هم قرروا ترك العمل لدينا بدون سابق إنذار وإقامة مشروع تجارى خاص بهم؟ يالها من ندالة وخسة لم أتوقعها على الإطلاق منهم،  ثم  كيف لى أن أواجه زوجتى عندما تعلم بأن أم إبراهيم قد تركتنا بهذه الطريقة الغادرة؟ خاصة وهى تطلق علىّ دائمًا محامى أم إبراهيم لدفاعى المستمر عنها وتبرير تصرفاتها وكِدَهُوَّن.. ستستمر زوجتى فى تذكر هذه الواقعة لسنوات طويلة قادمة لتبرهن للجميع أنى رجل ساذج وأنى أنخدع بسهولة شديدة فى البشر  وكِدَهُوَّن.. توجست خيفة وأنا أقترب ببطء وحذر من منزلى وسط تلك الأفواج القادمة من كل اتجاه نحو مدخل منزلى الهادئ أو على الأصح الذى كان هادئا حين تركته هذا الصباح فأصابتنى الدهشة عندما شاهدت كل هذا الجمع الغفير أمام منزلى وصار قلبى يدق بعنف وعقلى يرفض أن يستوعب الموقف وأنا أكرر بغباء سؤالاً من كلمتين فقط  ماذا حدث؟ماذا حدث؟ اقتحمت الحشود لأقف مذهولا أمام لوحة خشبية كتب عليها بالخط العريض؛ قهوة الأمانة لصاحبها معاطى وأولاده، وقد وضع عددًا لا بأس به من المقاعد الخشبية الصغيرة فى مدخل منزلى مما يعوق الدخول والخروج  وصوت بداخلى يصرخ أين هى هذه الأمانة يا معاطى وكِدَهُوَّن.. انتبهت من صدمتى على صوت هذا المعاطى وهو يصيح بصوت قهوجى محترف: ومعاك شاى تقيل سكر كتير وكِدَهُوَّن.. التفت خلفى لأجد الخفير المسئول عن حراسة منزلى الهادئ وفى يده صينية عليها أكواب زجاجية من شاى وباليد الأخرى شيشة نحاسية عتيقة يقدمها لأحد الأشخاص الجالسين بمنتهى الإرياحية فى مدخل منزلى وكأنه منزل المرحوم والده وكِدَهُوَّن.. هالنى ما رأيت فى مدخل منزلى الذى تحوّل إلى قهوة بلدى رديئة تمتلئ بالعديد من الطلبة الهاربين من اليوم الدراسى وبعض عمال البناء الذين يعملون فى بناء العمارات المجاورة وآخرين ليس لهم ملامح محددة وإن كان يغلب على ملامحهم علامات الإجرام الوسطى الجميل تقدمت بخُطى ثابتة وبطيئة وأنا أتأمل ما تبقى من مدخل منزلى وقد تحول رخام السلم إلى نَصبة لصنع الشاى والقهوة بينما الواد إبراهيم يرص حجر الشيشة للزبائن  فى نشاط وسعادة مجهولة الأسباب، بينما تقف أم إبراهيم تدير تلك المؤسّسة بكل حزم ونشاط وقد ارتدت جلبابًا ذات ألوان مبهجة على غير عادتها واتجهت نحوى مباشرة بمجرد أن شاهدتنى وتعمّدت  أن تستوقفنى قبل أن أستكمل سيرى وسط هذا السرك المنصوب وصاحت لى ضاحكة لكى تمتص صدمتى مما يحدث: حمد الله على سلامتك يا أستاذ منعم  أتفضل يا أخويا ادخل من المدخل الخلفى للمنزل أنا نظفته وخليته زى الفل وحطيت فيه كل الزرع اللى بتحبه  وكِدَهُوَّن.. نظرت لها شذرًا وأنا أسألها عمّا يحدث فى منزلى؟ فردت بمُكر ساذج: حصل كل خير يا خويا الرزق يحب السعى وأنا مش عايزة أسعى بعيد عن بيتك علشان لما تحتاجونى تلاقونى قدامكم وكِدَهُوَّن. نظرت لها ورائحة الكشرى تداعب أنفى وتدغدغ وجدانى وقبل أن أضعف أمام رائحة التقلية الرائعة، أخذت نفسًا عميقًا واستحضرت روح الأستاذ زكى رستم وقلت لها: أنت ما تعرفيش يا أم إبراهيم  إن ده مدخل عمارة محترم وإنك بمثل هذا التصرف الطائش غير المسئول بتعرضى نفسك للمساءلة القانونية وربما للحبس كمان؟ فضحكت وقالت لى فى عشم ومودة: ما تقلقش يا أستاذ منعم أنا عاملة حسابى ومرتبة كل حاجة وما البلدية بتعدى بعرف وبخلى العيال يشيلوا الكراسى والتربيزات فى لمح البصر وبشيل كل حاجة ولا كأننا موجودين ومعاطى يمد خرطوم المية ويقف يغسل العربيات وأنا أقف بمسح سلالم العمارة وكِدَهُوَّن.. قلت لها بمنتهى الحزم: قدامكم ساعة زمن وتشيلوا كل المولد ده من هنا وإلا هاضطر للجوء للشرطة ومش عايز أشوفكم هنا أبدًا. ثم تركتها مسرعًا  فى اتجاه المدخل الخلفى للمنزل؛ حيث اكتشفت أنه أصبح أجمل كثيرًا من المدخل الأمامى وكِدَهُوَّن.. دخلت منزلى لأجد ورقة معلقة على باب التلاجة تخبرنى فيها زوجتى بأنها سوف تذهب الإسكندرية لزيارة ست الحبايب حماتى بمناسبة عيد الحب  المصرى وستقضى معها أسبوع وستصطحب معاها أولادى لرؤية جدتهم وكِدَهُوَّن.. تنصحنى بتناول أى حاجة خفيفة من التلاجة كى لا أفسد النظام الغذائى الذى أتبعه لإنقاص وزنى  الزائد عن الحد وكِدَهُوَّن.. عاتبت نفسى الأمّارة بالسوء والتى تدفعنى فى لحظة طيش بطرد الست أم إبراهيم وزوجها الفاضل الأخ معاطى، شعرت بندم عظيم  فى قرارى المتسرع بهدم مشروعهم الطموح وكِدَهُوَّن.. قررت بعد تفكير طويل وعميق أن أصلح ما أفسدته منذ لحظات فتقدمت فى خطى ثابتة نحو  مقاعد قهوة معاطى وقبل أن أجلس طلبت من أم إبراهيم بصوت خجول أن  تترك كل شىء كما هو  وتجهز لى طبق كشرى كبير وتزود الشطة  والدقة، وقبل أن أنتهى من تناوله  صرخت بأعلى صوتى: عايز شاى تقيل سكر تقيل.