الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

هيكل يواصل حواره حول الإسلام السياسى لعبــــة المستقبل بين النظام والجماعات المتطرفة

الكاتب الذى لا يعرف قشعريرة الصدام مع العالم، يتحول إلى قلم «فلوماستر» أليف، استؤصلت منه غدد الرفض والقنص.



وبهذا المعنى لا يخشى محمد حسنين هيكل أن يصل الحوار معه إلى مناطق الخطر.. ومستودعات البنزين.. والمتاعب سريعة الاشتعال.

وقد بدأ طريق الحوار - فى العدد الماضى - بمحطة الإسلام السياسى.. وقبل أن نغادر هذه المحطة أضاف هيكل:

- فى واقع الأمر نحن أمام مشكلة «أمان» مجتمع.. وهى مشكلة أكبر من مجرد «تأمين» بالقوة. ثم.. توقف لحظة وكأنه يستدعى صورة ما.. وأضاف:

- فى ثورة 1919 خلعت هدى شعراوى غطاء الرأس، وحررت المرأة.. وجاءت ثورة 23 يوليو لتمنح المرأة حقوق التصويت والتعليم والعمل.. لكن.. فى أواخر السبعينيات بدأت مظاهرة الارتداد.. وعاد غطاء الرأس.. ولا أقول الحجاب.. إن هذا الغطاء راية احتجاج على عدم فهم ما يحدث.. راية يقول أصحابها: نحن نستسلم ونرفع الراية البيضاء.. نحن لا نعرف شيئا مما يجرى حولنا، لذلك فإننا نستر ونحمى رؤوسنا.

 إنها حماية مؤقتة وعاجزة للعقول الحائرة.

- إنها مظاهر وأعراض مشكلة.. ونحن كمجتمع لم نتفق على ما هية هذه المشكلة.. نحن نرى جزءا واحدا منها فقط هو الجزء المهدد للأمن.. ونتصور أنه كل المشكلة.. وهذا ليس صحيحًا.. والصحيح أننا نواجه مشكلة لا نعرفها.

كيف لا نعرف المشكلة وأصوات الرصاص والضحايا أصبحت عالية الآن؟

- اسمع.. المشكلة ضاربة فى تاريخنا الحديث.. فالحركة الدينية الراغبة فى الفعل المباشر، أو فى الوصول مباشرة إلى السلطة، بدأت بصدام الإخوان مع النظام الليبرالى الذى كان يمثله الوفد فى تلك الفترة.. لقد اصطدم حسن البنا ومصطفى النحاس.. وتصاعد الصدام فى سنة 1948، سنة حرب فلسطين، حيث استغل الإخوان ما حدث من اضطراب وانهيار.. فى ذلك الوقت كنت صحفيًا شابًا.. وأتذكر أن كل دور السينما كان بها قنبلة.. وأتذكر الاغتيالات التى لم تتوقف.. أحمد ماهر.. النقراشى.. الخازندار.. سليم زكى.. وغيرهم.. لم يكن يمر شهر إلا وتقع حادثة مدوية.. ودخل النظام فى مواجهة.. ونجح النظام فى المواجهة رغم أنه كان ضعيفًا.

 كيف؟

- لأنه كانت هناك بدائل أخرى مطروحة على الساحة.. الاشتراكية.. الديمقراطية.. والفكرة الدينية.

 

ومعظم هذه البدائل اختفت الآن.

- لقد شككنا فيها ووصمناها بما لم يكن فيها.

 لكن المشوار بدأ بعد ثورة يوليو.

- بعد الثورة كانت فترة الخلخلة الأولى للإخوان.. إن القمع لم يكن سبب القضاء على الإخوان.. وإنما الذى أنهى الموضوع تحدٍ أكبر فى جميع شئون الوطن.. مشروع قومى استوعب الطموح والآمال.. فى سنة 1965 جاءت أزمة جديدة فجرها سيد قطب.. وأنا مستعد أن أحترم رؤية سيد قطب، لكنه فى النهاية هو رد فعل وليس فاعلًا، فقد تأثر بأفكار أبوالأعلى المودودى القادمة من باكستان.. وأنصار سيد قطب لا يخفون ذلك.

وهى أفكار أعتقد أنها غير قابلة لأن تعيش فى مصر.. فهى أفكار مناسبة لأقلية مسلمة تعيش فى محيط من الأغلبية الهندوكية.. ومن ثم هى تعبير عن احتجاج، انسلاخى، كامل من جو يمتلئ بالتعصب والفتنة.. وهو جو لا وجود له فى العالم العربى.. فكل شيء هذا على نحو ما، أكثر اتساقًا وإن عنفت الصراعات الفكرية والسياسية والاجتماعية.

 إذن لماذا وجدت هذه الأفكار من يتحمس لها؟

- عندما تنظر إلى سنة 1965 تجد أنها فى غاية الأهمية بالنسبة لمصر.. فى تلك السنة انتهت خطة التنمية الأولى، والمرحلة الأولى فى السد العالى، وأنفقنا استثمارات قدرها 300، 400 مليون جنيه - وهو مبلغ ضخم فى ذلك الوقت - ولم يشعر الناس بعائد بسبب طبيعة هذه النوعية من المشروعات والاستثمارات، فبدأ التململ، ثم ازداد التململ بسبب أزمة حرب اليمن، وبسبب الأعراض الجانبية المصاحبة لبقاء نظام فى السلطة لمدة طويلة.. وفى هذا المناخ ظهرت حركة محدودة، تمت مواجهتها، بصرف النظر عن كيفية ذلك.

 لكن هذه المواجهة لم تمنع تفريخ أجيال جديدة شابة اعتبرت سيد قطب زعيمها، رغم أنه لم يعد على قيد الحياة.

- إن ذلك حدث فيما بعد حينما وجدت الأفكار الانسلاخية مناخًا من الاغتراب الفكرى والاقتصادى بدأ يستشرى فى أجواء الانفتاح وما صاحبها من مظاهر.. فحادثة الفنية العسكرية - التى أعتقد أنها حركة احتجاجية - يمكن أن نقول أن بعض أفرادها كانوا من المحتجين على ما حدث فى 1965.

 كان مثيرًا للدهشة أن تحدث واقعة الفنية العسكرية بعد 6 أشهر فقط من حرب أكتوبر، وهى الحرب التى أعادت لنا الكثير مما فقدناه فى حرب يونيو.

- ابتداء من بعد حرب أكتوبر كانت التوجهات والاختيارات، - والتى لا أناقش صحتها - من شأنها أن تحدث تناقضا بين حاضر المجتمع، وماضيه.. ولم يكن تناقضًا بالدرس والتحليل وإعادة الفحص، وإنما كان تناقضًا بالحملات والتشهير.. كان من الممكن أن نقول أن مصر - الثورة أنجزت مرحلتها ونحن نريد أن نستبدلها بشيء آخر.. لكننا قلنا أن الأمس كان إجراميًا، مع أن جزءًا من الذين قالوا ذلك، كانوا شركاء فى الماضى.. لقد زرعوا فى الناس عقدة الذنب وحاسبوهم على ما لم يرتكبوه.. وبعد هذه الاختيارات أصبحنا مجتمعًا بتروليًا دون أن يكون لدينا بترول.. مستوى الأسعار والتطلعات ومستوى الفوارق بين الطبقات.. ولاحظ أن مجتمع البترول هو المجتمع الذى اختار قبل غيره فى العصر الحديث أن يظهر على الناس بعبادة الإسلام.

هذه الحيرة، وهذا التناقض هو الذى أخرج إلينا أجيال الاحتجاج.. وقد رأيت بعضهم فى السجن.. فى سنة 1981.. كان كل الموجودين بقايا مما كان ذات يوم، ماعدا شباب التيار الدينى الجديد، الذى بدا رافضا لكل ما هو قائم.. ويكاد يكون رافضًا للحياة.

مثال ذلك.. شاب كان فى السنة النهائية بكلية الهندسة، عندما حاولت أن أكلمه فى السياسة رفض. وقال: إنها شئون دنيا.. وعرفت أنه كان فى خلوة بالجامع عند القبض عليه لمدة 40 يومًا.. وكان عمره 21 سنة.. ومعنى ذلك أنه يفضل الانسحاب من الحياة ويرفضها.

وهؤلاء الشبان - عندما تراهم وتسمعهم - تقول على الفور أنهم ليسوا منتمين لمحن صدام التيار الدينى والسلطة فى 1948، و1954، و1965، ولا لشرارات حوادث العنف التى وقعت فى 74 و1977.. لكنهم وافد جديد على الساحة، وهو وافد قادم من باب المجتمع وليس من باب الدين.

الدين بالنسبة لهؤلاء هو عودة إلى الاحتماء بالنص.. فالنص هو القانون الوحيد الذى يمكن أن يكون معه، وهو مفهوم له، وفى غياب الأشياء الأخرى، لا يجد سواه.. كما أنه يعطيه ولاء غير محدود، وتصرفًا جريئًا مثل إلقاء قنبلة على أتوبيس سياحى، دون أن يدرى ما هى السياحة، وماذا تفعل؟

 وربما لايدرى ما هى السياسة أيضًا؟

- نعود مرة أخرى ونؤكد أن كل دين سياسة، فالدين فى واقع الأمر محاولة لتفسير الحياة منذ نشأتها إلى نهايتها ولك أن تختار.. وفى الإسلام الله موجود معك، وليس مفارقًا لك، وهو يراقب تصرفاتك.. ولكن آفة الدولة الإسلامية، كانت الضعف السياسى، وتصارع الولاة.. وهذا حدث فى كل دين.. ولكن فى المجتمعات الأخرى - سواء كان هذا صحيحًا أم خطأ - قوانين السياسة منفصلة من تعاليم الدين.. المجتمع الأمريكى مثلًا لا ينفق على مدرسة دينية.. ولكن.. فى بعض الولايات نجد من يمنع تدريس نظرية النشأة والتطور لداروين.

وكما فى السياسة، فى الدين، كل قضية إما أن تجد من يتكلم عنها، أو من يستغلها، ثم بعد ذلك لابد أن ترى كيف حدث ما حدث وما هى أسبابه؟

ولماذا لجأنا إلى الكهنة، ولماذا رجعنا مرة أخرى إلى قرب النصوص الحرفية من غير الاستعانة باجتهادنا الإنسانى الذى نحن مكلفون به.

إذا فعلنا ذلك فأنا أعتقد أننا سنكتشف أن المشكلة ليست كبيرة إلى هذه الدرجة، وفى واقع الأمر فهى ليست كبيرة.

فى مصر مشكلة وأزمة.. نعم.. ولكنها ليست أزمة الدين أو أزمة التيار الدينى.. هنا مجتمع يحتج على أشياء يراها ولا تعجبه ولا يوافق عليها، وليست لديه وسائل تغييرها.. لذلك يلجأ إلى الابتعاد ويندفع إلى شيء آخر.. وإذا جئنا إلى هؤلاء المحتجين، فالحقيقة أنهم ليست لهم هذه الفاعلية التى ننسبها إليهم.

وإذا جئنا إلى موضوع السياحة بالذات.. أنا أعتقد أنها خطأ من جانب الدولة.. لأن ما جرى من حوادث كان محصورًا ولا يساوى كثيرًا.. هم الذين يكبرون هذه الأشياء.. فلو حصرنا كل حوادث ما نسميه الإرهاب سنكتشف أنها جميعًا محدودة، وتحدث فى مجتمعات طبيعية، عادية، لأن فى كل المجتمعات هناك قلة من الناس يصل بها الاحتجاج إلى القيام بأى عمل من هذا القبيل.

فى أمريكا أحد المواطنين اغتال كيندى رئيس الجمهورية.. هل قال أحد أن أمريكا قد جنت وأن كل من فيها مجانين؟.. دع قصة اغتيال الرئيس السادات فهذه لها ملابساتها وظروفها، لكن دعنا نتحدث عما نراه اليوم.. الذى حدث أن كاتبًا قد اغتيل.. وجبهة في الاقتصاد الوطنى قد ضربت، أو يبدو ذلك.. ومع هذا فحتى هذه الهجمات محدودة جدا.

 هل هذا معقول؟

- أنا أفرق بين ما هو موجود اليوم وما يمكن أن يوجد غدًا.. لأن هذه الحوادث المحدودة التى نراها اليوم هى عملية تدريب وبروفات عما يمكن أن يحدث غدًا.. لذلك أنا خائف من الغد.. أما ما يحدث اليوم فلست قلقًا منه إلى هذه الدرجة.

الكارثة التى أحدثت هذا الأثر الاقتصادى أنك ضخمت الحوادث وجعلتها خارج حدودها.. النتائج التى حدثت جاءت بسبب المبالغة.. وأنت لم تبالغ لأنك مجنون.. وإنما لأن حساباتك تنحصر فى أنك راغب فى عزل هذه الفكرة عن المجتمع، وعزل هذا التيار عن الجماهير.. كل هذا يحدث اليوم وفى الذهن ما سيحدث فى الغد.. الموجود اليوم لا يقلق.. صبى صغير ألقى بورقة فى معبد الكرنك يحذر فيها السياح من الاقتراب.. أنت كبرت هذه الحادثة وقامت الوكالات بنقلها عنك، والناس فى الخارج تعرف أنك أفضل حكم على شئونك.. وعندما وجدوا أننا نكبر ذلك، كان من الطبيعى أن يسايرونا.

 الخوف إذًا من الغد؟

- نعم لأن اللعبة بين الدولة والجماعات لعبة على المستقبل.. الدولة لا تخاف منهم الآن وإنما تريد أن تعزلهم عن الناس لأنها تخشاهم غدًا.. وهم من جانبهم لا يتبينون ماذا يفعلون.. هم ساخطون وغاضبون وناقمون، والناس لا تسايرهم فى العنف وإنما تسايرهم فى جزء كبير من الانكسار.

إن الشعور العام للناس هو ضيق مما يحيون فيه وإحساس بالانكسار.. والبعض يتصور أن ما يدور فى قمة المجتمع غير معروف فى القاع.. فى أكبر 7 فنادق فى القاهرة نجدهم يحصلون على دخل من 23 - 25 مليون جنيه شهريًا من تكاليف الزفاف والحفلات الخاصة، وهذه الأرقام من دراسة لجامعة أجنبية عن أنماط الحياة الجديدة فى مصر وهى تؤكد أنه إذا كنت تتصور أن هذا غير مسموع فى أسفل المجتمع تكون واهمًا.. فلا يمكن أن ننسى أن مجتمع القمة الكسول - حتى فى مبادئه - لا يستطيع أن يخدم نفسه وهو فى حاجة لمن يقدم له الطعام والشراب.. والذى يفعل ذلك ينقل ما يراه ويقول.. وما يقول يزيد من حالة الانكسار والتباين والتمايز والتفاوت.. وهذا فى اعتقادى نوع من الإرهاب.

 تقصد أن ظاهرة الإرهاب لها أسباب اجتماعية؟

- أسباب اجتماعية حقيقية.. والناس المنضمون إليها ليس ما يفعلونه هو خيارهم الأول ولا الأخير.. الخطر فى الغد.. عندما تستفحل هذه الظواهر دونما علاج.. ما فعلته الحكومة هو أنها عزلت هذا التيار.. ولكنها ركزت جهدها فى الاكتفاء بالعنف دون غطاء سياسى.. وأصابتهم بضرر اجتماعى فإذا بنا ندخل فى حلقة مفرغة.

كل ذلك يؤكد أننا لم نعرف المشكلة بدقة.

- نحن أيضا لم ندرسها ولم نحللها ولو قمنا بذلك سوف تكتشف أن الجسم كله ليس مريضًا وليست الظاهرة بالدرجة الكبيرة التى نتصورها.. سنجد أن هناك مرضًا محددًا وفى كل مكان ما وتستطيع من هنا أن تبدأ العلاج.. نحن أمام خطر حقيقى ولكن علينا أن نحدد هذا الخطر بدقة لنحدد نوع المواجهة.. ومن هنا ننطلق.

بدون أن نفعل ذلك نكون كمن يتخبط فى الظلام، وأنا أحد الذين يعتقدون أن الحركات المتوسطة بالإسلام هى من أضعف ما يمكن فى هذه اللحظة.. فهى ليست على مستوى ما كانت عليه فى 1948، و1954 بالتأكيد، وفى اعتقادى أن الموجود حاليًا هو توسل بالدين إلى شيء آخر غير محدد فى الساحة الاجتماعية.

وعند تشخيص الظاهرة نقول أن هذه الحركة بلا قيادة وتيارها العام ليس دينًا بالدرجة الأولى، لكنها بالرغم من ذلك تعبير عن حالة عامة فى المجتمع.

وأول شيء يجب فعله هو البحث عن حجم الجزء المنظم فى هذه الحالة.. ولابد أن نسلم أن هناك بؤرا قابلة أو قادرة أن تأخذ قيادة تيار بهذا التوجه.

 كيف يكون العلاج؟

- لا بد أن نتفق أولًا على أن ما يحدث ليس علاجًا.. العلاج يبدأ بأن يكون لك هوية وتستقر عليها وتعلم أن الهوية ليست موضة أو تقليعة.. ولا بد أن تعرف من أدنت وماذا تفعل؟ وما هو هدفك؟

والمشكلة أنه بسبب الأوضاع والتطورات والضرورات السياسية أصبحت تخلط بين ما هو هوية وما هو دور، التبست كل المسائل واختلطت.. هل أنت عربى أم فرعونى اختار اجعل المجتمع يختار.. وقل له: أين سيذهب بالفرعونية.. أما إذا كنت جزءا من العالم العربى فلابد أن تستقر هذه المسألة فى ذهنك.. والهوية فى النهاية لابد أن تكون متسقة مع التاريخ والعصر والمستقبل والواقع.

 نحن عرب.

أى نوع من العرب.. نحن مجتمع قام فى الغيط والترعة والمصنع والكتاب، وصنع أشياء وليس عالة على أحد، وما فعله أثر فيمن حوله وخلق دائرة أبعد بكثير جدا من الحدود السياسية، لكنه الآن ليس واضحًا ولا يفرق بين الوسائل والغايات.

 كيف نكون أكثر تحديدًا ووضوحًا؟

- قبل أى شيء آخر عليك أن تعيد ترتيب مخك، ثم تعيد ترتيب خطابك العام للناس.. لابد أن تجعل الناس مجتمعين على هدف، وأن يكون هذا الهدف حقيقة.. لا أتحدث عن مشاريع المجارى ولا المدارس.. وإنما أتحدث عن تصور.. إلى أين نذهب؟ وماذا نفعل؟ إذا استطعنا الوصول.

 لكن الاعتداء على المجتمع لا يستطيع الانتظار حتى نحدد ذلك؟

- لا أحد يقول أن نترك المجتمع يعتدى عليه فى انتظار تبلور هويته.. قدرة المجتمع تختلف عن قدرة الفرد.. بمعنى أن المجتمع يستطيع أن ينهض بمسئوليات متعددة فى وقت واحد، لأن المجتمع قادر بحكم اتساع حدوده والفرد محصور.. اعمل سياسة أمنية مستنيرة، لكن هذه السياسة لابد أن يكون عندها تصور عن المكان الذى تضرب فيه، وفى الوقت نفسه لابد أن يكون هناك من يتولى عملية تحديد الهوية.

هل الهوية التى تقصدها مستوحاة من العهد الناصري؟

- نحن نقول إن الحياة بالنسبة لأى مجتمع مستمرة لكن كل جيل يعيد تفسير مهامه على ضوء المتغيرات التى حدثت فى العالم، والمشروع القومى يجب أن يدخل هذه المتغيرات فى حسبانه.. فلا أستطيع أن أقول اليوم.. قومية عربية أو وحدة عربية.. لأننى لو قلت ذلك أكون حالمًا.. لكن بالرغم من ذلك القومية العربية موجودة، والأسباب الداعية إليها مستمرة ولكن عليّ أن أعيد تفسيرها على ضوء احتياجات العصر.

لا نقول اليوم إنه لتحديد الهوية لابد من وحدة عربية.. لأن الصورة فى العالم العربى أصبحت مختلفة، ولكن لابد أن نجد توصيفا للدور الإقليمى.. الهدف هو نفس الهدف لكنك ستعيد ترجمته بما يلائم الظروف الواقعة.

وعندما نتكلم عن مشروع التنمية.. أكاد أن أزعم أن هناك بعض الإشارات الصحيحة والإيجابية فى المجتمع المصرى فى هذه القضية، لكن أقول فى نفس الوقت أن أحدًا لا يجمعها مع بعضها كمحاولة لتقديم صورة واضحة.

لا يتعب الناس أكثر من الغموض وأنصاف الحلول والعجز عن التوصيف.. الناس تتقبل القضية التى توضع أمامها كاملة.. وقابلة للمناقشة.. أو قابلة للإقناع بقدر ما هى قابلة للمناقشة.

قضية التنمية.. قل لى ما هو منطقك بالنسبة للتنمية.. هناك أشياء تتم لا بأس بها وأشياء أخرى غير مفهومة، وهناك مصالح تتحرك، لكن قل لى ماذا تريد أن تفعل فى التنمية؟.. هناك تخبط ما بين التمسك بالقطاع العام وبيعه.. العالم كله الآن يتحدث عن التنسيق والتكامل بين دور ضرورى للدولة ودور ممكن وضرورى للقطاع الخاص.. الصين منذ 4 سنوات تنمو بمعدل %12 ولم ترتكب الحماقة التى حدثت فى الاتحاد السوفيتى.. كارثة الاتحاد السوفيتى الكبرى حدثت عندما عجز عن الدخول فى الثورة الصناعية الثالثة.. لقد كنا فى خلاف مع التجربة السوفيتية فى كل شيء.. هم بدأوا بالصناعات الثقيلة ونحن بدأنا الصناعات الاستهلاكية.. وعندما تحولنا إلى الصناعات الثقيلة لم يحدث نقص فى السلع الاستهلاكية كما حدث فى الاتحاد السوفيتى، حيث كانت أرفف المحلات خالية باستمرار.. ولم يحدث إطلاقًا أن ألغيت الملكية الفردية فى مصر حتى فى عز الحديث عن الاشتراكية كان نصف الاقتصاد - الزراعة - قطاعًا خاصًا، ومعظم التجارة الداخلية، ونصف الصناعة تقريبًا.

 لكن المتغيرات التى تريد أن نضعها فى الحسبان ونحن نعيد صياغة مشروع قومى جديد يصعب حصرها فى ظل ما يسمى بالنظام العالمى الجديد!

- ليس هناك نظام عالمى جديد وإنما فوضى عالمية، وقد كنت أنا - وفى وقت مبكر - أول من قال بذلك.. لكن لا أحد ساعتها أراد أن يسمع أو ينصت، لكن هذه الفوضى.. لا يمكن أن تمنعنا من الاجتهاد ولو بعض الوقت لتحديد رؤانا للهوية والتنمية ولعلاقتنا بالآخرين وبالعالم.. هناك مجالات كثيرة نحن وأشباهنا فى العالم الثالث نستطيع أن نتحرك فيها ونقاوم.. لكن الذى حدث هو أننا جلسنا مستسلمين لنوع من الفوضى والدول من حولنا تنهار، ونظم أخرى تسقط، وقدرة المجتمعات على التعايش مع بعضها تقع، وهذا موجود فى كل مكان حولنا.

نريد سياسات متكاملة، من ضمنها مسئوليات المجتمع.. ومن ضمن هذه المسئوليات أن أجعل الحياة مقبولة بالنسبة لمن يسكن على أرض هذا الوطن!

 متى يشعر الناس باللامبالاة؟

- عندما يشعر أغلبهم ألا دخل له فيما يجرى حوله، أو يشعر بأن أمرًا يثقل على ضميره ولا يستطيع شيئا. هذا يحدث فى المجتمع، لكن هذه ليست لامبالاة غير مسئولة وإنما هى أعراض أشياء متناثرة.. أشياء كثيرة لا أستطيع عملها ولا إبداء الرأى فيها ولذلك تسود حالة الاغتراب.

 أشياء مثل إيه؟

- هل يعقل أن يكون برنامجنا الاقتصادى مستوردًا من صندوق النقد الدولى.. كان علينا أن نسأل هل هو مناسب أم لا؟ ومع ذلك أنا أقبل أن يكون الصندوق أمامى، ولكن لا يكون كل برنامجى، هذا مع العلم أننى لا أرى سببًا فى أخذ برنامج الصندوق ببساطة لأننا بين دول العالم الثالث الأحسن حظا فى التدفقات المالية التى جاءت إلينا.. منذ سنة1980 وحتى الآن، جاءت إلينا تدفقات مالية تصل إلى 142 مليار دولار وهذا المبلغ لم يتح لأى بلد فى العالم الثالث، وكان لابد أن يكون بالنسبة لنا قاعدة انطلاق ولدينا الوسائل التى تسمح بذلك.

هذا القطاع العام الذى لدينا ليس خاسرا.. هو يكلف بأعمال لاتتيح له الربح أحيانا.. لكن فى واقع الأمر اقتصادياته معقولة وقدراته هائلة.. لنقل أن %10 غير جيد لكن الباقى شيء جاد فى الحقيقة.

والدليل على ذلك أن أكبر بيوت الأموال فى الاستثمار المالى، وليس الصناعى تأتى إلى مصر الآن لتنتقص فرصة الانقضاض عليه.. إنهم يعتقدون بوجود فرصة هائلة للشراء.. لن يتمكنوا طويلا.. سيدخلون إلى سوق إمكانياتها ضعيفة ليشتروا، وعند ارتفاع أثمان الأصول بعد فترة سيقومون بالبيع، ثم يصفون مكاتبهم ويذهبون.. إنه ليس استثمارًا وإنما وجد أمامه فجأة فرصة سيستغلها ويرحل بعد ذلك.

ويتوقف هيكل قليلًا ليسحب نفسًا من سيجاره.. فى انتظار السؤال التالى.. وكان عن الإسلام والغرب، ووثائق عبدالناصر، وكلينتون والعرب، وقد تصورت أن المساحة المتاحة فى هذا العدد تسمح بالاستطراد.. لكن تصورى خاب.. ومن ثم لا مفر من الانتظار إلى الأسبوع المقبل.

نشر فى مجلة روزاليوسف سنة 1993 عدد 3376