الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن! ساحل منعم 

كدهوّن! ساحل منعم 

شعرت بشىء من السعادة الممزوجة بالتعالى وبعض التميُّز عن رفقائى فى الحياة والمجتمع والعمل لنجاحى كأب على اقتناص عدة أيام فى الساحل الشمالى مع أسرتى الصغيرة ولم أنسَ بالطبع أن اصطحب معى أيضًا أم إبراهيم السيدة التى تساعدنا فى المنزل بناءً على رغبتها فى أن تشاهد الساحل ولو مَرّة واحدة فى عمرها وتموت بعد ذلك (على حد قولها)..



 

بينما ظلت زوجتى العزيزة على حيادها المعتاد كخبير استراتيچى لا يجب أن يفصح عن خطته للأعداء، فلم أفهم أبدًا حقيقة موقفها من هذه الرحلة ولم تبدِ سعادة كما توقعت حين أخبرها بتلك المفاجأة؛ بل راحت تبحث على جوجل عن اسم القرية السياحية المجهولة بالنسبة لها ولا تعلم أنى تمكنت بصعوبة شديدة من الحجز بها من خلال عملى، وبعد منافسة شرسة مع باقى الزملاء.. واستمرت زوجتى فى تصفح جوجل وهى تقول بصوت متنمِّر: صور القرية دى مش واضحة خالص ولا مكتوب عنها أى حاجة عن أماكن السّهر والفُسَح والحفلات التى تقام بها.. ثم مصمصت شفايفها وصمتت إلى الأبد مما أثار مخاوفى التى ما لبثت أن تلاشت مع ضحكات أطفالى هنا وليلى وأمينة وسعادتهن وهن يحضرن حقائبهن وألعابهن وحديثهن عن إمكانية لقاء أصدقائهن هناك، وتذكرت مقولة أبى الخالدة بأن المصيف الحقيقى هو ما يستمتع به الأطفال فقط وكِدَهُوَّن، وقبل أن أترك المنزل حرصت على إحداث جلبة وضوضاء فى العمارة وصحتُ بأعلى صوتى على عطوة البواب أوصيه بالحفاظ على منزلى أثناء سفرى وحتى عودتى- ثم أخدت نفَسًا عميقًا قبل أن أستكمل جملتى الرنانة- من الساحل الشمالى يا عم عطوة. وضغطت على مَخارج حروفى جيدًا حتى أأكد المعلومة لمَن لم يعلم بعد ورسمت ابتسامة بلاستيكية على وجهى وأنا أقول له بصوت حاد: مش عايز حاجة أجيبها لك يا عم عطوة من الساحل الشمالى. حتى أتأكد أن المعلومة قد وصلت لجميع مَن بالعمارة وأصدقائهم وأقاربهم وكل من يمر بجوار العمارة بخبر رحلتى الأسطورية للساحل بعد طول انتظار (حتى أتمكن من دفع مَهر الساحل) إلا أن عم عطوة فاجأنى بإجابة غير تقليدية تمامًا، فقال لى بسماجة معتادة: هات اللى تقدر تجيبة إن شالله تجيب البحر ذات نفسه معاك مش هاقولك كفاية وكِدَهُوَّن. استمر إحساسى هذا بالانتشاء والزهو وبعض الغرور وأنا أسير على الطريق الصحراوى وأدندن بأغنية الست شادية «على عش الحب وطير يا حمام» وأنا أتخيل لحظة الوصول للقرية السياحية وسعادة أسرتى الصغيرة وانبهار أم إبراهيم عندما ثقف أمام البحر الأبيض المتوسط وجهًا لوجه لأول مرة فى حياتها، وتخيلت زوجتى العزيزة وهى تتخلى عن حيادها وتعلن عن سعادتها بالبحر والمَيّة والهواء وتشكرنى وهى تغالب بكاءها عن تلك السعاده الغامرة التى أمطرها عليها، بينما أنا اكتفى بابتسامة أستاذ حسين رياض فى فيلم (رد قلبى)  وكِدَهُوَّن. وانتبهت فى الوقت المناسب أنى انشغلت بخيالاتى الرومانسية عن الطريق مما جعلنى أحيد بعض الشىء عن الهدف رغم أنى استعنت بخدمات جوجل وخرائطة وبسؤال أى عابر سبيل يقابلنا فى الطريق عن تلك القرية دون جدوَى؛ خصوصًا أن زوجتى لم ترحم ارتباكى وحيرتى بين النظر فى خريطة جوجل وبين مطابقتها للطريق (حيث إنى مازلت لا أجيد التعامل مع التكنولوچيا) وبدلاً من أن تساعدنى زوجتى فى أزمتى هذه وجدتها تمارس عادتها القديمة فى إثارة أى خناق أثناء السفر داخل السيارة لتشتيت أفكارى وتفقدنى قدرتى على التركيز فى الطريق رغم أنها أعلم جيدًا بأنى أعانى من ضعف الإبصار ليلاً، فانطلقت تلومنى على عدم قيامى بدعوة حماتى لقضاء الإجازة معانا فى الساحل رغم أنها بالتأكيد سترفض ذهابها معانا مثل العام السابق، إلا أنه كان يجب أن أعرض عليها الحضور والتمسك بالدعوة لأن السّت أمّها، (اللى هى حماتى) حساسة جدًا وتخجل من وجودها كضيفة معانا قد تحملنا فوق طاقتنا المالية، وهنا قلت لها ببراءة: طيب فين المشكلة دلوقتى يا حبيبتى إذا كانت حماتى تعانى من حساسية مفرطة تجعلها ترفض دعوتنا وتحرمنا من قضاء المصيف معانا؟ فبكت زوجتى فجأة ودون سابق إنذار وتشنجت وهى تهمهم ببعض الكلمات المفهومة وغير المفهومة وتقول: المشكلة يا منعم إنك ما فكرتش فى سعادتى ولّا عايزة إيه وبحب إيه كأنى مش موجوده فى حياتك أصلاً؟ ولا أنكر أنى قد تأثرت كثيرًا بعتابها الباكى وشختافتها المستمرة دون انقطاع، فتقمصت روح الأستاذ عبدالحليم حافظ  وقلت لها بابتسامة؛ طيب قولى ياحبيتى عايزة إيه وبتحبى إيه؟ فتوقف عن البكاء فجأة كما بدأته فجأة وقالت لى: عايزة ماما وبحب ماما واتصل بها دلوقتى خليها تيجى حالا فى الأتوبيس. وقبل أن أنطق كانت تمسك بالهاتف المحمول وتتصل بحماتى التى لم تضيع المزيد من الوقت ووافقت على الفور على الحضور، بل وطلبت منّى أن أرسل لها شير لوكيشن بمكان القرية، وقبل أن أبدى امتنانى وشكرى العميق لموافقتها على الحضور بهذه السرعة الرهيبة رغم حساسيتها المفرطة وقبل أن أنتهى من مكالمة حماتى اللى عايزة منّى أنا بالذات أن أرسل لها (شير لوكيشن) صعقت بأنى أسير فى اتجاة مرسى مطروح وليس الساحل الشمالى وكِدَهُوَّن. استمرت زوجتى العزيزة طيلة الطريق تلومنى على مواقف حدثت منذ سنوات وتذكرتها اليوم وأنا تائه على الطريق الصحراوى أبحث عن مَخرج أو دليل يرشدنى إلى وجهتى حتى وصلنا بأعجوبة إلى القرية المقصودة بعد طول عناء ومشقة وتوهان، وقبل أن نترك السيارة قالت لى زوجتى: ارسل لماما شير لوكيشن بسرعة لأنها فى الطريق وكِدَهُوَّن. وقبل أن أسترح قليلا من إرهاق القيادة وما حدث فى الطريق جاءتنى «ليلى» ابنتى الصغيرة باكية وهى تطالبنى برغبتها بالذهاب إلى الساحل الشمالى، فابتسمت بغرور الآباء وأنا أشفق عليها من عدم قدرتها على استيعاب أنها بالفعل هنا على أرض الساحل بشحمه ودمه كما تريد وتتمنى، وعبثًا حاولت أن أقنعها وأشرح لها ما تجهله دون جدوَى، وأصرّت على وجود ساحل شمالى آخر غير الساحل الشمالى هذا وكِدَهُوَّن. شعرت بقلة حيلتى وعدم قدرتى على إقناع «ليلى» بأننا بالفعل فى الساحل ولا ساحل غير هذا وكِدَهُوَّن. وأشفقت على زوجتى العزيزة وهى ترى حيرتى فتدخلت كخبير بمواطن الأمور ولفض الاشتباك بينى وبين ليلى ولتشرح لى الموقف كما تراه ليلى وكِدَهُوَّن. قالت زوجتى بأن ليلى تقصد الساحل الجديد؛ حيث يوجد أصدقاؤها وزملاؤها فى المدرسة، فقلت لها ببراءة الآباء: طيب ما الساحل كبير ومليان قرى سياحية وطبيعى لا تجتمع بأصدقائها داخل قرية واحدة ونترك باقى قرى الساحل مهجورة. وهنا تجهّم وجه زوجتى بعد أن اكتشفت صعوبة مهمتها معى وقالت بعد أن استنشقت كل الأكسچين الموجود بالغرفة: يا منعم يا حبيبى حاول تفهّم أن ليلى وأمينة كبروا وفهموا وعايزين يروحوا الساحل الجديد الذى يشاهدونه على الانستجرام وفى الأفلام؛ حيث الزحام والصخب والألعاب المائية والسهرات وحفلات عمرو دياب وروبى وأماكن الترفية الرائعة، كما أن ليلى وأمينة قد شاهدوا صور لأصدقائهم وهم يلعبون بألعابهم المائية المبهرة يقذفون بها فوق الأمواج وكِدَهُوَّن. فصحت بأعلى صوتى (على طريقة أينشتين): وجدتها، وما المانع فى أن نحضر لهم ألعاب مائية هنا ويقذفون بها الأمواج كما يحدث هناك وكلها أمواج البحر الأبيض المتوسط لا يوجد أى اختلاف بينها، وبالفعل أنا عامل حسابى وأحضرت معى من القاهرة عوامة بطة عملاقة ومسّاكات مطاطية وطيارات ورقية بألوان زاهية نستطيع أن تطير عدة أمتار فى سماء الساحل وقد تصل إلى سماء القرى الأخرى؛ حيث يتواجد أصدقاؤهم وكِدَهُوَّن. تأكدت زوجتى بأنى لا أريد أن أفهم ما تقوله لأسباب مادية صريحة فضحكت وقالت لليلى وأمينة: إحنا هانتفسخ هنا السنة دى ونلعب وننزل البحر. ثم نظرت لى نظرة ذات مغذى: والسنة الجاية هانروح الساحل الشمالى زى ماانتم عايزين يا حبايبى. وهنا قالت ليلى بصوت حنون التأثير علىّ: طيب احنا ممكن يابابا بعد ما نتفسح ونلعب ونعوم هنا زى ما أنتم عايزين نروح الساحل هناك ونشوف أصحابنا ونلعب معاهم ونعوم فى البحر بتاعهم علشان همّا مش هايفضلوا قاعدين مستنينا لغاية لما نروح لهم السنة إلى جاية وكِدَهُوَّن. دخلت أم إبراهيم متجهمة تعاتبنى بأنى خدعتها وأحضرتها إلى مدينة جمصة على أنها الساحل الشمالى.