الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

العقاد تنبأ بحصوله على نوبل.. وتوفيق الحكيم سبب اتجاهه للأدب: نجيب محفوظ صانع «زمن الرواية»

فى بيت جَدّى كانت صورة نجيب محفوظ مُعلقة إلى جوار صورة أمّ كلثوم.. على جدار يخصّهما فقط من دون أن يزاحمهما أى شىء آخر.. لا يغيب ذلك المَشهد عن بالى أبدًا.. وكلما سمعت السِّت تغنى تذكرت محفوظ.. وعلى العكس أيضًا كلما جلست فى حضرة الأستاذ تشبه كلماته طلسم استدعاء لصوتها. 



يمكننا الانتقال من ذلك المَشهد- فى بيت الجَدّ- إلى جريدة الأهرام فى العام 1961؛ حيث الاحتفال ببلوغ نجيب محفوظ 50 عامًا.. توجِّه له أمُّ كلثوم كلمة قصيرة قائلة: «أسعدنى نجيب محفوظ برواياته وقصصه وأرجو أن يسعدنى خمسين عامًا قادمة».

ينتفض «محفوظ» ويرد على أمّ كلثوم بصوت هادئ: «إذا كانت كتاباتى قد أسعدت أمّ كلثوم، فماذا يستطيع إنسان أن يفعل إزاء إحساسه بأنه أسعد مَصدر سعادته». 

ربما تتوقع أننى أمَهّد للحديث عن علاقة أمّ كلثوم ومحفوظ فى ذكرى رحيله الـ15.. لكن فى الحقيقة أرغب فى تقديم الأديب الكبير على طريقة حفلات السِّت؛ حيث يصف المذيعُ مكانَ الحفل ويتحدث عن مؤلف كلمات الأغنية المنتظرة وملحنها، بينما يظل كل مَن فى القاعة أو أمام الراديو منتظرين كلمة: «الآن يُفتَح السِّتَار».. 

أحاول القيام بذلك الدور مع نجيب محفوظ.. نفتح السِّتَار ليتحدث بنفسه ونحن فى حضرته.. فهو الذى حجز لنفسه مكانة مهمة فى تاريخ الأدب العربى- عَبْر 55 رواية ومجموعة قصصية- حيث أدّى وظيفتين نادرًا ما تجتمعان لكاتب واحد: الرائد المؤسّس والمطور فى الوقت نفسه.. فمثلاً فى القصة القصيرة نجد أن الأستاذ «يحيى حقى» هو مؤسّسها بشكلها الحديث، لكن «يوسف إدريس» هو الذى طوَّرَها، أمّا «محفوظ» فقد أسّس الرواية العربية الحديثة، وأيضًا قام بتطويرها على مدار 40 عامًا.

يرجع الفضل لـ نجيب محفوظ فى حصول الرواية على المكانة التى تستحقها إلى جانب الشعر والمسرح، بعد أن ظلت أكثر من قرن تحاول حجز مكان لها، لذلك يمكننا اعتبارَه «صانع زمن الرواية». 

لكل هذا وأكثر كان الأفضل أن يتكلم هو.. بضمير المتكلم (لا الغائب أبدًا).. ففى ظنّى أى طريقة أخرى للحديث فى ذكرَى «أديب نوبل» ستكون كتقديم الحفل دون غناء السِّت!

من بين صفحات الكتب التى تحدّث فيها عن حياته: «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» لـ رجاء النقاش، «نجيب محفوظ يتذكر» لـ جمال الغيطانى، «فى حضرة نجيب محفوظ» لـ محمد سلماوى، وأيضًا من حواراته الإذاعية والتليفزيونية فضلاً عن بعض تصريحاته فى الصحف وخطاب نوبل 1988، يتحدث نجيب محفوظ عن نفسه..

الآن.. يُفتَح السِّتَار:

 محفوظ يقدّم نفسَه للعالم

اسمحوا لى أن أقدّم لكم نفسى بالموضوعية التى تتيحها الطبيعة البشرية.. أنا ابن حضارتين تزوّجتا فى عصر من عصور التاريخ زواجًا موفقًا، أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة وهى الحضارة الفرعونية، وثانيتهما عمرها ألف وأربعمائة سنة وهى الحضارة الإسلامية.

أقدّم الحضارة الفرعونية بما يشبه القصة طالما أن الظروف الخاصة بى قضت بأن أكون قصاصًا.. تقول أوراق البردى إن أحد الفراعنة قد نما إليه أن علاقة آثمة نشأت بين بعض نساء الحريم وبعض رجال الحاشية. وكان المتوقع أن يجهز على الجميع فلا يشذ فى تصرفه عن مناخ زمانه. ولكنه دعا إلى حضرته نخبة من رجال القانون. وطالبهم بالتحقيق فيما نما إلى علمه، وقال لهم إنه يريد الحقيقة ليحكم بالعدل. ذلك السلوك فى رأيى أعظم من بناء إمبراطورية وتشييد الأهرامات وأدَل على تفوُّق الحضارة من أى أبَّهَة أو ثراء.

(وأقدم الحضارة الإسلامية) فى موقف درامى- مؤثر- يلخص سمة من أبرز سماتها. ففى إحدى معاركها الظافرة مع الدولة البيزنطية ردت الأسرَى فى مقابل عدد من كتب الفلسفة والطب والرياضة من التراث الإغريقى العتيد. وهى شهادة قيِّمة للروح الإنسانية فى طموحها إلى العلم والمعرفة. رُغم أن الطالب يعتنق دينًا سماويًا والمطلوب ثمرة حضارة وثنية.

 علاقته مع أمّه

أمّى كانت على مدَى العمر تترك لى حرية الاختيار، فأنا اخترت سبيلى فى الدراسة بتشجيعها وموافقتها، رُغم أن الطريق الذى اخترته غير الذى تأمَل فيه الأسرة؛ حيث كانوا يأمَلون فى أن أكون طبيًا أو مهندسًا؛ خصوصًا أننى كنت متفوقًا فى الرياضيات، ولكننى دخلت القسم أدبى.. فكانت صدمة لهم.

ثم دخلت كلية الآداب فكانت صدمة ثانية، ثم كان قسم الفلسفة فكانت صدمة ثالثة، ولم أجد بجوارى طوال كل هذا سوى أمّى رحمها الله.

ساعدتى أمّى كثيرًا من خلال حكايتها وعشقها للآثار، فأنا مَدين لها بجانب من التكوين الفنّى.

 القراءات الأولى

بدأت حياتى الفكرية بقراءات هزيلة لم تكن لتخلق لى ثقافة أو تصنع منّى أديبًا، حتى لو واظبت على قراءتها ألفَ عام.. بدأت قراءتى بالروايات البوليسية، ولم تكن هناك بالطبع كتب خاصة بالأطفال على أيامنا.. 

أذكر أننى كنت وأنا طالب بالمدرسة أصنع قائمة للقراءة تضم أهم الأعمال التى علىّ أن أقرأها، لكن مع قراءاتى كانت هذه القائمة تزداد، فقد كان كل كتاب جديد أقرأه يفتح عينى على كتب أخرى أجهلها، وكنت دائمًا أشعر أن الجهل يطاردنى وأنا أتعلق بأذيال معرفة بسيطة.. رُغم أنه لم يمضِ يومٌ فى حياتى دون أن أحصل على معرفة جديدة.

وضعت أمام عينى أن أقرأ لكل قمّة من القمم، الكتاب القمّة الخاص بها، وبالفعل قرأت كل ذلك، لكننى كنت أكتشف أن معرفتى بشكسبير مثلاً، لا يمكن أن تعتمد على عمل واحد له، حتى لو كان هذا العمل هو إحدى قمَمه، ونفس الشىء بالنسبة لديكنز أو موليير وغيرهما.

 «أديب نوبل» ضمن فريق كرة الشارع!

عندما كنت صغيرًا، كنت أحب أن أتقن أى شىء أصنعه من أجل أن أسمع كلمة استحسان، أذاكر حتى أجد تقديرًا من المُدرس، أشوط الكرة جيدًا لأسمع التصفيق، إن الاستحسان شىء مهم للنفس البشرية..

كنت أعشق كرة القدم، وزاولتها 10 سنوات أثناء دراستى الابتدائية والثانوية، ولم يأخذنى منها سوى الأدب.. وكنت ضمن فريق الشارع فى حيِّـنا القديم بالعباسية، نلاعب فرق الشوارع الأخرى بشكل منتظم، وظللت لسنوات ألعب الكرة إلى أن دخلت الجامعة فعرضوا علىّ أن أكون فى فريق الجامعة لكننى أيقنت أنه قد جاء وقت المكتبة، فتحوّلت من الكرة إلى القراءة.

 

الوطنية المصرية

هناك فى حياتى بعضُ الثوابت مثل الوطنية، فمَهما اختلفت قناعتى السياسية وتبدلت؛ إلا أن إحساسى الوطنى هو حقيقة قائمة لا تتغير ولا تتبدل.

وإننى أشعر بأن معرفتى بمصر ليس بها أى مَناطق جهل أو عدم معرفة، فلا أستطيع أن أقول إن هناك ما لا أعرفه فيما يختص بمصر.. وأنا لا أقصد هنا المعرفة الإحصائية الموجودة فى الأرقام والبيانات؛ وإنما أقصد المعرفة الكلية التى تجىء من القلب.

 توفيق الحكيم.. والتحوُّل من الفلسفة إلى الأدب

تأثرت فنيًا بـ توفيق الحكيم، هذا الكاتب الكبير يقف وراء جيلنا كله من الناحية الفنية... أثره فى حياتى فوق ما تتصور، ولولا توفيق الحكيم ما أصبحت أديبًا..

كنت أدرس الفلسفة، وأعتبر الأدبَ على هامش حياتى، ولمّا دخل «الحكيم» من بوابة الأدب عرفنا قيمة الأدب وكيف أنه يكرّم الإنسان.

لن ننسى لـ«الحكيم» أنه الكاتب الأول الذى جعل الدولة تحترم الفن والأدب وتخصص له ما يسمى بالتفرُّغ، العقاد وتوفيق الحكيم وفّرَا علينا جهاد مائة سنة، لم يعد الأدب مهنة المرتزقة.

 المحنة فى أول طريق الأدب 

كتبتُ سنة 1936 نحو 100 قصة، فما أكثر الأقاصيص التى رُفض نشرُها، وكانت أيام عذاب ومحنة تتكرّر مع كل أقصوصة أو مقال يُرد، فالنشر دائمًا صعب؛ خصوصًا فى البداية.

أول قصة قصيرة كتبتها لم يكن الدافع إليها فنيًا؛ ولكن عجزى عن نشر الرواية جعلنى أتسلى بكتابة القصة القصيرة، وأول قصة نشرتها «ملوك تحت الأرض» فى مجلة الشباب وموضوعها عن فتاة بائسة تنام فى ماسورة.

لم أكن أتصور أن الفن عليه أجر، وقد نشرت على سبيل المثال 80 قصة قصيرة دون مقابل مادى، وكنت فى غاية السعادة، كان يكفينى أن أعبّر عن نفسى وأن يجد هذا التعبير طريقه للنشر.

 سر الاستمرار

جعلت الحياة الأدبية والفكرية حياة كاملة لا مهنة تمارَس، بمعنى أنها تحوى كل أهميتها فى ذاتها، فمجرد أن أعيش مفتوح الحواس والعقل أقرأ وأكتب، هذه حياة وعمل وثمرة فى الوقت نفسه، دون النظر إلى نتائج خارجية، وهذا يعنى أننى ظللت أكتب كثيرًا حتى جمعت لدى أعمالاً من غير نشر من غير أن أشعر برغبة فى التوقف.

لأننى لم أربط العمل بثمرته، وهذا ما جعلنى أصبر على تجاهل عملى حتى خرج إلى النور فيما بعد بهدوء وسَكينة.. ولو نظرت للأدب كعمل وثمرة لتغيّر الحال.

 نبوءة العقاد.. والخلاف معه

حدث أن تعرّضت لـ«العقاد» رُغم حُبّى له، فقد وجدته ظلم الرواية حين قال: الرواية ليست فنًا كالشعر، أى أنها ليست فى مَنزلة الشعر.. فرددتُ عليه بأدب: إن الرواية الجيدة مثل الشعر الجيد، وكما توجد الرواية الرديئة يوجد الشعر الردىء أيضًا.. والحقيقة أن «العقاد» لم يرد لأننى تكلمت بموضوعية شديدة وبأدب شديد دون استفزاز أو هجوم، وهذا ما كان يدعوه للرد بعنف.

بعد ذلك بسنوات قال «العقاد» فى حديث تليفزيونى أذيع قبل وفاته بقليل: «عندنا فى مصر من يستحق الفوز بجائزة نوبل».. وذكر اسمى وبعدها بربع قرن تحققت نبوءته.

 قضية «أولاد حارتنا»

«أولاد حارتنا» فى الأصل رواية دينية إيمانية تنتصر للدين، وتؤكد ضرورته فى الحياة إلى جانب العلم؛ لأن سيطرة أحدهما على الحياة خطر كبير.

إن موقف أساتذة الدين وعلمائه عندنا يصعب فهمه، وهذا يعود إلى موقف فنى أكثر منه إلى موقف دينى، إن المشكلة الأساسية، هو ما غاب تمامًا عند قراءة الرواية، إن الرواية يجب أن تُقرَأ كرواية وليست كتاريخ قط.

المطلوب أن نقرأ «الفن» العمل الروائى، ليس الدين أو التاريخ..

إنهم لا يعرفون كيف تُقرأ الرواية 

لكن أحب أن أوضح أن حكومة عبدالناصر لم تكن مسئولة عن منع طبع «أولاد حارتنا»، فقد حدث سُوء فهم لها من بعض رجال الدين، واعتبروها ماسّة بكرامة الأنبياء وصنعوا ضجة ضخمة وطالبوا بمحاكمتى.. ولولا إصرار «هيكل» لما استمر نشرها مسلسلة فى الأهرام، فلما انتهت الأهرام من نشرها، اتصل بى حسن صبرى الخولى مندوب الزعيم جمال عبدالناصر، وقال لى: من الصعب السماح بطبع هذه الرواية لأنها ستصنع ضجة كبيرة ونحن فى غنى عنها.

لو كنت جلست مع بعض رجال الدين وشرحت لهم وجهة نظرى لأقنعتهم بها، أرجو أن يعيد الأساتذة الأفاضل من علماء الدين قراءة الرواية بعد التخلص من غشاوة الاتهام.. والله يحكم بينى وبينهم فى الدنيا والآخرة.   

كل ما جاء فى السطور السابقة هو أجزاء واضحة من نص حديث نجيب محفوظ سواء المسجل أو المكتوب، كانت البداية باختيار الفقرات التى عَرَّفَ بها نفسَه فى خطاب نوبل، ثم بدأ التسلسل منذ طفولته وحتى أزمة روايته الشهيرة «أولاد حارتنا».. إذ حاولنا من خلال الأحاديث المتناثرة أن نقدم صورة أوضح على لسان «أديب نوبل» عن أبرز المحطات والمواقف على مدار سنوات حياته.