الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
حقائق وهواجس.. الأصابع على الزناد

حقائق وهواجس.. الأصابع على الزناد

ترتبط العلاقة بين تركيبة القوى العظمى ودول الشرق الأوسط – العدد الأكبر منها دول عربية – بروابط مُعَقَدَة، وتقود الولايات المتحدة الأمريكية هذه العلاقة فى تعاون مفتوح مع حلفائها الرئيسيين من الدول الكبرى فى أوروبا وآسيا، وفى تنسيق حذر مع منافسيها الرئيسيين روسيا والصين، تنظر أمريكا لروسيا باعتبارها عدوًا تاريخيًا لها وللاتحاد الأوروبى ولحلف شمال الأطلنطى «الناتو»، فى حين ترى الصين منافسًا طوال الوقت على المستوى الاقتصادى والسياسى والعسكرى، هذه الرؤية وضحت بشكل متكرر فى استراتيجيات الأمن القومى المتعاقبة لكلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية، والأوراق السياسية للصين الشعبية وكذلك الاستراتيجية العسكرية الصينية، استراتيجية الأمن القومى الصينية دائمًا سرية وغير معلنة.



 

هذا بعض مما جاء به لواء أركان حرب الدكتور سيد غنيم، فى مقدمة كتابه الصادر مؤخرًا تحت عنوان لافت جدًا «الأصابع على الزناد»، والذى يحمل عنوانًا فرعيًا «استراتيجيات الأمن القومى للدول الكبرى وتأثيراتها على الشرق الأوسط»، سيد غنيم زميل أكاديمية ناصر العسكرية العليا، حاصل على ماجستير العلوم العسكرية من مصر وباكستان، ودبلوم العلوم السياسية من جامعة كرانفيلد بإنجلترا، عمل رئيسًا لأركان مهمة الأمم المتحدة بـ«نيبال»، وشغل مناصب مختلفة فى عدة مهام تابعة للأمم المتحدة، مثل مصر بالقيادة المركزية الأمريكية، ويعمل حاليًا «محاضر زائر» للأمن الدولى بحلف شمال الأطلنطى والاتحاد الأوروبى والقيادة المركزية الأمريكية، وعدة جامعات وأكاديميات بأوروبا وشرق آسيا والأمريكتين. «الأصابع على الزناد» يمثل أطروحة حصل بها سيد غنيم على درجة الدكتوراه فى العلوم السياسية من جامعة بورسعيد، وهو يقع فى أربعة فصول، الأول منها «مناورة الثلاثة الكبار» يستعرض فيه استراتيجيات الأمن القومى للولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين، ويتناول فى الفصل الثانى «لعنة الجار المسلح» سياسات إسرائيل وتركيا وإيران تجاه الأمن الإقليمى لمنطقة الشرق الأوسط، وفى الفصل الثالث «صراع القوى فى المسرح العربى» يقرأ التنافس الدولى والإقليمى فى منطقة الشرق الأوسط والتحديات الناجمة عنه فى حراك أمنى جديد، وفى الفصل الأخير «الشرق الأوسط إلى أين؟» يطرح رؤية مستقبلية بشأن التحولات الدولية والإقليمية والتأثيرات المتوقعة على الأمن الإقليمى لمنطقة الشرق الأوسط.

يؤكد د.سيد غنيم فى مقدمة كتابه، أنه يطرح أفكاره فى إطارين زمنيين، يتضمن الأول الفترة ما بين عامى 2011 إلى 2017، ارتباطًا بتداعيات ثورات الربيع العربى وحتى تولى دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية وإصدار آخر وثيقة لاستراتيجية الأمن القومى الأمريكى فى ديسمبر 2017، وفيه يستعرض الكتاب استراتيجيات الأمن القومى والدفاع والسياسات المتعلقة بها لأقطاب التنافس الدولى الثلاثة أمريكا وروسيا والصين، وكذلك بالنسبة لإسرائيل وتركيا وإيران على الصعيد الإقليمى، ثم انعكاس هذا التنافس الدولى والإقليمى على الدول العربية الفاعلة - بشكلٍ أو آخر  بالمنطقة مصر والسعودية والإمارات وقطر، وانتهاءً بتطور الحراك الأمنى الناجم عن تحديات هذا التنافس الدولى والإقليمى.

أما الإطار الزمنى الثانى فيتضمن الفترة من 2018 إلى 2020، موضحًا أهم المستجدات الدولية والإقليمية والتى أثرت على الحراك الأمنى فى الشرق الأوسط، واعتبارها تمهيدًا لاستشراف رؤية مستقبلية بشأن التحولات الدولية والإقليمية والتأثيرات المتوقعة على الأمن الإقليمى للشرق الأوسط،  وكلا الإطارين يؤكد إلى أى مدى مثل العقد الزمنى الماضى 2011 – 2020 منعطفًا تاريخيًا على الصعيد العالمى، بعدما فرضت تداعيات ثورات الربيع العربى - الفاشلة فى مجموعها - على الدول العظمى تطوير استراتيجياتها بهدف مجابهة الأحداث فى منطقة الشرق الأوسط، فى إطار يضمن تحقيق نفوذها وحماية مصالحها المتعارضة، وهو ما أدى لاشتعال التنافس الدولى والإقليمى بالمنطقة، والمنعكس بالضرورة على الأمن الإقليمى للمنطقة العربية.

يخطئ من يظن أن «الأصابع على الزناد» كتاب متخصص، الكتاب فى تقديرى يؤسس لما يمكن أن نطلق عليه ثقافة الأمن القومى، لم يعد الأمن القومى مسئولية أجهزة الدولة أو صناع القرار وفقط، ثقافة الأمن القومى أصبحت ضرورة، وعلى كل مواطن أن يتحصل على نصيبه من الوعى بها، هذا لا ينفى أهمية الكتاب على مستوى التخصص والعاملين به وذوى الصلة، ولكن ما أعنيه أن د. سيد غنيم نجح إلى حدٍ كبير فى تبسيط المفاهيم والمصطلحات والنظريات، كما نجح فى طرح ملفات هامة ومعقدة ورؤى تساعدك على الإدراك أولًا، قبل أن تعينك على التفسير والتحليل وقراءة الأحوال والمؤشرات والوصول إلى نتائج منطقية.

فهو مثلًا قبل أن يستعرض استراتيجيات الأمن القومى للثلاثة الكبار أمريكا وروسيا والصين، يطرح أولًا مفهوم الاستراتيجية العليا للدولة، مفهوم الأمن، مفهوم القومية، ثم يسترسل فى شرح وتبسيط مفهوم الأمن القومى، مؤكدًا نشأته الأمريكية بأهداف سياسية، ظهر بداية كأحد محاور السياسات الخارجية للدول العظمى فى سياق الحرب الباردة، بينما تعود جذوره إلى القرن السابع عشر بعد انعقاد معاهدة وستفاليا عام 1648، والتى أسست لمفهوم الدولة القومية، وفى حين شكلت حقبة الحرب الباردة المناخ الذى نشطت فيه محاولات صياغة أطره المؤسسية وصولًا إلى استخدام مصطلح «استراتيجية الأمن القومى»، وبعدها ظهرت مؤسسات أكاديمية تهتم بمسائل الأمن القومى، مصادره، مقوماته، وإجراءات ضمان حمايته.

استعرض د.سيد غنيم فى كتابه عدة تعريفات تاريخية للأمن القومى، فهو مصدر لأمن أى دولة عندما لا تُضْطَر إلى التضحية بمصالحها المشروعة لتجنب الحرب وتكون قادرة إذا تم تحديها على الحفاظ عليها بالحرب، المعنى المميز للأمن القومى هو التحرر من الإملاء الأجنبى، الأمن القومى يعنى بشكل موضوعى درء أى تهديدات تستهدف القيم المكتسبة وغياب الخوف من تعرض هذه القيم للتأثير والمخاطر، الأمن القومى هو القدرة على الحفاظ على سلامة الأمة وأراضيها، أفضل وصف للأمن القومى هو القدرة على التحكم فى تلك الظروف المحلية والخارجية التى يعتقد الرأى العام لمجتمع معين أنها ضرورية للتمتع بتقرير المصير والاستقلال والازدهار والرفاهية، وهكذا.

بعدها طرح الباحث رؤيته للأمن القومى بما لا يتعارض مع المفاهيم السابقة ذات الطابع العلمى، فهو يرى أن هذه التعاريف قامت على الخوف والحاجة، وعليه يمكن النظر لمفهوم الأمن القومى ارتباطًا بالغاية القومية (بقاء دولة ينعم مواطنوها بالحرية والرفاهية)، فبدلًا من بناء المفهوم على فكرة التغلب على «الخوف» من المخاطر والعدوان وعلى سد مقومات الحياة الأساسية، يمكن أن يُبنَىَ على فكرة ضمان الحرية والعدالة الاجتماعية والعيش بكرامة، وهو ما يتحقق أساسًا بالحث على التفكر والابتكار والإبداع، وتنمية مهارات استغلال الفرص بدلًا من إهدارها، والتفاعل مع المخاطر وتحويلها إلى فرص بدلًا من الخوف منها، باختصار الأمن الإنسانى هو أساس الأمن القومى.

أما أبعاد الأمن القومى، فقد لخصها الباحث فى الأمن السياسى، الأمن الاقتصادى، الأمن العسكرى، الأمن الاجتماعى، الأمن البيئى، أمن الموارد الطبيعية والطاقة، الأمن الديموجرافى أو السكانى، أمن المعلومات أو الأمن السيبرانى، الأمن الغذائى، الأمن الصحى، وأمن البنية التحتية، ويستطرد د.سيد غنيم فى تبسيط مفاهيم الأمن الإقليمى والأمن الجماعى، وكذلك مفاهيم الهيمنة والنفوذ والشعبوية والتوازن والتوازن الاستراتيجى، وأيضًا مفاهيم الدور والتنافس الدولى، لتبدأ بعدها رحلة القارئ مع فصول ومباحث الكتاب المذكورة مقدمًا فى هذا التقرير وهو يقف على أرض صلبة من المعلومات، وهى رحلة شيقة ومثيرة إلى أبعد الحدود بما تكشفه من طلاسم وألغاز، أدعوكم إلى قراءة «الأصابع على الزناد».