الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
صلاح عيسى يكشف فى كتابه عن أخطر مجرمى الصعيد: رسالة عشيقة «الخُط» إلى «روزاليوسف»

صلاح عيسى يكشف فى كتابه عن أخطر مجرمى الصعيد: رسالة عشيقة «الخُط» إلى «روزاليوسف»

«علم قائد فرقة مطاردة الخط أن خطابا وصل إلى الأستاذ إحسان عبد القدوس وكان وقتها رئيسا لتحرير روزاليوسف يتضمن معلومات حول قصة حب تدور بين بنت ذوات من أبناء الباشوات فى الصعيد وبين الخط، وبدا الخيط الجديد شديد الأهمية ربما يقود إلى القبض عليه».. الحكاية المثيرة لها نهاية غريبة وكشف عنها الكاتب الكبير الراحل صلاح عيسى فى كتابه الذى صدر مؤخرا «أفيون وبنادق.. سيرة سياسية واجتماعية لخط الصعيد الذى دوخ ثلاث حكومات»، وهو كتاب جمعته زوجته الكاتبة الكبيرة أمينة النقاش بعد وفاته ونشرته دار المحروسة، وكان عيسى قد كتبه فى حلقات عام 1979 فى مجلة 23 يوليو، والتى كان يصدرها الكاتب الكبير الراحل محمود السعدنى فى لندن.



الكتاب يؤرخ لحياة محمد منصور المشهور بخط الصعيد ويقدم رؤية اجتماعية وسياسية لظاهرة أولاد الليل فى الصعيد خلال العهد الملكى، وحتى يعرف الجيل الذى لم يقرأ أو يسمع عن الخط فإن شهرته الكبيرة دفعت سينمائيين إلى إنتاج أفلام عنه وأشهرها فيلم «الوحش» الذى أخرجه صلاح أبو سيف وشارك نجيب محفوظ فى كتابة السيناريو والحوار، وقام ببطولته أنور وجدى وسامية جمال ومحمود المليجى، وكذلك فيلم «الخارج على القانون» بطولة فريد شوقى ومونيا فؤاد، واستلهم فيلم «سلطان» من بطولة فريد شوقى أيضا جانبا من حياة المجرم الخطير، وإذا كانت هذه الأفلام عالجت القصة من وجهة نظر الشرطة فإن عيسى فى كتابه استطاع النفاذ إلى عمقها الإنسانى وبعدها الاجتماعى والسياسى فى فترة سبقت قيام ثورة يوليو بأعوام قليلة، ولكن ما الذى دفع الكاتب الكبير للاهتمام بخط الصعيد وبعد مقتله بأكثر من 30 عاما؛ وقت نشر الحلقات.

 يقول «عيسى» فى مقدمة الكتاب «الظاهرة التى ترصدها هذه الحكاية واحدة من تلك الظواهر الهامشية للتاريخ المصرى التى لم تفز بأى محاولة لفهمها أو تفسيرها»، وظاهرة أولاد الليل لفتت نظر «عيسى» وهناك أمثلة عديدة لها، مثل «عمر المصرى» الذى وصفته الأوامر الرسمية فى عهد الخديوى محمد سعيد بـ«الشقى»، وتم رصد مكافأة للقبض عليه، وانتهت الأوامر فجأة فى عصر الخديوى إسماعيل بالعفو عنه، ويقول عيسى: «اتضح لى أن هذا الشقى كان من أشهر زعماء البدو فى الفيوم وقاد تمردا مسلحا على الوالى وهى ثورة كادت أن تنتهى باستقلال الفيوم عن مصر».

ويضيف عيسى: «فى فترة مبكرة من عمرى اكتشفت أن أدهم الشرقاوى شخصية حقيقية وبينما يقدمه الموال الشعبى رمزا للتمرد على الظلم والقهر فإن مجلة اللطائف المصورة وصفته بأنه شقى وقاطع طريق ومجرم طارده البوليس واصطادوه فأراحوا البلاد من جرائمه»، ويستطرد الكاتب: «فى طفولتى كانوا فى قريتنا يروون موالا عن «عبد الحميد عبل» ويصوغون رؤية له تجعله تنوعا على لحن أدهم الشرقاوى، بل إنه مات نفس ميتته إذ خانه حليفه، وهكذا لم ينله أعداؤه إلا بالخيانة».

ويشرح عيسى: «أن الوجدان الشعبى يمزج قصص هؤلاء الأشقياء برؤى من تراثه الدينى فخيانة الشرقاوى جاءت من صديقه بدران والأخير أطلق عليه الرصاص فى مشهد يبدو كالعشاء الأخير والخائن يكاد يكون يهوذا الاسرخبوطى الذى باع المسيح بثلاثين قطعة من الفضة، ويمضى عيسى فى دراسته الشيقة كاشفا «أن عددا كبيرا من آلاف الأضرحة التى أقيمت فى قرانا لأولياء الله تضم تحت قبابها عددا كبيرا من هؤلاء الأشقياء».

ويشرح المؤلف لماذا أضفى الوجدان الشعبى على هؤلاء صفة البطولة؟ ويقول: «أظن أن هذا وليد المرارة التى ملأت الحلوق بالشجى بعد أن هزمت الخيانة والولس فارسهم أحمد عرابى، وربما قبل ذلك بقرون عندما وقعت مصر بفعل الخيانة أيضا أسيرة للغزو العثمانى»، ويستطرد الكاتب الكبير مفسرا «أن السنوات التى تلت هزيمة عرابى شهدت موجة من هؤلاء الأشقياء وجهوا رصاصهم فى الغالب ضد من خانوا الثورة بسلاح ثبت فيما بعد أنه بقية ما وزعه عرابى من أسلحة على الفلاحين للمشاركة فى صد الغزو»، ويرى عيسى أن «ما فعله الوجدان الشعبى ليس خيالا محضا فهو لم يفتعل تلك الصفات ويلصقها بأولاد الليل، قد يكون بالغ قليلا، ولكن المبالغة شيء والكذب شيء آخر».

ويدافع الكاتب الكبير عن المصريين ضد من اتهموه بأنه شعب مستذل يحب الأقوياء ويتميز بالمازكوية فى حسه وروحه، ويقول: «لو كان الشعب به هذه الصفات لأعجب بجبروت حكامه وطغيانهم ولما ساند بالحب من شق عصا الطاعة عليهم إلى درجة تقديسهم»، ولا يدافع عيسى هنا عن المجرمين وكما كتب «لا أريد أن تختل المقاييس بين أيدينا فيتقدس مجرمون ولكن الظاهرة ينبغى أن تكون محل دراسات متعمقة تكشف أبعادها، إذ إن التاريخ الرسمى لأولاد الليل غير دقيق ومن المؤكد أن من حياتهم طمست عمدًا أو جهلا، وأرجح أن المؤرخ الشعبى المجهول شك فى ذمة المؤرخين الرسميين فحرص على تسجيل سيرة أولاد البلد بأسلوبه الخاص الذى يكفل حفظه وتواتره وبقاءه رغم أنف التاريخ الرسمى الذى أصبح تزويره تقليدا عربيا»، ويجيب عيسى على التساؤل لماذا اهتم بخط الصعيد: «عثرت على الخطوط الأولى وأنا أحاول رصد ملامح موجة العنف السياسى التى خضبت بالدم تاريخ العقد السابق على قيام ثورة يوليو مباشرة فقد لاحظت أن حياة أولاد الليل أبطال العنف الجنائى هى الوجه المكمل لهذه الظاهرة وأدركت الارتباط بين وجهى هذه الموجة ومن هنا كان اهتمامى بسرد وتحليل قصة الخط»، ولكن كيف تحول الخط من مواطن بسيط فقير إلى الرجل الذى دوخ ثلاث حكومات؟ فى اثنى عشر فصلا يتتبع عيسى حياة محمد محمود منصور الخط وهى لا تختلف كثيرا عن قصص معظم أولاد الليل والتى تبدأ عادة بجريمة ثأر تتبعها عدة حوادث قتل مع العائلة المختلف معها ثم الهرب إلى الجبل وتكوين مجموعة أو عصابة تؤرق البوليس والأعيان وأحيانا الأهالى وتنتهى بمقتله بفعل الخيانة، وهو ما حدث مع الخط الذى كان صياد سمك فقير وسيم أزرق العينين فضى الشارب، وبدأ إجرامه بمعركة بينه وبين شيخ خفراء قرية درنكة بأسيوط انقلبت إلى ثأر، ومن ثم تحول إلى ابن ليل، يقول عيسى: «فى لحظة من لحظات إجرامه تحول إلى كائن رهيب وطد إرهابه فى الصعيد وبث الفزع فى كل قلب بلا استثناء لدرجة أنه اتخذ إحدى نقاط البوليس فى بعض القرى مقرا له، وكانت الشرطة تخافه وتخشاه بل ترتجف منه رعبا حتى إنه أباح لنفسه أن يتجول فى القرية أمام أفراد قوتها فيهربون منه وليس العكس» ووصل الأمر به إلى «أن مجرد ذكر اسمه يرعب كثيرين ابتداء من أصغر موظف فى بلدته درنكة وانتهاء بثلاث وزراء داخلية ورؤساء وزارات هم أحمد ماهر والنقراشى وإسماعيل صدقى».

 ويكشف الكاتب الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى مرت بها مصر فى ذلك الوقت والفقر الذى كان يعانى منه الشعب وخاصة فى الصعيد ويقول: «كانت السلطة متبلدة الإحساس تجاه مشاعر الناس الجماعية، الأوبئة تنتشر والناس تموت جوعا، وأثرى المضاربون والأفاقون والمهرجون، وانزلقت بنات الأسر المستورة إلى هوة البغاء ليأكلن، كل هذا طرح نماذج عنيفة من البشر هانت لديها حياتها وبالتالى حياة الآخرين»، والمدهش أنه فى نفس الوقت انتشرت الأسلحة وبيعت برخص التراب بعد الحرب العالمية الثانية، وحسب عيسى «كان طبيعيا أن يجد العنف أدواته بعد أن خلق تعقد الحياة دوافعه من الفقر والجوع والإحساس بالمهانة وأيضا وجد دوافعه فى رخص السلاح وغلاء الطعام»، ويكشف المؤلف «أن الغريب فى ظاهرة أولاد الليل هى العلاقة الوثيقة بينهم وبين أعيان الصعيد وأثريائه، وكان كثيرون منهم يعيشون فى حماية الأعيان وفى معظم التقارير الرسمية عن أبناء الليل شكى البوليس من أن الأعيان يعرقلون مجهوده فى القبض على الأشقياء بإخفائهم فى مزارعهم وبيوتهم»، كان هذا هو الجو الذى انضم خلاله الخط إلى عالم الليل ثم توسع نفوذه بعد انضمام عصابات أخرى إليه وتحالفه مع عدد من أولاد الليل مما مكنه من بسط نفوذه فى أسيوط وتهديده للأعيان، بل واستهتاره بالبوليس وهجومه على رجال الشرطة الذين حاولوا محاصرته والقبض عليه وتهديده لهم بقتلهم أو إيذاء أسرهم، وهو ما جعل شهرته تزداد وتصل إلى الملك فاروق شخصيا، وعندما استفحل أمره بكّت الملك مدير مديرية أسيوط عزيز أباظة باشا وسخر منه، وعندها أدرك الجميع أنه لا مفر من الوصول إلى الخط والخلاص منه حتى إنه تمت الاستعانة بالجيش فى مطاردته فى الجبل، وشكل وزير الداخلية إسماعيل صدقى قوة خاصة لهذه المهمة بقيادة الضابط محمد السعيد هلال، وعندما باءت كل محاولات اقتناص الخط بالفشل خاصة أن هناك من كان يبلغه بتحركات الشرطة أولا بأول وتحت حماية الأعيان المذعورين منه، فكر هلال فى طريقين للإيقاع بالخط، الأول خطة فتش عن المرأة والثانى تحريض الأعيان عليه واستمالتهم بالتهديد والوعيد والترغيب، وكان فى حياة الخط نساء كثيرات لكن كلهن رفضن التعاون مع البوليس رغم الضغوط التى تعرضن لها، بل إن إحدى بنات الهوى أكدت أن الموت أهون عليها من خيانته، وفى هذه الظروف ظهر خطاب عشيقة الخط إلى روزاليوسف، وعلم به الضابط هلال قائد فرقة المطاردة وبدا أن هناك خيطًا مهما للوصول إلى المجرم الخطير، وبأسرع من البرق اتجه إلى روزاليوسف وكانت فى مبناها القديم بشارع محمد سعيد، واستقبله الأستاذ إحسان عبد القدوس وقال له إن الخطاب جاء بين بريد جراح قلب وهو الباب الذى يعالج مشاكل القلوب ومتاعب المحبين، وبدأ الضابط يقرأ الخطاب والذى حكى على لسان فتاة وصفت نفسها بأنها فى الحادية والعشرين ونالت قسطا من التعليم المثالى لفتيات الطبقة الراقية، وكانت على علاقة مع فتى من طبقتها يجيد الرقص والتحدث بالفرنسية، وتقول الفتاة فى خطابها «عندما سمع والدى باندماجى مع هذا الفتى أرسلنى إلى الريف وهناك بدأت مأساتى، فى إحدى الأمسيات حضر شخص اهتزت له الحقول والعزب، وطلب عشاء وتفانت العزبة فى تقديم العشاء له وحضر الرسل من البلاد المجاورة حاملين الهدايا والنقود، وبنوع من الفضول والجراءة نزلت وقابلته، وانفض السامر وبقيت أنا وهو، وحدثنى عن مغامراته ومطارداته والجرائم التى ارتكبها، وطال الحديث ولم نشعر إلا ونحن فى الصباح، وتكرر حضوره وأثار الرجل إعجابى وشعرت بأنه ذو سلطان لا يقاوم، واعترفت بينى وبين نفسى أنى أحبه، أحببت فيه جمال الرجولة والجراءة والشجاعة ولا أظن أن هناك رجلا توافرت فيه هذه الشروط أكثر منه، وأفهمنى بأدب قاتل أنه يعبدنى ويثق بى وأنه يضع رقبته بين يدى بحضوره كل ليلة لكى يرانى، ومنعته من الحضور وذهبت أنا إليه، كنت أخرج وعندما أدخل حقل الذرة يقابلنى أحد رجاله ويوصلنى إليه»، وتضيف فى رسالتها «مشكلتى هى نفس المشكلة القديمة بين العقل والقلب ولكن لا أدرى لمن ستكون الغلبة، أرجوك يا سيدى أن تساعدنى وتبحث لى عن علاج»، وعاد هلال بالخطاب إلى أسيوط بعد أن وعد إحسان بأن يعيده مرة أخرى، كان الخطاب يفتح الباب أمام تحريات جديدة، ولكن من هى؟ وبنت من الأعيان ؟ وقبل أن يبدأ هلال البحث وقعت فى يده رسالة بنفس الخط كانت موجهة إليه هو شخصيا وبتوقيع زميل له يعمل فى منفلوط وكان مضمون الرسالة أن كاتبها سيسافر إلى القاهرة ويطلب سلفة خمسة جنيهات لحين عودته، وتوجه هلال إلى منفلوط وقابل صاحب الرسالة وبعد مناوشة خفيفة اعترف ضابط منفلوط أنه صاحب رسالة روزاليوسف، وأنه اخترعها من بنات أفكاره وقال: «أردت أن امتحن نفسى فى التأليف من الخيال»، وبرر ما فعله بأن الأمر يمكن أن يكون له جدوى فقد تهز الرسالة الأعيان الذين حموا الخط وآووه وأطعموه ومنحوه الأموال، وقال: «أردت أن أزعزع ثقتهم فى أنفسهم وفى أعراض بناتهم حتى يحرص كل منهم على تجنب الخط وإغلاق أبوابهم فى وجهه»، وهكذا ضاع هذا الخيط كما فشلت محاولات إيقاعه عن طريق عشيقاته الأخريات، ولكن ظل باب الأعيان مفتوحا، كان الخط قد استقر فى وابور مياه فى زمام قرية جحدم التابعة لمنفلوط، واستخدم البوليس عمدة القرية الذى كان على صلة به، وبالتهديد والوعيد استجاب للتعاون مع الشرطة ووضع مع فرقة المطاردة خطة للإيقاع بالمجرم الداهية، واستدرج العمدة الخط إلى خارج الوابور بحجة الحصول على فدية طفل كان قد خطفه، وتسللت معه فرقة الموت إلى الحقل المحدد اللقاء فيه وأطلق العمدة بنفسه الرصاص عليه فقتله، وكان فى جيب الخط عند مصرعه ستون قرشا ومصحف وساعة وثلاثة أحجبة وصورة لفتاة فى زى عرسها وإمساكية شهر رمضان، أما أمه فقد أنكرت فى البداية أنها جثة ابنها ثم صرخت باكية وانتحبت قائلة «يا ازرق العنين يا كايد الحكومة»، كانت هذه نهاية الخط، وعلى امتداد السنوات التالية سقط معظم أولاد الليل فى يد البوليس إما قتلى أو معتقلين.

الكتاب ممتع فى حكايته وتحليله العميق لظاهرة خطيرة سبقت ثورة يوليو بسنوات قليلة، والشكر واجب للكاتبة الكبيرة أمينة النقاش لإعدادها هذا الكتاب وللأستاذ وليد حسن الذى ساعد الزوجة الوفية فى ملف الصور والبحث عنها، ولروح أستاذنا الكبير صلاح عيسى السلام.