
حسن عيسى
كدهوّن!.. خناقات بأثر رجعى
لأن زوجتى العزيزة تتميز بقدرتها الفائقة على اختيار نوعية معاركها الزوجية بمنتهى الدقة مع اختيار الأوقات الحرجة أو غير المناسبة والتى لا أستطيع معها أن أجاريها فى خناقتها المصيرية بنفس القوة والحماس المطلوب لمثل هذه الخناقات المحببة إلى قلبها مما يزيد انفعالها اشتعالاً وتفسّر عدم حماسى هذا على أنه عدم اهتمام بها، وأحيانًا تفسّره بأنه سُخرية من أوجاعها ومَشاعرها وكِدَهُوَّن..
وبالطبع لم تجد غير ذلك اليوم شديد الحرارة والرطوبة المرتفعة والصهد المنبعث من الحيطان والمروحة الدايخة من كتر اللف يمين وشمال وكأنها تبحث عن أى نسمة هواء مستخبية تنقذها من هذا اللف والدوران دون جدوَى وكِدَهُوَّن..
رجعت البيت مفرهَد وجَعان وعَطشان وحالى عجب لأفاجأ بشريكة معاركى الزوجية تفترش الأرض وأمامها أكوام من المناديل الورقية المستخدمة وألبومات الذكريات وصور زفافنا وخطوبتنا متناثرة فى كل مكان وكأنها عادت بآلة الزمان للخلف لتستحضر الماضى البعيد أو القريب لتعيد ترتيب أوراقها كى تستطيع تفسير بعض الأحداث التى حدثت من قبل وكِدَهُوَّن..
وبمنتهَى السّذاجة سألتها أنت طابخة إيه النهاردة ياحبيبتى أنا ماأكلتش طول النهار يادوبك هاتعشى معاكى دلوقتى.. وهنا بدأت زوجتى معركتها بنظرة لوم وعتاب صامتة مع بعض الحشتفة ثم دخلت بمرحلة الأنين المكتوم ثم مَصمَصة الشفايف مع مسحة سريعة من المنديل الورقى مما أثار قلقلى عليها، فقلت لها هو أنت عندك برد؟؟ حاسّة بأعراض «كورونا» يا حبيبتى؟؟ فاكتفت بزغرة نارية من عينيها جعلتنى أتراجع عن اقتراحى بإجراء مسحة لها كى يطمئن قلبى عليها وكِدَهُوَّن..
واخترت الصمت؛ خصوصًا أنها قد بدأت مرحلة الهَمهَمة غير المفهومة ثم الهَمهَمة المفهومة المصاحبة لتمزيق بعض صور خطوبتنا مما جعلتنى أكتشف موضوع الخناقة مرتبط بموقف حدث يوم خطوبتنا مع «نفين» إحدى زميلات العمل التى تعمدت إثارة غيرتها على حد ادّعاء زوجتى التى ترفّعت عن مثل هذه الأفعال الصغيرة جدًا هذه (دى مراتى إللى بتقول) ولم تعرها أى اهتمام ولم تلتفت لها و«نفين» تخطفنى من عروستى (إللى هى زوجتى الآن) لترقص معى بمفردنا متجاهلة وجود العروس (إللى هى مراتى)، بل إن زوجتى العزيزة قد أكدت لى أكتر من أربعين مرةّ قبل ذالك أنها نسيت تلك الواقعة تمامًا؛ نظرًا لأنها مجرد تصرف غير لائق من فتاة رقيعة وتافهة، وأنا بدورى ارتحت لهذا النسيان إلا أنها تذكرتها فجأة فى هذا اليوم شديد الحرارة والرطوبة، وعليه قررت تستكمل الخناقة التى بدأت من عشر سنوات ولم تحسم حتى اليوم رغم أنى أكدت لها أكثر من أربعين مرّة قبل كده أن زميلتى هذه انتقلت للرفيق الأعلى ولم يعد لها وجود على الأرض ولا يجوز عليها إلا الرحمة، إلا أن زوجتى رأت الخناقة هذه المرة من زاوية مختلفة تمامًا، فالعيب لم يكن فى «نفين» زميلتى الرقيعة التافهة ولكن فىَّ أنا (جوزها وراجلها) لأنى لم أقف بجوارها ولم أدعمها فى حربها المقدسة ضد زميلتى التى تعمدت مضايقتها وأنا اكتفيت بابتسامة خفيفة محايدة مما شجعها للمزيد من المضايقات، بل ورقصت معى دون أى مراعاة لعروستى إللى بقت زوجتى وأمّ عيالى وكِدَهُوَّن ..
وعبثًا حاولت أن أنهى الخناقة بأى طريقة ممكنة أو غير ممكنة معترفًا بخطئى الرهيب ولأنى أيامها كنت صغير وطايش ومش عارف مصلحتى فين (إللى هى مع مراتى طبعًا) وعدت أذكرها بأنه لا داعى لإعادة فتح الملفات القديمة مرة أخرى خاصة أن المتهمة فى هذه الواقعة توفاها الله وكِدَهُوَّن..
إلا أن زوجتى استمرت فى الجدل وإلقاء اللوم على شخصى الضعيف واتهمتنى بأن هذا حالى معها دايمًا وبأنى عمرى ما نصفتها ولا وقفت معها فى أى خناقة حتى من باب المجاملة وكِدَهُوَّن.. وأنا مُفرهَد وملزق طهقان إلا أنها لم تقتنع واستمرت فى عتابها الذى بدأ خافتًا وانتهى صاخبًا؛ خصوصًا أنها افتكرت كل الحكايات الفرعية التى دعمت حكايتها الأساسية والتى تتلخص أنى عمرى ما نصفتها قدّام أو مع حد من قرايبى أو أصحابى ودائمًا بضحك فى وشّهم كلهم وأكثر فى وشها رغم أنها مش بتستحمل علىَّ الهوا (رغم الجو الحَر ومافيش أى نسمة هوا تخاف علىَّ منها) حتى أم إبراهيم إللى بتساعدنا فى البيت بتضحك فى وشها وتكشر فى وشى، هو أنا هانسى أبدًا أول عيد أمّ بعد ما اتجوزنا لما جبت لأم إبراهيم عَبايا سودا بترتر وخرز وكأنها رقاصة ومجبتش لى أنا عروستك أى هدية بمناسبة عيد الأم. وكِدَهُوَّن..
التزمتُ الصمت الرهيب ربما تهدأ وتتراجع عن انفعالاتها المتأخرة عشر سنين إلا أنها تصاعدت أكثروأكثر، فقد كانت من الطاقة ما يجعلها تواصل الخناق حتى طلوع الفجر مما دفعنى بأن أهرب إلى البلكونة فى هذه الأجواء الملتهبة من والهروب لعلها تنسانى وتنام وكِدَهُوَّن.. قررت أعمل كوباية شاى بالنعناع وأجيب كتاب من تلك الكتب إللى بشتريها وأخزنها من غير ما اقرأها وقلت أطلع أستمتع بجو الليل والقمر والنسمة العليلة إللى يمكن تيجى بعد شوية.. وبالطبع لم أنس أن أستمع إلى أغانى الست أم كلثوم وحب إيه إللى أنت جاى تقول عليه يامنعم؟؟ وبالفعل شعرت باسترخاء وهدوء نفسى عميق جعلنى أغفو قليلا والكتاب لا يزال فى يدى لأنى مصمم اقرأه بعد ما أصحى بعد قليل وكِدَهُوَّن.. إلا أنى حسّيت بحركة غير مريحة وراء أذنى لبرهة من الزمن وقبل أن أفتح عينى اختفت فواصلت النوم فى هدوء مرة أخرى حتى حدثت بعض الجلبة البسيطة مع خبطة صغيرة بكتفى، وقبل أن أعلن عن انزعاجى الشديد تذكرت مقالب زوجتى إللى من هذا النوع الطفولى؛ حيث تسعد جدًا عندما ترانى منزعج من المقلب فقررت أن أفسد عليها متعتها هذه المرة وكتمت شهقتى قبل أن تصعد لعنان السماء وأحدث فزع للجيران، فقد أدركت بسرعة أنها لا بُد أنها زوجتى العزيزة حضرت جاءت خلفى بتصالحنى بإثارة فزعى (كل زوجة ولها طريقة فى مصالحة زوجها) فثبت فى مكانى دون أن أحدث أى حركة أو لفتة رغم استمرار العبث بأرنبة أذنى بريشة أو ربما ورقة وتماسكت رغم فزعى حتى أفسد على زوجتى محاولتها لإخافتى وقررت التماسك بكبرياء رغم أن بداخلى انهيارات وسيول وكِدَهُوَّن.. وظللت أنشغل بالقراءة فى الكتاب رغم استمرار هزار زوجتى المستفز ولكنى هذه المرة أمتلك من الحكمة وضبط النفس ما يجعلنى أتماسك وأواصل القراءة بمنتهى الجدية مع تجاهل ما يحدث على كتفى وكِدَهُوَّن..
حتى دخلت زوجتى فجأة البلكونة وفى يدها صنية ساندوتش وبراد شاى وتقول فى مرح مفتعل أنا قلت أكيد جعان وعايز تتعشى فعملت ساندوتشات طعمية إسكندرانى وجيبنة رومى.. وقبل أن تسترسل فى شرح فكرتها العبقرية التى جعلتها تأتى بالعَشاء فى البلكونة كان كل همّى أن أكتشف تلك الريشة التى تلاعبنى من فترة إذا كانت زوجتى تقف فى الجانب الآخر فمَن تكون هذه الريشة.. وقبل أن أنطق على صراخ زوجتى وهى تلقى صنية العَشاء الأخير فى وجهى وتفاديت بمهارة أحسد عليها براد الشاى الساخن قبل أن يسقط علىَّ وهى تواصل الصراخ فاااااار قاعد على ضهر الكرسى بتاعك.. وهنا أطلقت صرختى المدوية وأنا أقفز لأعلى الكرسى (الفار اتخض من صرختى وهرب) احنا عندنا فار بيلعب فى ودانى.. ولم تنظر زوجتى كثيرًا واستمرت فى الصراخ وهى تتراجع للخلف حتى دخلت الغرفة وقفلت الشرفة جيدًا وتركتنى وحيدًا مع الفار فى مواجهة غير متكافئة بينى وبين الفار الذى أصيب بدوره بالفزع من جراء صرخاتى وصرخة زوجتى وأصيب بحركات هستيرية عنيفة انتهت بموته بأزمة قلبية وكِدَهُوَّن.. تخلصت من الفار وضمنت أن زوجتى ستحبس نفسها فى غرفتها على الأقل حتى الصباح لأستمتع أنا بالهدوء والقمر والقراءة وصوت الست أم كلثوم.