عادل حمودة
سيف المصادرة على رقاب الجميع من المحيط إلى الخليج
فى خانة المهنة.. فى جواز سفرى.. عبارة صغيرة تقول: إنى كاتب وصحفى.. فى البداية تصورت أنها عبارة سحرية.. تفتح القلوب والأبواب.. والألباب.. وتحطم الأسوار.. وتكشف الأسرار.. ثم.. اكتشفت أنها تهمة وجريمة.. ونظرات مريبة.
فالقانون الوحيد الذى يطبق على الكُتّاب هو قانون الليمون.. الذى يبدأ بالظنون وينتهى بالجنون.. ويفرض الأحزان على كل من يفكر فى العصيان. وللإنصاف فإنهم يشيعون الحرية بقراءة ما تيسر من سورة الرحمن.
فى أحد المطارات العربية يضعون على قوائم «ترقب الوصول» اسم كاتب ومفكر إسلامى معروف هو أحمد بن تيمية.. مطلوب القبض عليه فور وصوله المطار.. لكن المشكلة أنه مات منذ حوالى 700 سنة صحيح أن كتبه وأفكاره لا تزال سارية التأثير.. لكن صحيح أيضا أن الذين يراقبونها ويمنعونها ويصادرونها لا يقرأون.. ويتعاملون مع أى موضوع بكلمة واحدة وسهلة هى كلمة ممنوع.
لقد قال يوسف إدريس ـ الكاتب الشرارة والرصاصة ـ إن كل الحرية المتاحة فى العالم العربى لا تكفى نصف كاتب واحد.. وأغلب الظن أنه كان متفائلا.. فقد انكمشت مساحة هذه الحرية ولم تعد تكفى سدس كاتب واحد.. فالمصادرة والمطاردة لم تعد وظيفة حكومية فقط.. بل امتدت وانتعشت ونمت نموا سرطانيا فى خلايا بعض المشايخ الذين استثمروا عصر الخصخصة وفرضوا رقابة قطاع خاص.
إنهم صلبوا العقل والاجتهاد فوق حائط الكراهية.. وألقوا على الآخرين كرات من النار دفعت الحرية فى هذا الوطن نحو الهاوية.. ومن شدة النزيف وصل الفكر إلى سن الخريف.
إن تكفير الكتاب والدعوة إلى حرقهم وحرق كتبهم وجرجرتهم إلى المحاكم والتحريض على قتلهم وتطليق زوجاتهم أصبحت مهام «مقدسة» لمشايخ «مباحث الإيمان» التى تحظى بجرأة فى ذبح المطبوعات لا تحظى بها أجهزة الذبح الرسمية.. إنها تفرض القهر.. فمن سوى الله يلهمنا الصبر؟
لقد حرضت «جبهة علماء الأزهر» على اغتيال نجيب محفوظ، وحسن حنفى، وسيد القمنى، ونصر حامد أبوزيد، وفرج فودة، استعرضت العضلات ولعبت دور أجهزة المخابرات.. والاسم ليس على مسمى.. فهذه ليست جبهة وإنما جمعية أهلية تخضع للشئون الاجتماعية، وظيفتها تقديم الخدمات لأعضائها.. وأعضاؤها لا يمثلون أنفسهم.. بل إنهم يحاربون علماء الأزهر.. وشيخ الأزهر.. لكنهم يلعبون بالكلمات.. ويطلقون الطلقات.. ويطالبون بحرق المطبوعات.. وراحوا يقرعون الطبلة لنعود إلى عصر الغفلة.. إنها زفة.
لكن.. بعض علماء الأزهر يدعمونهم خاصة فى مجمع البحوث الإسلامية.. لقد حل هذا المجمع محل هيئة كبار العلماء، وضم إلى جانب المشايخ أطباء، وأساتذة قانون وخبراء فى العلوم الإنسانية المختلفة لكن إدارة واحدة فى هذا المجمع تشوه صورته إدارة فحص المطبوعات وكتابة التقارير عنها ثم تحويل هذه التقارير إلى مباحت أمن الدولة التى تحولها إلى نيابة أمن الدولة للتحقيق مع الكاتب والناشر تمهيدا لمحاكمتهما أو الإفراج عنهما.
والمذهل.. أن بلاغات التحريض على هذا النوع من محاكم التفتيش تبدأ من صحيفة «اللواء الإسلامى» وهي الصحيفة المعبرة عن الرؤية الدينية للحزب الوطنى.. هى التى تمهد للتفتيش فى عقول الكتاب والمفكرين.. ثم يأتى دور المحققين للنكش فى رؤوس المؤلفين.. هل تؤمن بالله؟.. هل تقبل إطاعة ولى الأمر؟.. هل تبوس لحية الشيخ؟.. فى كل سؤال لغم.. وإهانة.. فهم يعاملون عقل المبدع معاملة الشقة المفروشة التى من حق بوليس الآداب وبوليس الإيمان اقتحامها فى أى وقت.
إن آخر الضحايا هو الشيخ خليل عبدالكريم الذى لا تزال كلمة من النيابة أو من المحكمة تؤكد أن عقله منطقة حرام ليس من سلطات أحد اقتحامه والعبث بما فيه.
وغالبا ما تطلق المحكمة سراح الكتاب.. وغالبا ما تشيد بحرية الفكر وغالبا ما ترى أنه لا مبرر لحبسهم لكن.. ذلك لا يمنع وقوع الضرر.. فهناك كتاب استدعوا للتحقيق وعانوا من قهر الاستجواب وعاشوا أياما من القلق والحزن والغضب والاكتئاب إن هذا فى حد ذاته عقاب وخاصة أنه يمكن أن يتكرر مع نفس الكاتب بعدد كتبه وهو ما جرى مع سيد القمنى الذى خرج من الفخ الأول فوجد نفسه أمام بئر أشد عمقا وإظلاما وليس هناك سوى حل وحيد لهذه المهزلة هو أن يراجع مجمع البحوث بكامل أعضائه مثل هذه القرارات والتصرفات ولا تترك للجنة من لجانه وهو ما سمعته من وزير الأوقاف د.حمدى زقزوق فى ندوة كنا ضيوفا عليها فى الأسبوع الماضى.
وقد أدهشنى أن رموز التيار الدينى الذين قتلوا أنفسهم على ما يتعرض له روجيه جارودى فى فرنسا لم يكلفوا أنفسهم كلمة ضد ما يتعرض له مفكرون فى مصر.. لقد هبت كل القوى الثقافية لمناصرة جارودى.. وأجمعت على مساندته ضد قوانين النازية الجديدة فى إسرائيل وفرنسا.. لكن أنصار الفكر الدينى لم ينزعجوا لما جرى فى نفس أسبوع محاكمة جارودى لمفكر إسلامى مصرى هو خليل عبدالكريم.. فالفاشية حرام فى فرنسا، حلال فى مصر والمحاكمة عار فى باريس ووسام فى القاهرة وحرية الفكر حق لجارودى واغتصاب لخليل عبدالكريم.. إن حرية العقل لا تقاس بمكيالين.. ولا تقبل القسمة على اثنين وليست شفرة سرية لاغتيال المفكرين المسلمين المصريين.. ولغة هتاف علنية للحرية باللغة الفرنسية.
إن فهمى هويدى الذى كاد أن يشنق نفسه حزنا على جارودى لم يفتح الله عليه بكلمة واحدة لمناصرة حرية خليل عبدالكريم فى التفكير.. بل إن فهمى هويدى كان واحدا من أبرز الذين كسروا ظهر سعيد العشماوى، وحامد نصر أبوزيد فكان أن هاجر الأخير وأصبح منفيا فى هولندا.. وانضم إلى قبيلة الكتاب والمفكرين العرب الذين قطعوا تذكرة بلا عودة.. عبدالرحمن منيف جلال صادق العظم.. وسعدى يوسف.. ونزار قبانى وغيرهم عشرات هربوا من الغول فى وطن اللامعقول.
لقد حصلت على آخر قوائم المصادرة فى العالم العربى.. وخلاصة هذه القوائم أن لا كاتب واحدا مسموح بكتبه فى كل العالم العربى.. فهناك دائما كاتب ممنوع وهناك دائما كتاب مصادر لا أحد يسمع أصوات الكتاب.. لا أحد يريد أصابعهم.. فعباءة الرقابة مرقعة.
إن دولا فى شمال أفريقيا لا تطيق مؤلفات فهمى هويدى ومحمد عمارة وطارق البشرى وأحمد كمال أبو المجد ومحسن محمد.
وبعض دول الخليج لا تستطيع أن تقرأ كتب محمد حسنين هيكل، وترى أن كتاب «شطح المدينة» لجمال الغيطانى.. جريمة.. وقالوا، لأنيس منصور فضيحة.. والقصص الدينية لأحمد بهجت نوع من الكفر.. وموسوعة د.أحمد زكى العلمية نوع من العهر.
وكل كتابات راجى عنايت عن المستقبليات.. خرافة.. وفى القائمة السوداء.. فاروق شوشة وكريمان حمزة.. ومحمد الفيتورى.. وغيرهم من كتاب كنا نعتقد أنهم أصدقاء لرؤية هذه الدول للحياة.. لكن يبدو أن سيف الرقابة على الجميع.
والمنطق نفسه نجده فى دول عربية أخرى تمنع كتابا يدافعون عن رؤيتها من هؤلاء الكتاب أمين هويدى ومجيد طوبيا ومحمد سيد أحمد وسليمان حزين وغيرهم.
فالفكر الأصولى يصادر فى دول تتبنى الأصولية.. والفكر القومى مصادر فى دول تتبنى القومية.. والشعر مصادر والجنس مصادر.. والحب مصادر والعلم مصادر.. والمستقبل مصادر.. كل النصوص التى يرتديها الكتاب مثيرة للفتنة.. كل اللغة التى يعبرون بها مثيرة للنظم.. ترحل يمينا.. ترحل شمالا..
لا فائدة.. تكتب ضد إسرائيل أو مع إسرائيل.. لا فائدة.. تهاجم المرأة.. أو تدافع عنها ففى ثانية واحدة يمضغون الكتاب فهم النكهة المفضلة.
ويمكن تهريب «الحشيش» ولا يمكن تهريب الكتاب.. ومهربو المخدرات يحاكمون محاكمة جنائية عادلة.. ومهربو الكتب يدخلون الجب.. ولا يعرفون ضوء الشمس.. وليس أمامهم إلا المشرحة أو المقبرة.
إننا فى زمن البندقية.. الأمية التى تحكم وتسيطر ولكنها لا تقرأ ولا تكتب.. فى زمن يفرح فيه الكاتب لو نقد فيلما بشراسة وأخرج الكبت السياسى المزمن الذى يعانى منه فى الكتابة عن العاهرات.. إن الممنوع من الحرية يسعده أن ينزع البلاستر الذى يسد فمه ويغطى قلمه لكن من يمنحه هذه السعادة وهو يعامل معاملة المصاب بالإيدز.
ولا توجد جهة واحدة للرقابة.. فالأمن والإعلام والمشايخ يتنافسون على الحرمان والمنع.. وحرس الحدود يهاجمون الشاحنات التى تنقل الكتب بالعربات المصفحة.. وقوات الأمن تقتحم المطابع وتمزق الكتب قبل تجليدها.. تفرمها وأحيانا تستغرق موافقة دخول الكتاب سنوات يكون خلالها قد فقد صلاحيته.. إن ذلك يحدث فى الوطن العربى الممتد من الوريد إلى الوريد.. لا أحد نجا.. لا أحد لمس بأصابعه تأشيرة الدخول.
لكن.. رغم ذلك فالمقولة لا تتوقف فجمعيات حقوق الإنسان وجمعيات حرية الفكر والاعتقاد ترفع صوتها.. والنقابات المهنية تعزف نفس النغمة.. والجامعات تؤيد والصحافة تتابع فبدلا من أن نلعن الظلام نحن نشعل شمعة أو عود كبريت فى هذا الظلام الدامس.
فالصراع لن يتوقف بين الكاتب والرقابة.. بين النور والعتمة.. بين الإيداع والفاشية.. بين اللحم والسكين.. ومهما كانت شراسة الصراع فإن البقاء فى النهاية للأصل.. للأمل.. الحرية.
وحتى يتحقق هذا الأمل.. اقرأ هذا العدد.. واحتفظ به ولا تسلفه لجارك واتركه لأولادك.. وأحفادك.
فهذا العدد شعاع ضوء من تحت عقب الباب فلا تفرط فيه.
"المقال نشر فى مجلة روزاليوسف العدد 3634 بتاريخ 2/2/1998”







