الأربعاء 30 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. أنا وسميحة وكريمة

كدهوّن!.. أنا وسميحة وكريمة

رجعت يومها من مَدرستى محملا بأعباء الدروس والواجبات المدرسية التى لا تنتهى وأحمل بين ضلوعى حب من طرف واحد مع مُدرستى الحسناء مدام «هند» التى لا تشعر بحبى لها وتعاملنى بمنتهى السذاجة معاملة الأطفال، بينما أنا أنظر لها كفتاة أحلامى وكدهون.. انتهزت فرصة عدم وجود أبى بالمنزل وانشغال أمّى فى المطبخ وفتحت التليفزيون خلسة (على أيامنا كان التليفزيون من المحرّمات أيام الدراسة) لأجد فيلم (صغيرة على الحب) لأول مرة فى حياتى.



 

 وفجأة يشرق كائن مبهج ليس كباقى الكائنات التى أعرفها أنها فتاة مرحة جميلة ساحرة وأجمل بكثير من مدام هند (مُدرستى الحسناء)، كما أنها تستطيع أن تكبر وأن تصغر فى العمر فى نفس الوقت وبمنتهى السهولة والخفة تمامًا كما تفعل الساحرات فى حكايات الأساطير وتستطيع أن تقنع الجميع بالمرحلتين وكدهون.. 

  فهى «كريمة» الفتاة العنيدة الممتلئة أنوثة وحيوية وتوهج وإصرار على تحقيق أحلامها مَهما صادفها من صعاب، وهى فى نفس الوقت «سميحة» تلك الطفلة الساذجة ذات الصوت المسرسع التى تضطر أن تذهب للتليفزيون بمفردها لأنها يتيمة ووحيدة ولا أحد يهتم بحالها فنجدها تتقدم الصفوف بجراءة وتعافر للوصول إلى مكتب المُخرج لتقدم موهبتها له بينما يقف كل الأطفال فى حماية أمهاتهم ورغم ذلك هى التى تنجح فى لفت نظر المخرج وتفوز بالدور بمجهودها وموهبتها فقط وكدهون.. 

لم أكن أعرف سعاد حسنى حتى هذه اللحظة الفارقة فى حياتى، وكان السؤال الذى يشغلنى وقتها يا ترى سعاد حسنى دى كبيرة وبتصغر أمْ هى طفلة صغيرة وبتكبر؟استمر هذا السؤال يلازمنى فترة طويلة حتى قررت أن أجرب بنفسى تلك التجربة المثيرة هل أستطيع أن أمتلك تلك الحيلة السحرية مثلها وأن أقنع الناس بأنى شاب في العشرين من عمرى أو أقنعهم بأنى طفل وليد ما زال يحبو، وما أن شاهدتنى أمّى أرتدى بدلة أبى وحذاءه حتى أطلقت ضحكات ساخرة وهى تحذرنى من رد فعل أبى عندما يحضر ويشاهدنى هكذا مثل الأراجوز وكدهون.. 

ورغم أنى تعاملت مع التجربة بمنتهى الجدية إلا أنها باءت بفشل ذريع جعلنى أتحفظ على العودة مرة أخرى لتقمص الشخصيات ولكنى استمريت فى حب شخصية (كريمة الفتاة الكبرى فى الفيلم) إلا أن أحلامى هذه ما لبثت أن تحطمت على صخرة الأستاذ الألمعى رشدى أباظة الذى شاركنى حب كريمة ووجدتنى أتراجع كثيرًا لأقف فى خندق واحد مع الأستاذ نور الدمرداش (ملطشة كريمة طول الفيلم) وأكرّر تجربة الحب من طرف واحد، وهذا ما لا أحتمله مرّة ثانية وكدهُوَّن.. لم أجد مفرًا من الذهاب إلى شخصية سميحة لأنها مناسبة لى أكتر من حيث السّن ولا يوجد منافسون لى غير ذلك الولد السخيف الذى ينتظرها على مدخل العمارة وهى تتهرب منه مما شجعنى على التقدم لصداقتها والاستمتاع بعالم الطفولة البرئية معها وأترك كريمة لوحش الكون رشدى أباظة وكدهُوَّن.. 

وبالمصادفة شاهدت مؤخرًا لقاء مسجلا لسعاد حسنى على المسرح فى سوريا؛ حيث كانت تقدم فقرة غنائية لعبدالحليم حافظ ظهرت سعاد جميلة ومبهرة ومثيرة كما يجب أن تكون عليه النجمة السينمائية إلا أنها كانت فى غاية الخجل والارتباك، خاصة عندما سألتها مذيعة الحفل عن دورها فى فيلم (صغيرة على الحب) والذى بالمصادفة كان سيعرض وقتها فى سوريا إلا أنى فوجئت بها تتلعثم ويتوه منها الكلام وتتحول لطفلة صغيرة متوترة من الجمهور والأضواء للحظات لتخرج منها كلمات متقطعة تقول أن الوقت مش مناسب للكلام عن دورى فى الفيلم رغم أنها موجودة فى سوريا للدعاية لفيلمها، وعندما اختفت المذيعة بأسئلتها عادت سعاد مرّة أخرى لابتسامتها الأنثوية المغلفة بالطفولة المرحة وهتفت بأعلى صوتها «يعايشك» ليعلو صوت الجمهور السورى بالتصفيق الحاد ثم تعلن عن فقرة عبدالحليم حافظ وتقفز هاربة من على المسرح على طريقة السندريلا دائمًا وكأنها تتخلص من عبء كبير من مواجهة الجمهور بشكل مباشر بعكس جمهورها السينمائى الخفى وكدهُوَّن..   

اندهشت جدًا من خجلها الكبير فى الحياة وبين انطلاقها الرهيب فى فيلم (صغيرة على الحب) كيف لهذه الفتاة الخجولة أن تنطلق وتتقمص شخصية كريمة وأن تسيطر على قلوب وعقول جمهورها بينما هى فى الحياة أقرب لشخصية سميحة وكدهُوَّن.. بدأت أتابع خطوات سعاد حسنى واكتشفت ثنائية مستمرة معها فى معظم أعمالها، فهى تقدم فى نفس الفيلم شخصيتين متناقضتين كما فعلت فى (صغيرة على الحب) نجدها تقدم فى فيلم (للرجال فقط) شخصية فتاة ناعمة وشاب خجول وفى فيلم (شباب مجنون) تقدم الفتاة المنطلقة وفى نفس الوقت تقدم الشاب معبود الفتيات وفى فيلم (نادية) تقدم أختين توأم وفى (بئر الحرمان) تقدم الطالبة الهادئة والعاهرة، وفى (خلى بالك من زوزو) تقدم الطالبة مثالية والعالمة فى شارع محمد على وكدهُوَّن.. حتى فى أدوارها التى لا تقدم فيها شخصيتين مختلفتين نلمس تحولا جذريًا فى طبيعة الشخصية التى تقدمها، ففى (السفيرة عزيزة) نجدها الفتاة المغلوبة على أمرها وفجأة نجدها تتحول لفتاة قوية تواجه أخاها وزوجها بمنتهى العند والتحدى، وكذلك فى فيلم (القاهرة 30) نجدها الفتاة الفقيرة الرومانسية وتتحول للمرأة اللعوب التى تقيم علاقة مع رجل غير جوزها..   

وتستمر ثنائية الأدوار حتى فى فيلم (الزوجة الثانية) نجدها الزوجة الريفية الساذجة وتتحول لزوجة مثيرة غاية فى الذكاء والمكر وكدهُوَّن.. أدركت أن سعاد حسنى عاشت فى الحياة نفس ثنائية سميحة وكريمة، فهى على الشاشة السينمائية أقرب لشخصية كريمة الجميلة طاغية الجمال والأنوثة ومصدر البهجة والطاقة الإيجابية للجميع، بينما هى فى الواقع تعيش حالة أخرى أقرب لسميحة تلك الطفلة اليتيمة الوحيدة التى تبحث عن الحب والحنان والاحتواء وربما الحماية والاختباء فى كل وجوه العابرين فى حياتها بدءًا من عبدالرحمن الخميسى وعبدالحليم حافظ وعلى بدرخان إلى أن وصلت إلى حضن الأب صلاح جاهين وليس الحبيب الذى خذلها، وكما هربت سندريلا فى الوقت المناسب من الحفلة هربت سعاد حسنى من حياتها عندما تخلى عنها الجميع وخانتها صحتها حتى جاء موتها أسطوريا مغلفًا بالإثارة والغموض وبالشائعات ويتناسب مع تلك الشخصية الأسطورية.