السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

ملهمات عبقريات عظمة على عظمة يا ست قادت المظاهرات ضد الإخوان فحاولوا إسكاتها بالقوة «شاهندة مقلد» أيقونة أحداث الاتحادية

إن حقوق المرأة وحريتها التى تتمتع بها الآن، ليست نتاج يوم أو عمل واحد، بل عقود من النضال المستمر، من أجل كسر القيود المجتمعية القديمة التى فرضت عليها، بألا يعلو أفق تطلعاتها أكثر من حوائط منزلها. ومع ذلك، أعلنت بعضهن عن رفضهن التام بسجن عقولهن، وسعين لكسر هذه القيود، ليثبتن أن للمرأة حرية وحقًا فى التعلم، والعمل، والنضال، وألا تكون (المعرفة، والمقدرة) حكرًا على معشر الرجال فقط.



فى مصر، نساء تم تخليد أسمائهن، وأعمالهن..وفى هذه السلسلة ترصد (نون القوة) حياة وكفاح هؤلاء الملهمات، العبقريات، لتعرف فتيات ونساء اليوم وغدٍ، أنه لا يوجد مكان لكلمة (مستحيل).   

تعد من أوائل السيدات اللاتى ضربن بحكم الإخوان عرض الحائط في أثناء حكمهم للبلاد، فلن تهبهم بل أعلنتها صريحة دون خوف أن الرئيس المعزول محمد مرسي فقد شرعيته كرئيس للجمهورية، بسبب الإعلان الدستوري، الذي وصفته بأنه استبدال الدولة المدنية بدولة الحاكم بأمره، وكانت من أوائل  مؤيدي ثورة الـ30 من يونيو. التي وصفتها بحبل نجاة الدولة من الوقوع في عصمة الإخوان، وأنها خير دليل للاحتشاد الوطني.

 هي شاهندة مقلد التي لقبوها بـ «مناصرة الفلاحين»، التي ظلت تستنزف حياتها في النضال باحثة عن حقوق الفلاحين طوال عمرها.

 أن استولت جماعة الإخوان على حكم «مصر»، أعربت عن كرهها الشديد لهم، وانتقدتهم  علانية، ولم تخش يوما منهم، لأنهم في نظرها سرقوا ثورة 25 يناير، وشعاراتها من الشباب، ناهيك عن أعمالهم التي انتقدتها طوال توليهم الحكم.

وفي أحداث قصر الاتحادية في ديسمبر 2012، تعرضت المناضلة المصرية «مقلد»، التي نزلت إلى الاحتجاجات بنفسها في سن 75 عاما، إلي الاعتداء من قبل أعضاء الجماعة الإرهابية، أثناء تضامنها مع الشباب، لتقتحم جماعة الإخوان خيم المعتصمين وكسروا الخيم، لتقف أمامهم وتهتف قائلة: «لا إله إلا الله.. الإخوان أعداء الله»، ليقوم أحد الإخوان بتكميم فمها قائلاً: «بس اسكتي» محاولا الاعتداء عليها.

تذكرنا بعض أيام شهر يونيو الجارى،  ويوليو المقبل بالمناضلة «شاهندة مقلد»..فالشهر المقبل هو الذى كتبت فيه الفتاة الشجاعة -بشكل رسمي- مسيرتها الثورية، مع ثورة 23 يوليو 1952. أما الشهر الجارى فيأتى بذكرى ثورة 30 يونيو 2013، التى أسقطت نظام الاخوان، والتى كانت «مقلد» -ذات الـ(75) عاماً وقتها- من أوائل الواقفين ضدهم فى الاحتجاجات. وهو أيضاً الشهر الذى رحلت فيه عن عالمنا فى عام 2016.

كانت «مقلد» أيقونة للمرأة الجريئة المعروفة بمناصرتها -منذ نصف قرن- لحقوق الفلاحين الفقراء، ضد الظلم، والاستغلال فى «مصر». كما كانت معروفة أيضا بنشاطها ونضالها، من أجل محاربة استغلال المرأة، والمطالبة بحقوقها الاجتماعية، والسياسية كاملة فى «مصر»، والعالم العربى.

كانت «شاهندة مقلد» امرأة ذات طابع قوى خاص، كانت مثلما وصفها عنوان مذكراتها (لن أنكسر)، التى كتبها الكاتب الألمانى «جيرهارد هازه-هندنبيرج».

  وطنية بالفطرة

ولدت «شاهندة مقلد» فى عام 1938، لأب ضابط شرطة، صاحب حس وطنى عال، أوصاها فى أحد الأوتوجرافات الخاصة بها، قائلا: «ابنتى العزيزة. اتق الله فى كل كبيرة وصغيرة. لا تفعلى سراً ما تخشينه علناً.. ودافعى عن رأيك حتى الموت». وهكذا، تعلمت الفتاة الصغيرة من والدها الدفاع عن أبناء وطنها، وقريتها من الفلاحين. 

وقد نشأت «مقلد» فى قرية «كمشيش» بمحافظة «المنوفية» لفترة، وهى القرية التى جعلت  من اسمها، رمزاً لنضال الفلاحين.

وعلى الرغم من تنقل أسرتها فى العديد من الأماكن على امتداد الجمهورية، تبعاً لظروف عمل والدها، إلا أن «كمشيش» كانت فى وجدانها دائماً، لأنها حملت معها ذكريات الطفولة، حيث كانت تشاهد بعينيها جرائم الإقطاع ضد الفلاحين، الذين اغتصبت أراضيهم، وكانوا يجبرون على العمل فى الحقول، دون أجر، أو بأجر زهيد.

وهكذا، عاشت الفتاة حياة اعتيادية، فى ظل وضع اجتماعى،  عرف بالتفاوت الطبقى منذ قرون طويلة. ولكن، بمجرد أن اشتد صلبها، اختارت الطريق الأصعب، وهو النضال. 

ظهر ذلك النضال فى حياتها الشخصية، قبل الاجتماعية، والسياسية. فبعد أن جاء ارتباطها الأول بالإجبار، وانتهى بالطلاق. صممت الشابة أن تتزوج فى المرة الثانية بمن تحب، وخاضت معركة مع أسرتها، واضربت عن الطعام، وهربت مرتين من المنزل، حتى تزوجت فى عام 1957، من ابن عمتها وشريكها فى الثورة ضد الإقطاع «صلاح حسين»، الذى التحق فى صفوف المقاتلين العرب، أثناء حرب عام 1948 فى «فلسطين»، ثم سافر إلى القنال عام 1951 ليحارب الإنجليز، وفى 1956 شكل كتيبة من فلاحى «كمشيش» ليحاربوا العدوان الثلاثى،  وفقاً لما ذكرت «د.شيرين أبوالنجا» فى كتابها «أوراق من حياة شاهندة مقلد».

 لقاء «عبدالناصر، وجيفارا، وسارتر»

تمتعت «مقلد» بجرأة غير مسبوقة، لفتت بها أنظار الصحافة المصرية والعالمية، إذ استطاعت أن توقف موكب الرئيس الراحل «جمال عبدالناصر»، مع المناضل الثورى «تشى جيفارا»، أثناء زيارتهما «كمشيش»، وقدمت لهما عريضة لمطالب الفلاحين فى قريتها، بعد أن رفعوا لافتة مكتوباً عليها: «نحن معزولون عنك منذ سنوات يا «جمال عبدالناصر».. وممنوعون من الكلام معك.. ونحن نمثل هنا قرية ثورية، ونقف إلى جانبك».

فكان «عبدالناصر» يرافق «جيفارا» ليطلعه على إنجازات ثورة يوليو 1952. ودُعى الاثنان لتناول الغداء فى منزل «السادات» بقرية «ميت أبو الكوم»، لينتهى برنامج زيارة الثائر العالمى بمؤتمر يعقد فى مدينة «شبين الكوم».. وكان على الموكب أن يمر بقرية «كمشيش» المجاورة. فاستغلت «شاهندة مقلد» الفرصة، وأحضرت مع عدد من الفلاحين المتعلمين لافتة، ووقفوا على جسر فى طريق الموكب.. وعندما توقفت سيارة «عبدالناصر» عند الجسر هتفت به «شاهندة» : «نريد أن نتحدث إليك يا «عبدالناصر».

فانتفض الأخير من مقعده. وبعدما اقتربت الشابة الجريئة من سيارته المكشوفة، رأت «جيفارا» يجلس إلى جانبه.. وصافحت «شاهندة»، الرئيس المصرى،  وضيفه، وسلمت رسالة الفلاحين إلى الرئيس؛ ثم خاطبت «جيفارا»، قائلة: «نحن فلاحو قرية «كمشيش»، وهم سكان القرية الثورية!». وبعدما تُرجم كلامها إلى «جيفارا»، هب واقفاً، وحياها بحرارة. فأطلق الفلاحون عاصفة من الهتافات والتصفيق.

وإذا كان لقاء المناضلة المصرية، بالمناضل الكوبى جاء محض الصدفة، فإن زيارة الفيلسوف الفرنسى «جان بول سارتر» بعدها، كان مخططاً لها، وكادت تقتصر على قرية «كمشيش» وحدها، حتى يعرب عن تضامنه مع أهل القرية، ومع «شاهندة مقلد» بصورة خاصة، والتى حضّرت بدورها للفيلسوف عدداً من الأسئلة، ومنها: «كيف اطلعت على أوضاع قريتنا؟؛ وبأى شعور أتيت إلى «كمشيش»؟». ليجيب «سارتر» بأنه قرأ تقريراً عن القرية فى صحيفة فرنسية، فأراد أن يعرف حقيقة ما حدث فى القرية. وقال إنّه جاء بمشاعر متناقضة، فكان يشعر بالحزن من ناحية، بسبب مقتل أحد قادة الفلاحين برصاص أحد كبار الإقطاعيين (وكان زوج مقلد هو الذى قرأ عن اغتياله فى الجرائد). لكنه، أظهر إعجابه بشجاعة الفلاحين من ناحية أخرى، لأنهم لم يستسلموا للأمر الواقع. 

 اغتيال زوجها «صلاح حسين»

يذكر، أن الزوجين تشاركا فى النضال مدة تسع سنوات بعد زواجهما، إذ دعمت «شاهندة مقلد»، و«صلاح حسين» الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية للرئيس الراحل «جمال عبدالناصر». وناضل الزوجان ضد تهرب إقطاعى «كمشيش» من قانون الإصلاح الزراعى،  الذى صدر فى أعقاب ثورة يوليو، إلى أن قتل زوجها على يد إحدى عائلات الإقطاعيين فى 30 أبريل 1966. وكان عمر «شاهندة» فى ذلك الوقت ٢٧ عاماً. 

ورغم مرارة الصدمة، والشعور بالظلم، إلا أنها صارت قائدة على المستويين المحلى والوطنى،  دافعت عن حقوق الفلاحين، وتبنت قضايا أخرى على مستوى التحرك الشعبى.

وحكت «شاهندة» اللحظات الأخيرة، قبيل مقتل زوجها، بأنه: «بعد ستة أسابيع من ولادة «بسمة» (ابنتهما الثالثة)، وفى صباح يوم شم النسيم، انطلق «صلاح» إلى «القاهرة»، حتى يلتقى بممثلى فلاحى «كمشيش» فى مبنى الاتحاد الاشتراكى. وصاغ معهم بياناً موجهاً إلى الرئيس «عبدالناصر»، يناشدونه بتقديم الدعم لهم، فيما يتعلق بإقامة مستشفى محلى،  ومركز ثقافى فى منزل «صلاح الفقى»، لأن المنزل سيكون خالياً عن قريب، بعد أن شيّد صاحبه منزلاً جديداً له خارج «كمشيش».  

ثم أوضحت أنها عرفت -فيما بعد- بأن هذه العريضة تناولت تفاصيل أكثر مما كان مقرراً لها، لأن «صلاح» لم يوقف مطالبه على هذه القضية وحدها، إنما انتقد فساد الجهاز الحكومى..وقالت: «اتصل بى «صلاح»، بعدما فرغ من العريضة، وقال إنه سيصل إلى الدار مساءً. لكنه، سيمر بكمشيش قبل ذلك، ليبلغ الفلاحين بتفاصيل المركز الثقافى. غير أنه لم يعد إلى الدار حتى بعد أن تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل».

توعدت «شاهندة» بعد تشييع جنازة زوجها، بمواصلة نضاله من أجل الفلاحين. كما حظيت حادثة اغتيال زوجها باهتمام كبير داخل «مصر» وخارجها، وتناقلت الصحف العالمية حادث قرية «كمشيش».

ومن جانبه، أشار الرئيس الراحل «عبدالناصر» فى خطابه السنوى بمناسبة (عيد العمال)، إلى حادثة اغتيال «صلاح حسين»، واعتبرها دليلاً مؤلماً على عدم تقدير الحكومة للخطر، الذى يمثله أعداء الثورة.

 ثورة 30 يونيو

رغم الصفعات العنيفة التى تلقتها «شاهندة مقلد»، مثل: اغتيال زوجها؛ ومن ثم استشهاد أخوها الطيار المقاتل فى حرب 1973؛ بالإضافة إلى مقتل ابنها الثانى «وسيم» فى «روسيا»، بعد أن عثر على جثمانه مقطع الأوصال، فى حقيبة بها جرائد باللغة العربية، وتم دفنه هناك دون علم أحد من أهله؛ بجانب العمر الذى جرى سريعاً للشيخوخة، إلا أنها فاجأت الجميع، بأنها تتمتع بروح شابة، وأن العمر مجرد أرقام على ورق. 

فعندما اشتمت رائحة الحرية، ووصل لآذانها ثورة جديدة يتم إحياؤها، حُررت أولاً من عزلتها، وسباتها، ويأسها، وجمعت شتات نفسها، وأصبحت أكثر صلابة، رغم تجاوزها عمر السبعين ببضع سنوات.

إلا أنها بعد أن استولت جماعة الإخوان على حكم «مصر»، أعربت عن كرهها الشديد لهم، وانتقدتهم علانية، ولم تخش يوماً منهم، لأنهم فى نظرها سرقوا ثورة 25 يناير، وشعاراتها من الشباب، ناهيك عن أعمالهم التى انتقدتها طوال توليهم الحكم. 

وفى أحداث قصر الاتحادية فى ديسمبر 2012، تعرضت «مقلد»، التى نزلت إلى الاحتجاجات بنفسها فى سن 75 عاماً، إلى الاعتداء من قبل أعضاء الجماعة الإرهابية، عبر تكميم فمها، بعد أن هتفت: «يسقط الإعلان الدستورى»، فاعتدى عليها أحد رجال «خيرت الشاطر».

وفى نوفمبر 2013، صرحت فى أحد البرامج، أنه يجب معاملة جماعة الإخوان كجماعة إرهابية، لأنها حرضت على تدمير الشعب، والجيش، والدولة المصرية، وحتى تتمكن الدولة من التعامل معها، بما يتناسب مع ذلك النوع من الجماعات لردعها، مشيرة إلى أن أنصار الإخوان حاولوا دفع الشعب المصرى إلى مزيد من الأزمات، قائلة: «القانون المصرى،  هو الحكم بين الشعب، وأنصار جماعة الإخوان، وليس من حق أحد أن يروع المواطنين أو يعتدى على أمنهم».

تمسكت «مقلد» بمبادئها حتى آخر نفس، حتى تدهورت حالتها الصحية فى الشهور الأخيرة قبيل وفاتها. لكن، أمر الرئيس «عبدالفتاح السيسى»، بعلاجها على نفقة الدولة. واستمرت -بالفعل- تحت الرعاية الطبية، حتى 2 يونيو 2016، وتوفيت عن عمر ناهز الـ78 عاماً.