الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الخلافة الرقمية (1): كيف أسَّس داعش دولة موازية على شبكة الإنترنت؟

عملت داعش منذ اللحظة الأولى لإعلان دولتها على أرض الواقع على عمل نسخة احتياطية منها على الإنترنت وكأنها buckup للخلافة فى حال تم محوها من الواقع لتستمر بشكل افتراضى، وهو ما حدث.



فرغم تمكن التحالف الدولى من تحرير جميع الأراضى التى احتلها التنظيم فى العراق وسوريا والقضاء على %90 من قوته، فإنها لاتزال موجودة كدولة بأركانها الأساسية، ولكن «إلكترونية»، اتخذت من الإنترنت أرضًا للخلافة الموازية.. ومن متابعى حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعى شعبًا.. وصنعت جيشًا من الكتائب الإلكترونية ونظامًا ماليًا وسلطة افتراضية تدير كل ذلك.

وفى هذه الحلقات «روزاليوسف» تنشر لكم تحقيقًا عن تفاصيل وأسرار خطة للتنظيم لضمان بقاء دولتهم الدموية «افتراضيًا» رغم كل ما تعرضوا له من هزائم.

فى نحو الساعة الحادية عشرة من مساء التاسع من يونيو 2014، كان «فادى»، صبى عراقى، 16 عامًا، يتصفح حسابَه على «تويتر» متابعًا مستجدات الأمور فى مدينة «الموصل» العراقية، وهو يستمع فى الخلفية إلى قطعة موسيقية غربية تثير نغماتها توترًا غير مفهوم ما داخله.

بعد لحظات، استوقف «فادى» صورة نشرها أحد أصدقائه على «تويتر» لأجساد جنود عراقيين بلا رؤوس، وكُتب فوقها «يحدث الآن فى الموصل»، فتوقف أمام الصورة للحظات يتأملها بفزع شديد.

 

بدأ يبحث بجنون فى مواقع التواصل عن حقيقة ما يحدث فى المحافظة التى يسكنها وعائلته، فانهمر أمامه فجأة سيل من الصور ومقاطع الفيديو المخيفة، التى توثق سيطرة مقاتلى داعش على الموصل، وقطع رؤوس جنود الجيش العراقى النظامى، وغيرها من اللقطات المرعبة.

شقيق فادى، يعمل جنديّا بالجيش العراقى، قرّر الهروب من مكان خدمته بساحة المعركة بالموصل، بعدما استقبل بدوره رسائل من أخيه تحذره من مصير أسود ينتظره، ومرفق معها صور ومقاطع فيديو صادمة لما فعله داعش بزملائه من الجنود.

بعد ساعات قليلة، انتشر فيديو على الإنترنت يوثق هروب آليات وأفراد الجيش العراقى، باتجاه الأقاليم الشمالية، مع أنباء عن احتلال داعش للموصل. 

وأظهر الفيديو جنديّا عراقيّا يصرخ: «لا أعرف ماذا يجرى فى الموصل. لا يوجد جندى عراقى هناك، وعليك أن تصدقنى لأننى واحد منهم».

 (1) لحظة التأسيس

فى 10 يونيو 2014 سقطت مدينة الموصل، عاصمة محافظة نينوى العراقية، بالكامل فى أيدى مقاتلى تنظيم الدولة، بعد معركة الأيام الستة التى هُزم فيها قوات الجيش العراقى النظامى، المدجج بأسلحة متطورة، والمتفوّق فى أعداد المقاتلين، بنسبة 15 إلى 1، نحو 30 ألف جندى نظامى، مقابل 2000 مقاتل من داعش وحلفائه.

حرب الموصل صُنّفت كأهم معركة خاضها تنظيم داعش على الأرض، ليس فقط بسبب الانتصار الكاسح؛ لكن لأنها حققت له شهرة عالمية وتأثيرًا دوليًّا غير محدود.

بعد الانتصار الأهم بساعات، سيطر التنظيم على فروع البنك المركزى فى الموصل، بالإضافة إلى غنيمة ثقيلة من المدافع والدبابات والمدرعات والمنصات القتالية والطائرات والصواريخ.

المفاجأة التى كشفتها التحقيقات، داخل العراق وخارجها، حول أسباب سقوط الموصل، أن الإنترنت ومواقع التواصل كانتا أبرز وأهم أسباب السقوط التاريخى للمدينة فى أيدى قوات التنظيم.

 كيف ذلك؟

رصدت التحقيقات أن الخلايا الإعلامية لداعش على الإنترنت كانت تعمل على مواقع التواصل بنشاط استثنائى على مدار الساعة، قبل بدء المعركة وخلالها.

وعبر موقع تويتر، المنصة الإعلامية الأولى للتنظيم، نشرت الخلايا، على نطاق واسع، صورًا همجية لمقاتلى داعش وهم يمارسون قدرًا كبيرًا من التوحش ضد كل من يواجههم أو يقف فى طريقهم.

انتشرت الصور والفيديوهات عالميّا فى لحظات كالنار فى الهشيم، ووصلت إلى حسابات 2 مليون عراقى بالموصل، بعدما سرقت الخلايا المنظمة وسوم «هاشتاجات» تويتر الأكثر انتشارًا فى العالم، ونشرت عن طريقها مئات الصور والفيديوهات الوحشية.

ساهمت الحملة الدعائية الهمجية فى صناعة مناخ من الذّعر والخوف تأثر به سكان الموصل، والجيش العراقى نفسه، المكلف بالدفاع عن المدينة، لتنشغل عناصره عن أداء دورها بالتفكير فى الفظائع التى قد تلحق بهم إذا قاوموا مقاتلى داعش، فتفككوا وهربوا من الميدان خوفًا من الهجوم الداعشى التتارى. 

فى غضون ساعات كان تنظيم داعش يقف وحيدًا أمام المرمَى وكرة النار بين أقدامه ليسدد ويسجل بأريحية هدفًا تاريخيًّا، بالسيطرة على مساحة شاسعة من الأراضى داخل العراق، تبلغ نحو 180 كيلومترًا مربعًا.

نتائج معركة الموصل فاجأت قادة تنظيم داعش أنفسهم، فهم لم يتوقعوا هذا الاكتساح بأقل خسائر، وخَلقت لديهم قناعة راسخة بأن الإنترنت أثناء الحرب، لا يقل أهمية عن الأسلحة المتطورة، وأن وسائط التواصل الاجتماعى يمكن أن تتحول إلى نافذة إعلامية خطيرة ومضاعفة للقوة والمكاسب ومسرعة للحدث، تخترق العدو وتهزمه نفسيّا، وتساعد التنظيم فى فرض هيبته وتأثيره، وتكسبه المزيد من المؤيدين والأنصار.

فى هذه اللحظة على ما يبدو، جاءت فكرة تأسيس خلافة رقمية موازية، تحتل شبكة الإنترنت، وتطوّعها لخدمة أهداف التنظيم، وتحقق له المزيدَ من النجاحات بعد سقوط الموصل.

فيليب سمايث، الباحث المتخصص فى الجماعات الجهادية فى جامعة ميريلاند الأمريكية، يتفق معنا فيما ذهبنا إليه، قائلًأ إنه لاحظ ارتفاعًا ملحوظًا فى تواجُد التنظيم على الإنترنت، وزيادة كبيرة فى أنشطته الإعلامية على وسائل التواصل فى شهرَى يونيو ويوليو 2014، أى بَعد إحكام سيطرته على الرّقة ودير الزور فى سوريا، واستيلائه على مدينة الموصل أكبر المدن العراقية.

 (2) أرض الخلافة الموازية

تعامَل تنظيم «داعش» مع شبكة الإنترنت منذ الوهلة الأولى باعتبارها أرضَ فضاء تصلح لاحتضان خلافة رقمية غير خاضعة للرقابة، تساعده فى تثبيت خلافته الأرضية.

واستغل التنظيم البيئة الاجتماعية والسياسية، وهوس الشباب بالتكنولوچيا؛ ليستخدم شبكة الإنترنت فى تحقيق العديد من أهدافه، أبرزها جذب انتباه أنصاره، وتجنيد أتباع جُدُد، ونشر أفكاره وتسويق نفسه، وبناء الصورة الذاتية للتنظيم على نحو يدعم خطابه، وردع خصومه، وجمع الأموال. 

اعتمد «داعش»، بَعد السيطرة على الموصل، على مبدأ «مضاعفة القوة»، خلال تواجده على شبكة الإنترنت؛ ليبدو أكثرَ قوةً مما هو عليه، داعمًا ذلك بحيل رقمية مبتكرة؛ للتأثير على رُواد الإنترنت، ورسم صورة متضخمة جدّا للتنظيم، توهم المتابعين بقدرات خارقة على الأرض.

بدأت خطته لتطويق شبكة الإنترنت بدراسة جمهوره المستهدَف بعناية، والتعرف على مستوى التأييد المحتمل؛ لجمع أكبر عدد ممكن من الأنصار والمحبين على الشبكة؛ ليساعدوه فى تحقيق أهدافه التنظيمية أولًا، والإيحاء للعالم بأنه يحظى بتأييد عالمى ثانيًا.

وتمخضت هذه الدراسة عن حملة دعائية ضخمة نهاية 2014 تحت عنوان «فى عُقر دارهم»، هدفُها جذب الأنصار والمؤيدين حول العالم، ودعوتهم لمناصرة التنظيم كلٌ حسب قدرته، ومنحهم عضوية التنظيم الشرفية بعد إعلان البيعة «عن بُعد» للبغدادى.

 حققت الحملة نجاحًا مذهلًا، والسبب الرئيس لنجاحها هو كسر داعش للمبدأ التقليدى الذى يقصر عضوية التنظيم على مَن هم على أرض الخلافة، فأسقط مسألة الهجرة لأرض الخلافة كشرط أساسى للعضوية، وفتحها للمؤيدين له عن بُعد، وترك لهم حرية الجهاد بطريقتهم، ومن أماكنهم، ووفق إمكانياتهم، وسمح لهم بإعلان البيعة- وهى شرط أساسى للانضمام للتنظيم- إلكترونيّا، أو قبولها فى السّر إذا اقتضى الأمر.

وبفضل هذه المرونة، نجح داعش فى تجنيد مئات الآلاف من الأنصار والمحبين فى أسابيع، ثم فتح لهم أبوابَ العمل لنصرة الخلافة على مصراعيها عبر شبكة الإنترنت، واستدعى لهم فتوَى قاعدية تؤكد أن الجهاد الإلكترونى فرض كفاية. وترك لهم حرية اختيار الوظائف المناسبة لهم، كلٌ حسب قدرته، فيمكن لأحدهم أن يكتفى بالتأييد الصامت ومشاركة الأخبار والصور وهذا أقل الإيمان، ويمكن لآخر العمل فى وظيفة إعلامى ضمن الكتائب الإعلامية، ويمكن لثالث من محترفى التكنولوچيا والاختراق، الانضمام للجيش الإلكترونى، وهكذا حتى نصل إلى «الذئب المنفرد»، أعلى درجة فى سُلّم الجهاد عن بُعد، والذى يتشبع بأفكار وأهداف التنظيم، فينفّذ هجومًا مسلحًا فى الغرب ضد مَلهى ليلى، أو يدهس الناس بشاحنة فى الأعياد.

بَعد السيطرة على عقول مئات الآلاف من الأنصار والمحبين حول العالم، بدأ التنظيمُ استغلالهم لإغراق الشبكة  بالدعاية والمحتوَى المكتوب والمصور،  والفيديوهات المنفذة على الطريقة الهوليوودية، والمليئة بالخدع البصرية والإبهار. وأثمر هذا التأييد الإلكترونى عن شهرة وتأثير عالمى أكبر للتنظيم، فنجح فى الوصول لمئات الملايين حول العالم، وبشكل يوحى بسيطرة كاملة على الشبكة، وجنى من ورائه ملايين الدولارات من التبرعات، بجانب اكتساب المزيد من المؤيدين بالفعل على أرض الواقع لإحكام السيطرة على الأراضى المحتلة، أو لتنفيذ عمليات فردية فى الغرب.

تشارلى وينتر، الباحث البريطانى فى شئون الإرهاب، يقول عن سطوة داعش وانتشاره وقدرته على استخدام الإنترنت بأفضل السُّبُل الممكنة: «لديهم آلة إعلام ضخمة ذات بنية تحتية قوية ومتماسكة، تستطيع الانتشار والتوجيه فى دول عدة على مدار اليوم، وتتميز بقدرات فائقة فى التعامل مع خبايا شبكة الإنترنت، وتجيد عمليات الاختراق والدعاية على الشبكة العنكبوتية». 

ويضيف وينتر: «يصدرون يوميّا آلاف الدعاية والمنتجات الإعلامية الفريدة بلغات مختلفة، كمقاطع الفيديو، والمجلات، والكتيبات، والنشرات الإذاعية، وذلك عبر آليات تواكب تدفق المعلومات وتحافظ دائمًا على الجانب الدعائى وتنمّى العلاقة بين شعار التنظيم ومؤيديه.

 (3) احتلال تويتر وأخواته

لدى داعش شبكة مترابطة من العناصر المحترفة فى العمل على مواقع التواصل الاجتماعى، وغالبًا ما يقوم بإعادة تشكيلها وتنظيمها من حين لآخر.

تتحوّل مجموعات اتصال داعش من النماذج الهرمية إلى وحدات أكثر تفرقًا وأصغر حجمًا، يمكن نشرها بسرعة فى حال تقلصت صفحاتها على الوسائط الاجتماعية، ومن ثم إعادة الانتشار بكثافة مرّة أخرى وفى وقت قليل.

بنهاية 2014، وصلت حسابات التنظيم على فيسبوك إلى 10 آلاف حساب، فضلًا عن 5 آلاف حساب على تويتر.

عناصر التنظيم الفاعلة والمحترفة على شبكة الإنترنت على دراية كاملة بشروط وسياسات منصات وسائل التواصل الاجتماعى، ويدرسونها فى دورات تدريبية يوفرها التنظيم على شبكة الإنترنت تحت عنوان «مجاهد أنت أيها الإعلامى»، التى حصلنا على المادة الخاصة بها بالكامل من داخل أحد مواقع الإنترنت المظلم، وتتضمن تعليمات وإجراءات للتعامل مع المنصات الاجتماعية بالشكل المناسب لتحقيق أهداف التنظيم.

فى وثيقة من ثلاث صفحات ضمن المواد التدريبية للدورة، يشرح التنظيم لأنصاره شروط وسياسات منصات وسائل التواصل الاجتماعى وتحديدًا تويتر، وطرُق التعامل معها، وفتح ثغرات بها؛ للتغلب على عمليات الغلق والحجب التى تمارسها الشركات الأم المالكة لمواقع التواصل ضد المحتوى المخالف والمحرّض على العنف.

فى مقدمة الوثيقة يسرد كاتبها الوصايا السبع للمتدربين: «لا تستخدم اسمك الحقيقى واستبدله بـ الكنى والأسماء المستعارة، لا تتحدث مع أحد لا تثق به، ومن تثق بهم قد يكونوا مراقبين، فاحذر، لا تكتب عنوان أو رقم هاتف أو أى تفاصيل عنك، استخدم vpn لإخفاء هويتك، انشر محتوانا بدأب لتشكل وعى الجمهور وتوضح حقيقة الدولة وترد على من يشوه صورتها، أنشئ عشرات أو آلاف الحسابات إن استطعت لنضمن السيطرة على الشبكة ونعوّض الحسابات المحذوفة، أخيرًا تذَكّر: مواقع التواصل للإعلام فقط وليست للتواصل».

ثم تسرد الوثيقة للإعلاميين الجُدد كيفية إعادة بناء التواجد على مواقع التواصل بعد حذف أو غلق حساباتهم، موصية إياهم بإعادة بناء شبكة الحسابات كل فترة قصيرة، وعقب كل هجمة منظمة من الشركات المالكة للمنصات ضد الحسابات، وذلك بعدّة طرُق: إرسال دعوات للمتابعين بمعلومات عن أسماء الحسابات الاحتياطية، وتوفير روابط لمواقع أخرى خارجية بعضها على الإنترنت المظلم- وهو ما يُعرَف بمواقع الطرَف الثالث- تضم محتوى يصعب إزالته وتقود إلى صفحات أكثر تطرفًا. كما تقترح على المتدرب عدة خطوات لمواجهة مشكلة إزالة المحتوى، أولها أن يرصد التعليقات المؤيدة التى تركت على صفحات الوسائط الاجتماعية، ثم يوجّه أصحابها لمواقع أخرى أو روابط لمواقع طرف ثالث، أو يتواصل معهم مباشرة إن استدعى الأمر.

تفرد الوثيقة مساحة صفحة كاملة لشرح الاستخدام الأمثل لخاصية «الوسوم أو الهاشتاج» وقدرتها على توفير انتشار واسع لمحتوى التنظيم، وتلفت نظرهم لضرورة بث الفيديوهات والصور يوميًّا مصحوبة بالوسوم؛ ليتم مشاركتها وانتشارها عالميًّا.

ثم توصيهم باستخدام حيلة رقمية ذكية لمواجهة حملات حذف المحتوى والتغريدات تحديدًا فى أعقاب الهجمات الإرهابية، هذه الحيلة تعتمد على سرقة الوسوم التى يصنعها المستخدمون العاديون بَعد أى هجمة إرهابية بهدف نشر أخبار الحادث وأعداد الضحايا، كما حدث بعد حادث فلوريدا الإرهابى، عندما دشن نشطاء وَسْمًا لـ نشر أخبار الحادث، فدخل عناصر داعش على الخط واختطفوا الوسم ونشروا ما يريدونه من معلومات وصور لإثارة الفزع.

 (4) اختطاف يوتيوب

فى 2014 رصدت شركة السيارات اليابانية الشهيرة «تويوتا» عرضَ إعلانها المدفوع لموقع يوتيوب، على أحد فيديوهات تنظيم داعش، فقامت بإبلاغ شركة يوتيوب على الفور، لتبدأ الشركة حربًا شرسة ضد محتوى داعش على موقعها.

يمثل «يوتيوب» أداة شديدة التأثير وبالغة الأهمية للتنظيم؛ لأنها تجمع بين تقنيتَى الصوت والصورة معًا، ما يجعلها أكثر تأثيرًا على عقل المُشاهد؛ لأنها تخاطب حاستَى السمع والبصر معًا فى نفس الوقت.

اعتاد داعش على استخدام يوتيوب لتدريب أنصاره ومؤيديه عن بُعد، عبر محتوى يشرح طرُق استخدام الأسلحة وصناعة المتفجرات بالمنزل، بجانب نشر الدعاية الخاصة به للعالم بأسره، مثل خطابات قادته وجلسات المبايعة والاحتفالات، وتوثيق عملياته الإرهابية أو الانتقامية ضد أعدائه، والحياة اليومية على الأراضى التى سيطر عليها، وذلك عبر مقاطع فيديو تتراوح مدتها بين دقيقة وعشرين دقيقة بأكثر من 8 لغات حية.

نجح التنظيمُ بالتحايُل على حذف حساباته من قِبَل «يوتيوب» والتسلل مرّة أخرى للموقع، باستخدام حيل ذكية، أبرزها عمل حسابات على «يوتيوب» بأسماء مستعارة باستمرار لتعويض الحسابات المحذوفة، ونشر الفيديو الواحد فى أوقات متلاحقة ومتفاوتة زمنيًّا؛ بهدف تفادى الحذف، وإتاحته لمَن يبحث عنه على الإنترنت، بجانب تحميل مقاطع فيديو وهمية تبث صورًا ثابتة يصاحبها تعليق صوتى مع رسالة فى أسفل الفيديو توجه المستخدمين إلى روابط بديلة مكتوبة فى خانة «وصف الفيديو» تقود لمواقع داخل الإنترنت المظلم.

حيلة أخرى يستخدمها التنظيم بتصنيف فيديوهاته تحت بند «unlisted»، ثم ينتج روابط خارجية للفيديو وينشرها عبر مواقع التواصل والتطبيقات الهاتفية.. بهذه الطريقة يمنع الإبلاغ عن محتواه العنيف، ويبقى الفيديو أطول فترة ممكنة؛ حيث لا يمكن الوصول إليه عبر محركات البحث الداخلية أو الخارجية، ويصل إليه فقط مَن يملك رابطًا  خارجيّا.

الحجم الحقيقى لانتشار داعش على «يوتيوب» يصعب حصرُه، لكن يمكن أن نستعرض نموذجًا واحدًا لمقطع فيديو بثه التنظيم باللغة الإنجليزية فى 2017 ومدته 35 دقيقة، بعنوان And You Will be Superior.

بعد نشره بثوانٍ، تولت مجموعاته الإعلامية، وتضم مترجمين وإعلاميين وخبراء، إصدار عشرات الروابط للفيديو ونشرها بكثافة عبر الإنترنت. 

خلال يومَين، أنتجت المجموعات 136 رابطًا للفيديو على مختلف خدمات جوجل، وبَعد 10 أيام أصبحوا 515 رابطًا.

هذه الأرقام تنُمّ عن نشاط غير عادى لنشر فيديوهات التنظيم أولاً بأول على أوسع نطاق.

يستخدم داعش «يوتيوب» أيضًا فى عمليات تجنيد الذئاب المنفردة عن بُعد، وتوجيه الرسائل لهم، وإعدادهم وتدريبهم وتوثيق عملياتهم والاحتفاء بها.

الأمريكى سيف الله حبيبُ سايبوف، الذى قَتَل 8 دهسًا بشاحنته فى منهاتن 2017، كان أحد أشهَر الذئاب المنفردة الذى استلهم الهجوم من فيديوهات لداعش على يوتيوب، وفق ما قاله فى اعترافاته.

  (5) عاصمة الخلافة

يمثل الإنترنت المظلم والعميق تحديًا صعبًا لأجهزة مكافحة الجريمة والإرهاب فى العالم؛ حيث يصعب تعقب مستخدميه لأسباب تقنية معقدة، ما ساعد على تزايُد النشاطات المحظورة داخل الشبكة العميقة، وهو ما استغله داعش جيدًا.

بدأت علاقة التنظيم بالإنترنت المظلم عقب الحرب الشرسة التى شنتها ضده الشركات المالكة لمواقع التواصل على الإنترنت السطحى فى 2015.

وقتها ظهرت منشورات تحث أنصار داعش ومؤيديه على الهجرة إلى ظلام الإنترنت هربًا من الملاحقة.

وفى نوفمبر من العام نفسه، أعلن التنظيم إطلاق موقعه الرسمى على شبكة الإنترنت المظلم. 

يستخدم تنظيم داعش الشبكة العميقة للتواصل بأريحية ودون رقابة مع أعضائه فى الدول المختلفة، وإطلاق التعليمات والتوجيهات والرسائل للعناصر والمؤيدين، وإرسال الخرائط والوثائق والصور والمعلومات لهم، وإدارة العمليات الإرهابية بالكامل عن بُعد، وأيضًا إطلاق التحذيرات والمقترحات والتطورات، وإدارة عمليات تبادُل الأموال وتلقى التبرعات بالعملات المشفرة.

عمليات التواصل عن بُعد من خلال القاع يديرها قسم خاص يتبع التنظيم، يستخدم الويب العميق باحترافية تحميه من الملاحَقة والاختراق، ومسئول عن التواصل وتأمين تبادُل المعلومات والتمويل، ونشر المحتوى على أوسع نطاق، بجانب دوره المهم فى أرشفة المحتوى المكتوب والمرئى والصوتى أيضًا الذى صدر عن التنظيم وخلاياه منذ أن بدأت علاقته بالإنترنت حتى الآن.

وفق معهد الحوار الاستراتيچى (ISD)، لدى داعش مكتبة رقمية على الشبكة العميقة تحتوى على أكثر من 90 ألف عنصر ويزورها 10 آلاف شخص شهريّا، تساهم فى تجديد المحتوى المتطرف باستمرار على الشبكة، ويصعب إزالتها أو حجبها؛ لأن البيانات لا يتم تخزينها فى مكان واحد.

يستخدم داعش الويب العميق أيضًا لتجنيد الذئاب المنفردة فى أوروبا وأمريكا، وإمداد عناصره وذئابه حول العالم بما يحتاجونه من أدوات وخدمات لتنفيذ عملياتهم بنجاح، مثل شراء جوازات السفر المزورة، والخرائط الحديثة، وتأجير المنازل الآمنة والشاحنات، وشراء الأسلحة الممنوع تداولها، وذلك عبر متاجر إلكترونية على الشبكة العميقة تتعهد بتوصيل الممنوعات للمنازل. 

المحققون فى هجوم بروكسل الإرهابى مارس 2016، اكتشفوا أن قنابل C4 اليدوية، ومتفجرات سيمتكس، المستخدمة فى الهجوم، اشتراها داعش من الإنترنت المظلم.

 (6) بيت الذئاب

«أنا على.. مصرى يعيش فى بلجيكا.. أريد التواصُل مع الدولة الإسلامية للضرورة»

أحدهم ترك هذه الرسالة على موقع تدوين عميق يتبع داعش ويحمل اسم «الدولة الإسلامية»، وبَعد ساعات قليلة وصله الرد من أحد عناصر التنظيم. 

كنا هناك، رصدنا ما حدث بدقة وقتها، ونرويه بـ التفاصيل فى الحلقة المقبلة.