مبانى «المنشية» تكتب تاريخ المدينة: مدينة أوروبية فى قلب الإسكندرية!
نسرين عبد الرحيم
تأخذك شوارع الإسكندرية فى رحلة عبر الزمن؛ خصوصًا عندما تصل إلى قلب المدينة الساحرة محطة الرمل والمنشية «وسط المدينة»، تنتشر الأبنية القديمة على الطراز اليونانى والإيطالى.
هنا- فى الشتاء خاصة- ستنتقل إلى زمان قديم مُفعَم بالأصالة لا يضاهيه فى الجمال إلا ما سبقه من عصور.. تتميز هذه الشوارع بالطابع الأوروبى الذى لا يزال محتفظا ببعض رونقه إلى اليوم، ليس فقط فى الأبنية ولكن كذلك فى المحال التجارية التى لا تزال تحتفظ بجمالها القديم.
وفى المنشية تتعرّف على الملامح الأصلية والقديمة لمدينة الإسكندرية، تلك المنطقة المطلة على البحر والتى تقع بين منطقة محطة الرمل ومنطقة بحرى، ويوجد بها النصب التذكارى للجندى المجهول.
تاريخ قديم
للمنشية تاريخ قديم يحظى بكَمّ غزير من المعلومات؛ حيث كشفت دكتورة «شهد زكى البياع»، مدير تطوير المواقع الأثرية بوادى النطرون، من خلال رسالة بحثية حول تاريخ المنشية، أن «إبراهيم باشا بن محمد على» هو مَن وضع أساس منطقة المنشية، ليتم إنشاء الميدان الشهير بعد ذلك.
والواقع أن هذا الميدان الرئيسى بالإسكندرية كان بلا شَك ميدان القناصل الذى عُرف بعد ذلك بميدان «محمد على» ثم ميدان المنشية وأخيرًا ميدان التحرير، وهى أسماء تعكس التغيرات السياسية والاقتصادية فى المجتمع المصرى بوجه عام ومجتمع الإسكندرية بوجه خاص، وإن ظل اسم ميدان المنشية هو الغالب عليه، وأرض هذا الميدان وما حوله كانت معظمها مِلْكًا لإبراهيم باشا، وكان يُعرف بميدان الجيوش، فنظم هذا الميدان وجعل طوله 420م وعرضه 65م، وأحيط بالأبنية التى تشبه البلوكات المنتظمة المستطيلة بارتفاع دورَين مصممة على الطراز الأوروبى؛ خصوصًا الإيطالى.
وهناك مَن يذكر أن طول الميدان بلغ 450م، وأن عرضه نحو 100م. وكان الميدان يحتوى فى بدايته على أعمدة من الألبستر قصيرة ومسلة صغيرة رخامية وُضعت فى منتصفه، كما كانت توجد نافورة فى إحدى نهاياته. وصمم الميدان وما يحيط به بواسطة المهندس الإيطالى «فرانسيسكو مانشيى» الذى كان مهندسًا لمجلس الأورناتو بمدينة الإسكندرية، والذى أعد خريطة لهذا المشروع واعتمدها المجلس سنة (1250هـ 1834م».
اعتبر هذا الميدان بمثابة قلب المدينة وأحاطت به دور السفراء وقناصل الدول، ولذلك عُرف بميدان القناصل، وعمل «الخديو إسماعيل» على تطوير هذا الميدان الحيوى.
كما أمَرَ بعمل تمثال لجدّه «محمد على» وهو ممتطيًا صهوة جواده، فتم عمل هذا التمثال البرونزى لـ«محمد على» باشا فى باريس بواسطة النحات الفرنسى «جاكومار» سنة 1872م.
وشُيدت قاعدته من رخام كرارة ووضع تصميمه المهندس المعمارى الفرنسى «إمبرواز بوادرى» وإبان عودة «إسماعيل» من الآستانة سنة 1873م تم الاحتفال بإقامة تمثال محمد على بميدان القناصل.
وتكلف هذا التمثال 2مليون فرنك، وكانت هذه هى المَرة الأولى التى يوضع فيها تمثال فارس فى ميدان عام فى بلد مسلم، فيما يرجع الفضل للجالية الإيطالية فى إقامة تمثال بديع «للخديو إسماعيل» اعترافًا بفضله عليهم.
وأمام هذا التمثال من الجهة الغربية أنشئت دار المحكمة الكلية الأهلية، وذلك بمواجهة الميناء الشرقى بواسطة ميدان آخر عمودى عليه كان محلاً للحديقة الفرنسية، وقد وقع هذا التمثال من موضعه وأقيم فى مكانه النصب التذكارى للجندى المجهول، وهذا الميدان الرئيسى والميدان المتفرع منه بمدينة الإسكندرية الجديدة فى القرن التاسع عشر تفرّعت منهما الشوارع المستقيمة الواسعة؛ لتشكل حى المنشية، ولتمتد للأحياء الأخرى.
انقسام لمدينتين
بدأت المدينة فى الامتداد العمرانى، فى الانقسام إلى مدينتين مختلفتين تمامًا من حيث نوعية تخطيط العمائر وكذلك نوعية السكان، فالمدينة القديمة ذات طابع عمرانى ومعمارى عربى إسلامى، والحى الأوروبى الجديد- الذى بدأت نواته حول ميدان القناصل- ذو تخطيط وطابع معمارى أوروبى الشكل.
وتقول دكتورة شهد زكى البياع: «بدأ الاهتمام يَنصَبّ على هذا الحى الجديد الذى يسكنه الأغنياءُ والأجانبُ وأخذت المدينة القديمة فى التهالك لدرجة أن الكثير من الرحالة أخذوا فى نقد المدينة القديمة (التركية) والإشادة بالحى الأوروبى الجديد».
وتضيف: «نجد مثلاً السيدة «ليو شنجتون» وهى سيدة من الجالية الإيطالية زارت الإسكندرية سنة 1243هـ/1828م- تقول: إن الإسكندرية عمومًا رديئة وقذرة، والجزء الوحيد النظيف والحَسن المنظر فيها هو الجزء الكائن حول ميدان القناصل، فهذا الميدان شكّل المحور الذى نشأت حوله منطقة المنشية، وأقيمت فى وسطه نافورة رخامية، كما تم تخطيط المنطقة حول هذا الميدان، وبُنيت حوله المنازل والعمائر العالية ذات الطراز الأوروبى وبحسب تصميمات هندسية متقنة، وكانت هذه العمارات عبارة عن مبانٍ لقناصل الدول وأسواق ومكاتب للشركات ومقار للبنوك وعيادات، ويمتد هذا الميدان ليتصل بميناء الإسكندرية الشرقى بواسطة ميدان آخر عمودى عليه كان عبارة عن حديقة جميلة سُميت حديقة فرنسا، وكان ميدان «محمد على» ينتهى من الجهة الشرقية بشارع «شريف» وشارع «توفيق»، وكان شارع شريف هذا تجاريّا بالدرجة الأولى، كما احتوى على أهم مكاتب وبنوك المدينة.
طراز يونانى وفرنسى
وكان شارع «شريف» وشارع «توفيق» الموازى له ينتهيان إلى شارع فؤاد الأول «الحرية حاليّا» وعند حفر أساسات مبانى شارع شريف وجدت آثار كثيرة من العصر اليونانى ولكنها أهملت وأزيلت من دون عناية، وحرمت منها المدينة إلى الأبد. أمّا نهاية الميدان من الجهة الغربية فكان بشارع فرنسا وعلى امتداده شارع رأس التين ومن هذين الشارعين يتوصل إلى مقابر الأنفوشى وإلى سراى رأس التين وإلى جونة الأنفوشى، وهذان الشارعان يخترقان المدينة التركية وتركز الأجانب بصورة كبيرة فى هذا الحى؛ لذلك عُرف بحى الفرنجة، وترى «صوفيا بول» أنه يبدو أوروبيّا فى ظاهره لكن التناقض واضح بينه وبين المنطقة الغربية- (تقصد المدينة التركية)- بشارعه الواسع وميدانه الفسيح الجميل، وهو يقع جنوب شرق المدينة على ساحل الميناء الحديث، ولعل اختيار هذا الموقع كان لتيسير عملية إرساء البضائع، أمّا بعد فتح الميناء القديم أمام الفرنجة فلم يعد لهذا المكان ميزته السابقة.
وتولى المهندس الإيطالى «فرانسيسكو مانشيى» الإشراف على الإدارات الفنية بمعاونة بعض المسئولين، أشرف على تنظيم الشوارع وتصميم الأبنية العامة من مدارس ومستشفيات ومساجد وكنائس وغير ذلك، وجميعها بُنيت بنظم وتقاليد أوروبية. وطغت عليها الملامح الإيطالية.
وكان هذا الميدان الجديد «ميدان القناصل» محاطا بأبنية تأخذ شكل البلوكّات المستطيلة أو القوالب المنتظمة التى تتكون من دورَين ومزخرفة بزخارف أوروبية بسيطة وكذلك أشكال الشبابيك الفينيسية وتبدو متشابهة مع العمارة المتطورة التى كانت متبعة فى المدن الإيطالية مثل ميناء تريستا فى منتصف القرن الثامن عشر الميلادى، وقد حدث هذا التخطيط والبناء حول ميدان القناصل تحت إشراف «إبراهيم باشا» الذى كان يمتلك معظم هذه الأراضى والمبانى، وتظهر منطقة المنشية فى الخريطة التى أعدها مولر سنة 1271هـ / 1855م لمدينة الإسكندرية والتى يظهر فيها أن معظم الأبنية التى أقيمت بها كانت خاصة بالأجانب، فقد سجل بها ثلاث عشرة قنصلية وأعداد أخرى من الفنادق والمطاعم والمقاهى والكنائس الإفرنجية والمستشفيات الأجنبية كانت كلها مركّزة فى هذه المنطقة وحدها، ومنذ ذلك الوقت وهذه المنطقة تقوم بوظيفة قلب المدينة الذى تتركز فيه البيوت التجارية، وكان الميدان فى البداية به العديد من أعمدة الألبستر القصيرة، وفى منتصفة مسلة رخامية صغيرة، وبه أيضًا نافورة فى نهايته.
السائح الذى يزور الإسكندرية ويقيم بمنطقة المنشية لا يعتقد- أبدًا- أنه فى مصر، فهذا الميدان الجديد المحاط بالمنازل على الطراز الأوروبى والمحلات المليئة بالمصنوعات الأوروبية من ملابس قطنية إنجليزية وعطور فرنسية وغيرها بالإضافة إلى التفاصيل المعمارية والزخرفية ذات الأساليب الفرنسية واليونانية والإيطالية والإنجليزية تجعله يشعر بأنه فى بلد أوروبى، وهذا ما كان يدعو السائح أن يلتمس سحر الشرق فى مكان آخر غير المنشية.
كما احتوت المنطقة على العديد من المنشآت الدينية الخاصة بالجاليات الأجنبية، فانتشرت بها الكنائس وأشهرها كنيسة سان مارك بموضعها الفريد بالميدان، والكنيسة اليونانية، وكنيسة سانت كاترين التى تطل على ميدان المنشية الصغرى وكنيسة العذراء بشارع القائد جوهر، وكنيسة العذراء بشارع جرجس الطويل، ودير العاذرين بشارع السبع بنات، والكنيسة السويسرية بشارع البوسطة، وفى عهد «عباس الأول» تم بناء عمارة كبيرة وسُميت بالإلهامية نسبة لابنه إلهامى باشا، مكان نافورة قديمة، ثم اشترى جون أنطونيادس هذه العمارة بعد موت عباس باشا كما أنشئت البورصة فى هذا الحى الجديد، كذلك احتوى حى المنشية على مكتبة عامّة كان بها نحو ثمانية آلاف مجلد بالإضافة إلى النادى الدولى وقصر «توسيجة» الذى كان يُعقد به مجلس الأورناتو.
اهتمام الخديو إسماعيل
وقد لقى حى المنشية اهتمامًا كبيرًا من الخديو «إسماعيل» ذى التوجهات الغربية بصفة عامة، والمهتم بتخطيط وتحديث المدن على النمط الأول الجديد، فقد اهتم بإعادة تطوير وتخطيط ميدان المنشية ووضع فيه تمثالاَ لجدّه «محمد على» كما وجّه اهتمامه لإعادة هيكلة المدينة ككل وتجديد وتطوير الأحياء القديمة، وإقامة أحياء أخرى جديدة.
وقد ذكر «على باشا مبارك» منطقة المنشية فى عهد إسماعيل على أنها القسم الثانى من المدينة والذى يسكنه الإفرنج، معتبرًا بذلك مدينة الإسكندرية كلها على أنها قسمان أحدهما المدينة التركية وجزيرة الفنار ويسكنه الأهالى، والثانى المنشية وهو ما يسكنه الإفرنج، وذكر أن جميع منازله جديدة حسنة الهيئة مزخرفة، ذات واجهات جميلة، ومساكن جليلة، أدوارها السفلية تخصص للدكاكين المتسعة مشتملة على جميع أنواع البضائع الثمينة، وتلك المنازل مبنية بالأحجار والطوب المحروق والمونة القوية والأخشاب المتينة، وفى داخلها أنواع المفروشات الإفرنجية، وحجراتها مزينة بأنواع الزينة.
خسائر كبيرة
ولكن مع الأسف؛ فإن منطقة المنشية أصيبت بخسائر فادحة إثر ضرب الأسطول البريطانى لمدينة الإسكندرية 1299هـ/1882م؛ حيث تهدَّم هذا الحى الأوروبى تمامًا من جراء هذا القصف، والأعمال التخريبية التى تلته، وبالتالى غطى الدمار والخراب مساحة تقدر بنحو 100٫000متر مربع من المساحة المبنية.
وتهدمت معظم الأبنية المقامة فى تلك المنطقة وحول ميدان محمد على ولم يتبقَّ من المبانى الإ قليل مثل مبنى البورصة، وكنيسة سان مارك والبنك العثمانى، ونظرًا لأهمية المدينة الاقتصادية؛ فإن الحكومة المصرية حرصت على إعادة البناء والتعمير، ومن ثم قدمت التعويضات والمساعدات إلى أصحاب العمائر المتضررين من القصف، وزادت حركة الإعمار نتيجة الازدهار الاقتصادى والتجارى.
فيما نشطت حركة البناء نتيجة نشاط الجاليات الأجنبية، ولم يقتصر هذا النشاط على المنشآت السكنية الأهلية والخاصة وإنما تجاوزت إلى المبانى العامة كالمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس التى سيطر فيها المهندسون الأجانب خاصة الإيطاليين منهم على مهن العمارة والبناء والمقاولات، وتميزت فيها الطرُز المعمارية التى سادت بأنها إحياء لطرُز تاريخية واختلطت لتعبر عن التعددية فى هوية المجتمع.