الإثنين 28 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. «نستولوچيا» القهوة

كدهوّن!.. «نستولوچيا» القهوة

جلستُ بمفردى فى شرفة المنزل زاهدًا فيما سيأتى ناسيًا ما قد مضى فى محاولة جادة منّى لصنع فنجان من القهوة المظبوطة على نار السبرتاية الذهبية بتاعة جدتى بمزاج وروقان أفلام زمان الأبيض والأسود؛ حيث ترسبت بداخلى مَشاهد رائعة للسّت فردوس محمد والسّت مارى منيب وهما جالستين على الكنبة بمنتهى الأريحية يصنعان قهوتهما باحتراف ومهارة لا تعوق اندماجهما بالتمثيل (هكذا كنت أعتقد دائمًا أنهم يصنعون قهوة حقيقية لمزاجهم الشخصى وليست مجرد إكسسوارات لزوم التصوير)..



 

بالعكس كان ذلك المَشهد دائمًا ما بيضفى شىء من المصداقية للأحداث وكأننا نراقبهم أثناء ممارستهم حياتهم الشخصية وليس مجرد أداء تمثيلى فى عمل فنّى وكِدَهُوَّن..سيطرت علىّ نستولوچيا السبرتاية وظلت تلك الرغبة ترقص بداخلى وتلح وتزن باستمرار لكى أجرّب متعة صُنع قهوة السبرتاية المغلية على نار هادية لما لها من سحر وحنين للماضى الجميل، فهى بالتأكيد قهوة ليست كالقهوة الجاهزة التى نتجرعها اليوم على استعجال بدون أى مزاج أو متعة وكِدَهُوَّن.. وكأنى رجعت بآلة الزمن للخلف لزمن الجدات الساحرات؛ حيث المذاق الخاص والاستمتاع بكل مفردات الحياة وبهجتها وليست «تيك واى» كما يحدث الآن؛ حيث فقدنا متعة تذوُّق الأشياء البسيطة وسط زحمة الاختراعات الحديثة وتطوّر وتكنولوجيا الاتصالات وظهور مكن الإكسبرسو والكابيتشنو فى محاولة فجة لإزاحة القهوة من على عرشها فى قلوب عشاق التميز والتذوق وكِدَهُوَّن.. وانتظرت حتى ذهبت زوجتى فى النوم حتى يكمل المزاج وأصنع قهوتى بهدوء بعيدًا عن سخريتها من رغبتى الدفينة هذه وكِدَهُوَّن.

التزمتُ تمامًا بكل خطوات صنع القهوة المظبوط على نار هادية من على صفحة الست أم نوال على «اليوتيوب» بعد أن غسلت السبرتاية جيدًا بالجاز (للتخلص من آثار الركنة) وملأتها بالسبرتو الأبيض حتى تتوهج وتشتغل واشتريت بُنّ محوّج مخصوص من أحد محلات البُن الشهيرة ولم أهتم بارتفاع أسعارها حتى أضمن تميز قهوتى صُنع فى أول تجاربى الحياتية للعودة للاستمتاع بطعم الأشياء، إلا أن متعتى هذه ما لبثت أن تحوّلت لصدمة واندهاش عميق بما صنعته بيدى الآثمة من جريمة فى حق القهوة وفى حق النستولوچيا ذات نفسها، فهذا المحلول ليس له علاقة بالقهوة التى فى خاطرى وفى دمى لا من بعيد ولا قريب فهى (حاجة صيصة) وبدون وش أو طعم، وللأمانة هى أقرب لمبيد حشرى يصلح كطارد الناموس والذباب؛ خاصة أن له طعم غامض ممزوج برائحة الجاز والسبرتو الذى مُلئت به السبرتاية فقررت مع الأسف والألم والإحساس المهين بالفشل أن أتخلص من آثار الجريمة بمنتهى الحرص والسرعة حتى لا تشعر زوجتى العزيزة بفشل تجربتى الوليدة وتظل تتندر بهزيمتى هذه مع كل خناقة زوجية أو اختلاف فى وجهات النظر؛ خاصة أنها للأمانة رفضت من البداية فكرة وجود سبرتاية فى البيت واتهمتنى (بأنى راجل بحب الكركبة ومش هاستخدمها) ولكنى صممت على أن أحقق أحلام طفولتى السينمائية وأن أخوض تجربة صُنع القهوة على السبرتاية على طريقة الست فردوس محمد مستغلًا حالة الفراغ والمَلل الذى أعانى منه بسبب العَزل المنزلى الذى فرضته على جميع أفراد الأسرة فى ظل انطلاق الكورونا اللعينة بمنتهى الجبروت فى الشوارع والحارات القديمة والجديدة مستغلة حب المصريين للمَّة والقعدة الحلوة حتى لو كانت هذه هى قعدتهم الأخيرة على القهوة؛ حيث الصحبة والشيشة وكِدَهُوَّن.

قبل أن أتمكن من التخلص من محلول القهوة المحلى بالجاز والسّبرتو دخلت مراتى فجأة الشرفة بصنية قهوة رائعة وكوب من الماء المثلج ورائحة البُن المحوّج نفاذة (المفحفحة) تملأ الجو وتنتشر وتتوغل وتصل إلى خياشيمى مباشرة، وقبل أن أتهوّر وأعتذر لها عن تصرفاتى الهوجاء وحبى الكراكيب على حد قولها وأشكر لها حُسن تدبيرها وكرم أخلاقها الذى جعلها تستيقظ من نومها لتصنع لى أحلى فنجان قهوة مصحوب بكوب ماء مشبَّر وكِدَهُوَّن.. جلست أمامى مباشرة والشماتة فى عينيها تتأمل فنجانى المهزوم ثم رفعت فنجانها باستمتاع رهيب ترتشف أول رشفة بمفردها (ماعملتش لى قهوة) بمنتهى الهدوء ثم ابتسمت ابتسامتهاالبلاستيكية الشهيرة وقالت: أنا قلت أعمل لى أنا كمان فنجان قهوة بس طبعًا على البوتاجاز، أنا أصْلى ماليش فى النستولوخيا بتاعتك دى أبدًا واهو اللى نعرفه أحسن من اللى مانعرفوش (تقصد تتريق على السّبرتاية بتاعتى)، قلت آجى أشربها معاك فى البلكونة، بقالنا كتير ما قعدناش مع بعض.. ثم أخذت رشفة ثانية من فنجانها ذى الرائحة الرائعة بينما أنا أتجرّع قهوتى الممزوجة بالسّبرتو فى صمت مؤلم حتى لا تشعر بمعاناتى مع قهوة أم نوال اللعينة وكِدَهُوَّن.. ثم فاجأتنى بقولها: هى إيه الريحة الجاز دى؟ فتحاشيت النظر إلى عينيها حتى لا ترى دموعى الحبيسة وأنا أتجرّع رشفة أخرى من محلول القهوة، وقلت لها: تقريبًا الجيران بيرشّوا جاز فى بيوتهم علشان يتخلصوا من الحشرات. فقالت لى: ناس غريبة أوى مش خايفين على صحة ولادهم من ريحة الجاز دى! ثم تذكرت صحة أولادها هى فقالت لى فى مرح مفتعل: ما تنساش بعد ما تخلص قهوتك الغريبة دى وقبل ما تقوم تبقى تلم النوستالچيا بتاعتك دى (تقصد السّبرتاية والسبرتو والجاز والكبريت) وتخبيها فى مكان بعيد عن إيد البنات مش ناقصة يولعوا فى البيت كله بسبب شوية كراكيب قديمة مالهاش أى لازمة خالص وكِدَهُوَّن.

كان كل تفكيرى فى هذه اللحظات الحرجة هو كيف أتخلص من محلول القهوة دون أن تشعر زوجتى، اللهم اجعلها تصمت عن الكلام المباح وغير المباح، فقلت لها أنت اختفيتى خالص من على الفيسبوك ومش بتكتبى أى تعليقات على صفحتى ولا حتى بتردى على تعليقات الأصدقاء كعادتك لما تعليق منهم يضايقك وكِدَهُوَّن.. أنا بقالى مدة بدوّر عليكى مش بشوفك!.. فأخذتْ نَفَس عميق وقالت لى بتعالى شديد: ما تتصورش ياحبيبى أعصابى ارتاحت أد إيه بعد ما عملت لك بلوك على الفيسبوك ما هو مش معقول تقعد أنت تتسلى وتنشر كل تفاصيل حياتنا كده وألاقى تعليقات مالهاش أى لازمة من البعيد والقريب وتريقة على اللى بيحصل لى معاك أنت وبناتك كل يوم كِدَهُوَّن.. قلت لها والسّبرتو يشعل حلقى: هو اللى حصل يعنى علشان يزعلك كده أنى بحكى للأصدقاء بعض المواقف البسيطة فى حياتنا اليومية للاستفادة من التبادل الآراء والخبرات ده حاجة لطيفة جدّا على السوشيال ميديا! ثم تعمدت إلقاء قهوتى على الأرض وكأنه حادث قضاء وقدر حتى أتخلص منها بلباقة وتجرأت وأخذت منها فنجان القهوة الخاص بها لأرتشفه باستمتاع رهيب ولتذهب سبرتاية أم نوال إلى الجحيم. وهنا انفجرت زوجتى فى غضب صائحة: أنا مابحبش حد يشرب قهوتى لأنى كده مش هاعرف أقرا الفنجان بتاعى لأنك لخبطت حظى مع حظك وقليت مزاجى وهاقوم دلوقتى أعمل فنجان قهوة تانى بدل اللى أنت لخبطه وكِدَهُوَّن.

جلست فى هدوء بعد انصرافها الصاخب أستمتع بمذاق قهوتها الرائعة وأنظر إلى سبرتاية جدتى الذهبية وأفكر كيف أحولها إلى أباجورة أضعها فى مكتبى وأستمتع بريحة الحبايب وذكريات الزمن الجميل وأنا أشرب قهوة من صُنع زوجتى العزيزة.