السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

أفكار منحرفة (2) اقتحام لأفكار كُتّاب خرجت عن التقليدى والمعتاد اعترافات صلاح فضل العارية

إذا أردت أن تعرف الكاتب والباحث والناقد الكبير الدكتور صلاح فضل جيدًا، فلا تكتف بقراءة كتبه، أو تصفح مقالاته، أو تأمل نتائج دراساته. هذا رجل لن تدلك أبحاثه عليه، فخلف الكلمات الجادة الرصينة الوقورة العميقة وجه عندما يبتسم صاحبه تشعر به وكأنه امتلك الأرض ومن عليها. لن تقودك كلماته إليه، فبين سطور دراساته الأكاديمية التى يعتبرها القارئ العابر جافة ومرهقة ستجد شخصية مصرية مرحة، ولابد أن تتعرف عليه عبر فك شفرته بعيدًا عن هذه الدراسات والأبحاث.



وحتى عندما تجلس إليه لن يبسط يديه لك لمجرد أنه صافحك.

لن يتباسط معك لمجرد اللقاء.

فلابد أن يستمع منك، وبعد أن يطمئن لك، ستجد فيضًا من الحديث العذب الممتع، الذى يمزج فيه بين الأفكار المدهشة ووقائع التاريخ الحى التى لن تجدها عند سواه.

لن تندهش لحيوية الدكتور صلاح رغم سنوات عمره –يحمل على كتفيه ثلاثة وثمانين عامًا– فالمولود فى 21 مارس يجمع فى عقله كل صفات فصل الربيع.

كما يقول الكتاب: فى الربيع تتفتح الزهور وتزداد الألوان وتزدهر الأشجار بعد أن تساقطت أوراقها، وتصبح السماء صافية بعد الغيوم والرياح والأمطار، ويكون الطقس معتدلاً ومناسبًا لممارسة الأنشطة والتنزه والسفر.

لكن من قال إن كل ما يقوله الكتّاب يمكن أن يكون صحيحًا.

يرتبط الربيع فى أذهاننا بطقس متقلب، رياح الخماسين تسيطر، وتتعانق الزهور بالغبار الذى يطارد المحبين على شاطئ النيل، ويتأرجح المزاج بين الرضا والسخط.

لا يناسب الربيع الذى ولد صلاح فضل فى أول أيامه.

تتناسب معه –هذا لمن يعرفه جيدًا وعن قرب– شمس النهار الواضحة التى لا يمكن أن يخفى معها أو عليها شيئًا.

عندما كنت أتحدث معه تليفونيًا، وأخبرنى عن كتابه «صدى الذاكرة» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، والذى جاء فيه على بعض من أيامه، جهزت نفسى لقنبلة جديدة، تأخذ من روحه الوثابة طريقًا خاصًا فى كتابة شطر من سيرته الذاتية.. وعندما قرأت ما كتبت، كسبت رهانى عليه.

لا ينسى صلاح فضل أنه ناقد ومنظر كبير حتى وهو يتحدث عن حياته الخاصة.

يضع لكل حدث سياقًا، ولكل فكرة إطارًا، ولكل شخص قالبه الذى يناسبه، لا يتركك على راحتك بسهولة، ما يغيظك أنه يفعل ذلك كله بنعومة شديدة، فتخرج من كتابه دون أن تمسك عليه بشىء.

ثراء حياة الناقد الكبير صلاح فضل تجعلك تلهث خلف تفاصيلها المتناثرة فى فصول كتابه، لكن ليس لحياته ولا عن حياته أكتب. 

حدثتكم منذ قليل عن القنبلة التى وضعها فضل فى «صدى الذاكرة».

ما رأيكم أن نقترب منها بهدوء شديد، على الأقل حتى لا تنفجر فى وجوهنا، رغم أننى أعرف أنها لابد أن تنفجر وبعنف.

لم يكذب صلاح فضل ولم يتجمل فى سرد ما قرر أن يفصح عنه من سيرته.

وقد تسألنى: وهل من الطبيعى أو من المفروض أن يكذب أو يتجمل من يكتب سيرته الذاتية؟

سأقول لك: فى بلادنا من يكتبون سيرتهم الذاتية، أو حتى من يكتفون بالسير على أطرافها فى كتبهم لا يفعلون إلا الكذب، ولو لم يكذبوا فلن يترددوا فى أن يتجملوا.

استمع إلى صلاح وهو يقول مثلاً : أحاول الآن أن أنبش قليلاً فى أصداء ذكرياتى لأستخرج منها بعض الشذرات المتصلة بالحب المألوف بين الرجل والمرأة على وجه التحديد، بما فيه من طاقة عاطفية جارفة ونزعة حسية مقدورة، وغريزة جنسية ماكرة لحفظ البقاء، وفوق ذلك بما فيه من تجليات صنعتها أساطير الشعراء وأخيلة الكتّاب وسكبوها فى قلوب المفتونين بالأدب وعشاق الجمال بما جعل أوتارهم وأفئدتهم أرق وأرهف من فؤاد أم موسى وعيسى ومحمد –عليهم السلام جميعًا– بحيث تجرحهم نظرة عابرة، وتسحرهم طلعة باهرة، وتغمرهم الأنثى بغيض نورها فى حضورها الوضئ الفتّان». الإشارة هنا واضحة، فالكاتب والناقد والمفكر الكبير يقرر الإفصاح عن المخبوء من حياته، يمارس طقسًا اعترافيًا نعتبره نحن فى ثقافتنا بعضًا من الفضح الذى نتلصص عليه ثم نرفضه ونلعنه ونجرّس صاحبه، لكن ولأن رجل السياقات يضع لما يفعله منهجًا وإطارًا، فالأمر عنده قد يختلف قليلاً.

استمع إلى صلاح وهو يبرر ما سيقوم به بين أيدينا من اعترافات: «أعتبر كل من تعرض لبسط طرف من سيرته الذاتية، وتجاهل عمدًا هذا الجانب الجوهرى فى حيواتنا جميعًا –علاقة الرجل بالأنثى– إما مُنافق أو مُخادع، وأحث من أعرفهم من الأدباء والمفكرين أن يتسلحوا بما يقدرون عليه من شجاعة أدبية للبوح والاعتراف بما اقترفوه من خطايا فى عرف المجتمع، وبخاصة إذا كانوا قد بلغوا درجة من الشهرة والقيمة تشفع لهم عند القراء وتكسبهم قدرًا من الحصانة التى لا يمنحها الناس سوى لمن يحبهم المجتمع فيغفر لهم، فهم بذلك يؤثرون الصدق ويكشفون الزيف ويردون أنفسهم إلى شىء من التواضع الجميل أمام الشباب بعيدًا عن ادعاء المثالية والتظاهر بالكمال». 

لا يغادر صلاح فضل إشارته دون أن يتذكر طرفًا مما فعله شيوخه الأولون فى الأدب العربى الحديث، وهو تذكر يدينهم، فعندما كتبوا مذكراتهم، أو تحدثوا عن حيواتهم، اجتهدوا فى الإخفاء أكثر من اجتهادهم فى الإفصاح والإبانة.

فهذا هو طه حسين عميد الأدب العربى يعترف بعشقه لزوجته ويمتنع عن الخوض فيما عدا ذلك، لأن دينه لها كان فادحًا، ووقوعه تحت سطوتها كان محتومًا، لكن معاصريه يعرفون قصة إيثاره لتلميذته الأرستقراطية الجميلة سهير القلماوى، وحدبه عليها وغرامه المكتوم بها، حتى إنه كان يستنشق عطرها وهى على درج السلم فى كلية الآداب، فينادى عليها بصوته الشجى: سهير، ولم يكن ملاكه الحارس القوى الشكيمة ليسمح له بأكثر من ذلك. وهذا هو توفيق الحكيم، وقصته مع فتاة شباك الأوبرا فى باريس شهيرة ومعروفة، ومن قبلها ما كرره فى سيرته من ولعه بالعوالم وأسطوات الفن والمغنى والطرب.

اعترف الحكيم لصلاح فضل نفسه بأن قصة محسن فى «عودة الروح» هى بالفعل مشاعر صباه فى الحب، وأن مسألة عدائه المزعوم للمرأة ليس سوى بدعة سيئة فى صناعة الصورة مثل البيريه والعصا والحمار والبرج العاجى وغيرها مما يروق له ترويجه إعلاميًا، لكن حسه القضائى لم يسمح له بالاعتراف فى سيره العديدة بما يجرح صورته أو يؤخذ عليه.

وينقل فضل ما قاله له جمال الغيطانى عن شيخه نجيب محفوظ.

قال له جمال: لقد قطّع نجيب محفوظ السمكة وذيلها فى شبابه، وقد باح لى ببعض هذه المغامرات بحذر شديد بخاصة بعد زواجه. 

ويذكر فضل أنه سأل نجيب: لقد أتقنت تمثيل حيوات الرجال والنساء، المجرمين والشرفاء، النبيلات والعاهرات، وتجسيد كل هذه الغرائز والشهوات باقتدار، فكيف استطعت فعل ذلك بتجربتك المباشرة المحدودة؟

فرد نجيب: وهل أكون روائيًا لو لم أفعل ذلك؟

لعب صلاح فضل –باعترافه هو– دور المحرض على الكشف والفضح، يعلن ذلك فى بساطة.

يقول: كنت قريبًا من لويس عوض وهو يكتب «أوراق العمر» ويروى لى بعض فصولها فى سهراتنا المنتظمة فى نادى السيارات الذى كان عضوًا فيه، أو فى نادى الجولف على نيل المعادى قرب بيتى، وكنت أمارس معه هوايتى فى تحريضه على كشف المستور حتى اتهمنى شقيقه الدكتور رمسيس بأننى السبب وراء تشويهه لصورة العائلة، ولم يكن هذا دقيقًا، فقد كانت صرامة الدكتور لويس وقوة شخصيته الليبرالية العائلية لا تسمح لمثلى بالتأثير فيه.

ويقول: أسهمت فى تحريض الدكتور سهيل إدريس على الصراحة فى مذكراته، فحجبت زوجته الجزء الثانى منها بعد رحيله وناشدت ابنته «رنا» أن تحرص على نشره عندما يتيسر لها ذلك.

ولأنه كان محرضًا على البوح، وعندما قرر أن يكتب بعضًا من أيامه، حدث نفسه: هذا ما أذكره من تاريخى فى تحريض الغير على الصراحة والبوح، فلماذا أنهى عن خلق النفاق والمداراة وآتى بمثله فى كتاباتى؟

يأخذ التردد بتلابيب صلاح فضل، يفكر قليلاً فيما مقدم عليه، فالبوح –كما يرى– فى مجتمعنا المنافق عار أشد وأنكى.

يقول: أنا واقع لا محالة بين عارين أو نارين، وهذا اختبار عسير وبخاصة لمن يعمل فى الجامعة، ويتعين عليه أن يحافظ على سمعته بين طلابه فى مجتمع يتظاهر بالمحافظة الشديدة مع ازدواجية معاييره ونفاقه، فهو يقصر مفهوم الأخلاق على علاقة الرجل بالمرأة فحسب، أما النزاهة وشرف المقاصد فليس من الأخلاق المراعاة، ونحن ندين الرجل إذا أظهر حبه للمرأة أو عشقه للجمال، فنسوقه إلى الشرطة إن قبّل فتاة، ونصفق له إن صفعها أو تحرش بها أو سبّها، والفضول لدينا والتدخل فى الحريات الشخصية والتلصص على الآخرين ديدن المجتمع.

وما بين إدانة من لم يفصحوا عن المخفى فى حياتهم وتحديدًا فى مساحة علاقتهم بالأنثى، والتردد الذى تبرره محاولة المحافظة على الصورة البراقة، يحسم صلاح فضل أمره. 

يدين نفسه أولاً، يقول: إذا عدت إلى موقفى الشخصى وجدتنى مثل أسلافى فى الأدب، فقد اعترفت فى إهداء كتابى الأول إلى رفيقة العمر بقصة حبى الأول لها، وكانت قصة معلنة وصريحة منذ كنا طلابًا فى جامعة القاهرة، يعرفها الزملاء والأساتذة الذين تطوع اثنان منهم لخطبتها لى بعد التخرج، وجاهدنا معًا بعد ذلك فى رحلة علمية شاقة فى أصعب الظروف، لم أكشف كل تفاصيلها لظنى أنها لا تهم القراء، ودامت علاقتنا الزوجية طوال العمر حتى فرق بيننا الموت منذ عدة سنوات فحسب.

وفى وصلة من الحيرة الوجودية يتساءل صلاح: كيف استطعنا تجاوز كل التوترات والمآزق الزوجية التى مررنا بها، وهل يحق لى اليوم أن ألحد فى حبها الممتد العميق المتجدد أو أشرك به أخرى؟ وهل يغفر لى الأهل والأحباب إن وضعت تفانى وإخلاصى فيه موضع الشك مهما كانت الذرائع والأسباب؟

ثم يعتريه التردد فيقول: لعل أقصى ما أقدر على البوح به فى هذا السياق هو رصد طبيعة التحولات التى انتابت هذه العواطف عبر عقود طويلة، فقد تخليت بعد سنوات لا أستطيع تحديدها عن نزق الحب ولهفته وأشواقه المشبوبة، وأصبح لونًا من إدمان وجود الآخر معك، ليس بوسعك تصور الافتراق عنه أو تحمل الحياة بدونه، لكنه لم يعد يملأ عليك كل أقطار نفسك ولا يشغل مساحة جميع اهتماماتك، فما زلت شغوفًا بالجمال الأنثوى، حريصًا على التنعم بحضور المرأة البهى، مشوقًا للتعارف والتآلف، وعقد الحوارات مشفقًا مما يترتب على ذلك من إثارة للغيرة أو تهديد للاستقرار العائلى الضرورى، وأنت حريص جدًا على مشاعر رفيقتك، تبذل كل جهدك لاحتكار حبها، كما تسعى هى لاحتكار حبك فى سباق متواصل تفرضه ملابسات الحياة والأسفار.

وقع صلاح فضل بين شقى رحى، فقد كان يسير فى حياته أسير أمرين مهمين، يقول عنهما:

أولهما: تربيتى القروية وجذور تكوينى الدينى، وكلاهما يحد من نزعة التحرر الغالبة على سلوكى، فبقدر انطلاقى العاطفى المشبوب يظل الجسد تابوهًا يصعب اختراقه، وبقدر ما أؤمن حقًا بالمساواة بين الرجل والمرأة لا تزال الثقافة الذكورية تغلبنى فى اللحظات الحاسمة، ومع أن منظورى قد تبدل كثيرًا بفعل الصراع المكتوم والسلمى بينى وبين زوجتى الراحلة، فقد حملتنى بذكائها وثقافتها وعشقى لها أن أتخلى عن مفاهيمى القروية فى فرض الرجولة والسعى لإخضاعها، تعلمت منها كيف أحترم عقلها وترفعها وجمالها.

وثانيهما: أن الولع بالجمال الأنثوى رافقنى طيلة حياتى، فلا أطيق أى مجتمع ذكورى بحت، وأجد الحياة شديدة الجفاف ولا تستحق العيش ما لم ترطّبها وتروى عروقها دلائل هذه الأنوثة فى الصوت واللفتة والنظرة والحضور البهىّ المشبع للحس والوجدان معًا.

ويعترف صلاح فضل بما يمكننا اعتباره معاناته، أو بالأدق أحد مفاتيح شخصيته، فيبدو أن الحرمان المبكر الذى عانى منه من الحضور الأنثوى فى التعليم الأزهرى الأساسى قد أجّل مراهقته وأشعل ظمأه وحرمه من التنفيس المبكر عن هذا الولع بالجمال الأنثوى.

يقول: ظل هذا الهاجس الملحاح دون إشباع، فتكونت لدىّ وساس الخوف من القصور حتى جئت إلى القاهرة واستشرت طبيبًا متخصصًا فأخضعنى لبعض الجلسات الكهربائية باهظة التكاليف، ولم يستطع أن يبعث الثقة لدىّ حتى مررت بتجربة الشباب المعتادة مع أول امرأة، وهى محفوفة دائمًا بالشعور بالإثم تفاديًا للشعور بالنقص، وما بين الإثم والنقص تضطرب لدىّ منذ الصبا أشواق الحياة وصراعات الروح والجسد، واهتزت مفاهيم الأخلاق حتى دفعتنى أن ألوذ بسير الأسلاف من الأدباء، ألتمس لديهم هدهدة المشاعر والمصالحة العسيرة مع الذات.

عندما وصلت مع صلاح فضل إلى محطته الملتبسة هذه، أدركت أنه لن يكون شجاعًا بما يكفى، وأن إدانته للأدباء الذين لم يطلعونا على ما حدث فى حياتهم ستصل إليه حتمًا.

إنه هنا يحدثنا عن تجربته الجنسية الأولى التى خاضها قبل أن يكون مرتبطًا بحب أو علاقة شرعية، وهى تجربة يمكن أن تدخل به إلى ساحة اللمم، فقد كان يبحث عن علاج أكثر مما كان يبحث عن متعة، وهو ما يجعلنا نتسامح معه، ونغفر له زلته، هذا إذا كان يعتبرها زلة.

حاول صلاح بعد ذلك أن يتسق مع ما أعلنه، وما انتواه من الإفصاح عما لا يجب التصريح به.

أركن إليه قليلاً وهو يقول: عرفت فى صباى نوعًا من العبث القروى الطريف، فقد كنت أنتهز موسم جنى القطن لأجلس عند البقعة التى يتكوم فيها المحصول، وتأتى إليها الفتيات العاملات لإفراغ ما فى جيوبهن من لوزة، فأتظاهر بمساعدتهن وأمد يدى إلى صدورهن ونحن نتضاحك بمرح بعيدًا عن الأعين، وقد أجرؤ على لثم إحداهن فلا يكون اعتراضها إلا خشية أن يرانا أحد، فما دامت الأمور تتم فى السر فلا ضير منها.

وأركن إليه وهو يتحدث عما يمكننا اعتباره عقدته التى ظل يعانى منها كثيرًا.

يقول: قبل أن أنتقل إلى العاصمة حدث لى أمر بالغ التأثير على صحتى النفسية، انتشرت فى وجهى حبوب الشباب بشكل أكثر من المعتاد، فرفقت بى والدتى واستدعت الطبيب الشعبى ليعالجها فارتكب أكبر خطأ كان يجب تفاديه، قام بتصفيتها وتطهير مكانها مما ترك ندوبًا واضحة فى وجهى جهدت لعلاجها بعد ذلك دون جدوى، انتقص هذا من وسامتى الموروثة عن أبى الذى كان يضرب به المثل فى الجمال قبل أن يختطفه الموت فى ريعان الشباب، حسبت أنى فقدت الجمال الذى أنشده فى كل شىء، وتشكّل لدىّ ما يشبه العقدة فحزنت كثيرًا فى داخلى وعاهدت نفسى أن أعوض ذلك بالإصرار على التفوق الدراسى من ناحية والاستغراق فى القراءة الملحة من ناحية أخرى.

ظلت المعاناة رفيقة درب صلاح حتى تخلص منها، فقد عانى ثنائية محضة من داخل يذوب حنانًا وغرامًا وولعًا بالجمال الأنثوى الفتان، وظاهر أزهرى يفترض فيه المحافظة والوقار والتصون، حتى تحرر منه نهائيًا بفضل دخوله كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، واندماجه فى مجتمعها المختلط الطبيعى واللامع بفضل تفوقه الدراسى الكاسح.

فى كلية دار العلوم تعلّق قلب صلاح بأول شقراء فتنته من أول نظرة، لكنها لم تعبأ به فسلاها بسرعة مدهشة، لكنه وجد بغيته، يقول: كانت زميلتها الأنيقة الذكية أشد حساسية منها، فجاءت تأخذ منى حوارًا لصحيفة الحائط عما أريد أن أكون عليه فى المستقبل، قلت لها بثقة مفرطة سأكون أستاذًا وناقدًا أدبيًا، من ساعتها ملكت قلبى وأسقطت عليها كل ما كنا ندرسه من شعر عذرى فى الكلية، أصبحت جميلاً مرة أخرى وكانت هى ليلاى وعزتى وبثينتى معًا، مر حبنا بأطوار كثيرة وأنا أربى عاطفتها تجاهى وأقود مشاعرها نحوى بوعى وإتقان.

فى جرأة إنسانية يتحدث صلاح فضل عما جرى له بعد زواجه، وكان قد سافر هو وزوجته فى بعثة إلى مدريد.

يقول: هناك عاودنى شيطان الولع بالجمال بمكر ودهاء فى ظل مجتمع مفتوح يزهو بمظاهر الحب ويتعانق فيه العشاق، وعلى ناصية الطرق دون أن يرى فى ذلك خروجًا على الحياء أو خرقًا للتقاليد، حرصت فى البداية على كبح جماح رغبتى وإلجام نفسى بالعفة والوفاء، وانخرطت بشدة فى معايشة الفنون التشكيلية والمسرحية والأدبية، وراقبت بحذر تطور مشاعر الحب بعد الزواج، وكيف تتحول العواطف المتأججة إلى رماد ساخن داكن، سرعان ما تضفى عليها العادة طابعًا يكاد يكون لونًا من الإدمان القسرى للحب، ينطفئ اللهب وتنشب صراعات مكتومة من الغيرة وحب التسلط والملكية من الجانبين، ولا تفلح محاولات الإنعاش فى إشعال الجذوة التى كانت متقدة، تحل هموم الحياة وتوتراتها محل اللهفة والأشواق، ويرتوى الجسد وتخمد الروح إلا فى ساعات من التوهج العرضى أو المرضى.

قاوم صلاح فضل كثيرًا، لكنه لم يستطع مع ما يجتاحه صبرًا، يقول: لكن ظل جوعى النهم للحضور الأنثوى الرائق ينمو مع هذه التحولات القسرية، فأخذت أتلمس ما يتاح لى من صحبة فى الجامعة أو المقاهى أو الحانات، كنت أدرك أنه ظمأ لا شفاء منه، فأعلل نفسى وأهدهد ضميرى بأنه امتداد للمشاعر الرومانسية التى تربيت عليها.

يحتفظ صلاح فضل بما فعله لنفسه، اختار أن يفصح لنا فقط بالقدر الذى لا يدينه، فهو لا يزال أسير مجتمع لا يغفر ولا يسامح.. ولا يرحم.

أسمعه وهو يحاول أن يستر ما جرى - وأعتقد أنه كثير - لم تكن الظروف تسمح لى بأكثر من الحديث الممتد دون أى علاقة حميمية مباشرة، وفى الواقع لم تكن بى حاجة لذلك ومعى زوجة محبة ووفية ورائعة وشديد الذكاء والحساسية فى مراقبتى وردعى، وكنت لا أزال أحسب أن هذه السرقات العاطفية التى تكتفى بالحديث الشهى والقبلة الطازجة والحضن الحنون هى من قبيل اللمم الذى لا يرقى إلى مستوى الخيانة.

قبل رحيل زوجة صلاح فضل بسنوات سألته مباشرة عن مفهومه للخيانة؟

فاندفع يصرح لها بأنها هى الممارسة الجنسية خارج الزوجية.

يستحضر صلاح هذا الموقف، يخبرنا عنه: أطرقتْ بحزن ودمعتْ عيناها بصمت، لأنها تأكدت من وثنيتى فى الحب، وهى الموحدة المجاهدة لكل غواية، لأنها كانت نموذجًا فريدًا للتصون والمحافظة والتوحد الوجدانى، وتنتظر منى أن أكون مثلها فى هذا النزوع الفطرى المترهب.

وفى صراحة مطلقة يعترف صلاح: من المؤكد أنها أدركت « فراغ عينى» وجوعها الأبدى لإطفاء لظى القلب بشهد الرضاب، لكنى لم أجرح مشاعرها مطلقًا وحافظت على كرامتها ما وسعنى ذلك بدأب شديد.

يلخص صلاح فضل ما عاش به بقوله: تعوّدت على هذا التجاذب الداخلى الناعم بين نزوعى الفطرى الذى تعززه دراسات الأدب والفن وعوالم الشعر لعشق الجمال والاستغراق فى حالات الوجد والصبابة من ناء أو مقاومة الرغبة فى الالتحام الجسدى الشهوانى الذى عزفت عنه طائعًا من ناحية أخرى حتى أسفر هذا التذبذب عن عدد وفير من الصداقات النسائية والتجارب الغرامية ذات المستوى العاطفى البحت فى مراحل متطاولة من العمر اشتعل فيها الهوى حقبة من الزمان، ثم ما لبث أن انطفأ دون جراح أليمة، لأنه كان دائمًا هوى أقرب إلى البراءة والتعفف، لا بفضل تربيتى الدينية الأولى، ولا الرقابة الزوجية الصارمة فحسب، ولكن أيضًا بفضل الخوف من داء العصر الذى علم جيلنا العفة وأجبره على الطهر وهو «الإيدز» الرهيب.

لا يزال صلاح فضل يذكر صرخة حسناء إسبانية عانقها بلهفة شديدة، ثم انسحب برفق من حضرتها، فقالت له: ملعونة تلك «السيدا» التى جعلتكم بهذا الجبن.

يضع صلاح أيدينا ببراعة على حدود تجربته الخاصة.

اسمعه جيدًا وهو يقول: لكى تكون شهادتى أقرب إلى الحقيقة منها إلى الخيال لابد أن أشير إلى أمرين لعبا دورًا حاسمًا فى هذا الصدد.

أولهما: أن مشروعى العلمى والنقدى الذى استغرق حياتى واستنفد جهدى وامتص كل طاقتى ووقتى لم يترك لى مجالاً كبيرًا لهذا الهوى، فعشق الحسان يحتاج إلى وقت للتدبير والإدارة، كما يحتاج إلى مال وفير فى معظم الأحوال، ولم يصبح فى مقدورى بذل الوقت والمال إلا بعد فتور الهمة وغروب العمر. وثانيهما: تعلقى بعملى بالتدريس الجامعى المنتظم، هذا العمل سلاح ذو حدين، فهو يتيح لمن يمارسه أن يجدد شبابه ومشاعره مع تجدد الأجيال الشابة التى تمر عليه فى الدراسات العليا، وعليه فى الآن ذاته أن يكون نموذجًا وقدوة فى الأخلاق وحسن السلوك وإلا ضاعت هيبته وفقد حتى وظيفته.

هنا لابد من تسجيل اعتراف لصلاح فضل لا أدرى مدى تأثيره على وضعه وتاريخه الأكاديمى.

 يقول: أتاح لى العمل الجامعى اصطفاء بعض من التلميذات الحسان اليانعات وتربيتهن عاطفيًا وثقافيًا، وترك مشاعرهن تنمو بلطف وتؤدة قبل توجيه معظمهن للدائرة التى تصل الآباء وبناتهن، فإذا ما أصرت إحداهن على الاستغراق فى حالات الحب والهيام حذرتها قبل أن أستجيب لها بأن ذلك ينبغى أن يظل فى حدود لا تمنعها من اختيار رفيق دربها وبناء أسرة صحيحة، لأن المستوى الذى يقع فيه حب الرائج والأب والأستاذ يعلو بكثير مستوى التحليق لشكل أسرة وإنجاب أطفال، وقد احتفظت فى مراحل عديدة من عمرى حتى الآن بحب عدة تلميذات نجيبات وجميلات وبالغات الذكاء والثقافة عمرن حياتى بمشاعر الود الدافئ والوفاء المكين، وقد توزع الاهتمام بهن على فترات غير متزامنة، وإن انقطع حبل إحداهن عندما لا تقنع بهذا الإطار وتود ممارسة هوايتها فى الاستئثار.

أعرف أن ما قاله الدكتور صلاح فضل هنا فى «صدى الذاكرة» وما لا يزال يحتفظ به، سيكون بمثابة الصدمة الهائلة لمن عرفوه كاتبًا وناقدًا وباحثًا وزوجًا مخلصًا، لكن يظل معى سؤال أعتقد أن الدكتور فضل لابد أن يجيبنا عليه، فلو قدر له أن يكتب ما كتبه الآن وزوجته لا تزال على قيد الحياة، هل كان سيجرؤ على الإفصاح عن مشاعره وتجاربه بكل هذه الشجاعة، أم أن وفاتها ساعدته فى التخفف والاعتراف بما كان سيغضبها؟ 

السؤال منى.

والإجابة ملكه وحده.

وسأظل فى انتظارها.. وهذا رهان جديد مع وعلى الدكتور صلاح فضل.