السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

ملهمات عبقريات: عظمة على عظمة يا ست 87 عامًا من النضال (النسوى، والوطنى) «سيزا نبراوى» راهبة قضايا المرأة

إن حقوق المرأة وحريتها التى تتمتع بها الآن، ليست نتاج يوم أو عمل واحد، بل عقود من النضال المستمر، من أجل كسر القيود المجتمعية القديمة التى فرضت عليها، بألا يعلو أفق تطلعاتها أكثر من حوائط منزلها. ومع ذلك، أعلنت بعضهن عن رفضهن التام بسجن عقولهن، وسعين لكسر هذه القيود، ليثبتن أن للمرأة حرية وحقا فى التعلم، والعمل، والنضال، وألا تكون (المعرفة، والمقدرة) حكرا على معشر الرجال فقط.



فى مصر، نساء تم تخليد أسمائهن، وأعمالهن..وفى هذه السلسلة ترصد (نون القوة) حياة وكفاح هؤلاء الملهمات، العبقريات، لتعرف فتيات ونساء اليوم وغدٍ، أنه لا يوجد مكان لكلمة (مستحيل). 

«إذا كان صوت «سيزا نبراوى» يشرف وطنها أمام العالم، فإن وطنها يتشرف باسمها أمام المصريين»، كانت هذه هى كلمات الرئيس الراحل «جمال عبدالناصر» عن إحدى رائدات الحركات (النسوية، والوطنية)، التى حلت - منذ خمسة أيام - الذكرى الـ(124) على ميلادها. 

فقد عرفت «نبراوى» بجرأتها، وتمردها على الأعراف المجتمعية فى سن مبكرة، لتكسر القيود المتزمتة تجاه المرأة المصرية، وتنادى بحقوق المرأة، وحريتها شرعاً، وقانوناً، على المستوى السياسى، والاجتماعى. ولطالما ارتبط اسمها بصديقتها وملهمتها «هدى شعراوى» إحدى أقوى وأشجع رائدات المرأة فى عصرها. ولكن، لم تكن الأخيرة تستطيع شد يد الأولى إلى الانفتاح والحرية والمناداة بحقوق المرأة، إلا برغبة منها، فكانت بذرة حرية المرأة موجودة - بالفعل - داخل «سيزا»، التى تستحق مسيرتها أن ينظر إليها، بعيداً عن المشاهد التى جمعتها بصديقتها «شعراوى».

ومن هنا، يظهر تساؤل مثير، كيف تغيرت فتاة ريفية تقليدية مثقفة، إلى إنسانة صاحبة رسالة مستنيرة، ودور وطنى فى فترة صعبة وحرجة جداً (فترة الأربعينيات)، خاصة بالنسبة للمرأة التى كان دورها مهمشا فى المجتمع المصرى؟. وللإجابة على هذا السؤال، كان لا بُد من البحث عن الأسباب التى دفعتها لتكون (أيقونة) يحتذى بها، وتخلد ذكراها حتى الان.

ربما يكون السبب الرئيسى، يكمن فى الفارق بينها وبين بقية الفتيات، أى إيمانها بنفسها وقضيتها التى حاربت من أجلها طوال حياتها، إذ رفضت «سيزا» أن تكون مجرد فتاة خاضعة لشكل الحياة الروتينى للمرأة المصرية حينها، كما رفضت أن تخضع لتأثير الصدمات التى عاشتها. 

 صدمات مشجعة، وليست هادمة

ولدت هذه الفتاة العادية، باسم «زينب محمد مراد»، فى 24 مايو 1897، فى قرية «القرشية» بمديرية «الغربية»، لتجد نفسها محاطة بمشاكل وقيود مجتمعية كسائر قريناتها من الفتيات. ولم تكن «زينب» بلغت عامها الأول حتى انفصل والداها، لتكفلها –فى عمر الثالثة- ابنة أخ أمها «عديلة هانم نبراوى»، التى لم ترزق بأطفال، وهى من أطلقت عليها اسم «سيزا»، ثم أعطتها لقب أسرتها، فصارت «سيزا نبراوى»، التى لم تكتشف هذا السر إلا بعد سنين. 

وحسب مذكرات صديقة «سيزا» اللاحقة، «هدى شعراوى»، التى كانت صديقة لـ«عديلة هانم» أيضاً، أكدت أن الأخيرة اهتمت بطفلتها التى كفلتها اهتماماخاصا، وعاملتها كابنة حقيقية. 

وبالفعل اهتمت «عديلة هانم» بتعليم «سيزا» فى مدرسة فرنسية بمحافظة «الإسكندرية»، قبل أن تسافر بهذه الصغيرة، ذات الثمانى سنوات، إلى «باريس» عام 1905. ومع ذلك، لم تكن حياة «نبراوى» مع أسرتها الجديدة فى الخارج وردية، بل دخل الخلل حياتها عندما بلغت السادسة عشرة، وانفصلت والدتها البديلة عن زوجها. ثم اكتشفت أن «عديلة هانم» ليست أمها الحقيقية، مما ترك أثرا صعبا على نفسيتها. وهذا ما أكدته «شعراوى» فى مذكراتها، إذ قالت: «كم كانت الصدمة شديدة على «سيزا» المسكينة التى كانت تجهل حتى ذلك الوقت أن لها أماً غيرها، وكانت «سيزا» فى ذلك الوقت فى السادسة عشرة من عمرها». 

كان شعور (الفقد) أكثر ما شعرت به «سيزا». ومع ذلك، كان هذه الأحداث المريرة التى عايشتها، مجرد وقود حرك نداءها بالحرية عند عودتها لمصر لتعيش مع أقاربها، وفوجئت -حينها- بفرض قيود عليها فى الحركة، والملبس، وهو ما رفضت الإذعان إليه.

ثم أعلنت صراحة عن كرهها لما سمى بـ(البرقع)، الذى فرض عليها فى صغرها، وكان لباساً شائعاً بين النساء المصريات حينها. ورفضت ارتداءه مرة أخرى، إذ قالت فى مذكراتها، التى كتبت فى مجلة «حواء» عام 1957، أنه: «عندما عدت من الخارج حيث عشت حتى بلغت الثامنة عشرة من عمرى كنت متحررة متحمسة، ولهذا رفضت لبس البرقع، وأصرت على لبس القبعة، وبحكم الصداقة التى كانت بين والدتى وبين «هدى شعراوى» أخذت تهدئ من ثورتى، وتقنعنى بأن الظروف غير مواتية للحصول على حقوق المرأة مرة واحدة، وأن المطالبة بها فى هدوء يجنبنا ثورة الرجال، الذين كانوا كل شىء فى ذلك الوقت».

أولى خطوات الحرية

ارتبطت «سيزا نبراوى«، بصديقتها «هدى شعراوى» أكثر فأكثر، إذ أخرجت الأخيرة، الأولى من العزلة، ونصحتها بالاتجاه إلى العمل الأهلى، التى اعتبرته «سيزا» طريق كسر القيود التى تأسرها، وبنات جنسها. وشاركت الصديقتان المناضلتان فى 14 مؤتمراً نسائياً دولياً، وأسستا العديد من الجمعيات النسائية فى مصر.

ولكن، كانت ثورة 1919، هى نقطة التحول الفعلية فى علاقة «سيزا» بالمجال العام، إذ رأت فى الاحتجاجات ساحة للتعبير عن غضبها وثورتها على كل الأوضاع التى تنتهك الحقوق وتهمش دور المرأة. لذلك، شاركت بحماس فى المظاهرات المناهضة للاحتلال البريطانى، واشتركت فى تنظيم المظاهرة النسائية الكبرى التى خرجت فى 20 مارس، متوجهة إلى بيت الأمة (بيت سعد زغلول)، وحاصرتها قوات الاحتلال، لتثبت أن للمرأة صوتا وحقا مساويا للرجل، للتعبير عن شعور الانتماء للوطن، ونبذ الاحتلال، والنداء بالحرية بكل أشكالها. 

ومن ثم فكرت «شعراوى» فى تأسيس «الاتحاد النسائى المصرى»، ليكون مظلة للحركة النسائية فى «مصر». وبالفعل، تأسس الاتحاد فى 16 مارس عام 1923، وقد ساهمت «سيزا» فى تأسيسه. وقد ترأسته «هدى شعراوى»، فيما اختيرت «نبراوى» لمنصب السكرتيرة العامة للاتحاد، ليصير الاتحاد هو أول جمعية ذات توجهات نسوية واضحة فى مصر. وكان بين مطالبه الرئيسة: استحداث تشريع السن الأدنى لزواج الفتاة هو عمر السادسة عشرة، والمناداة بمنع تعدد الزوجات، بالإضافة إلى اتخاذ الحكومة إجراءات من شأنها تحقيق المساواة بين الذكور والإناث فى جميع مراحل التعليم.

ومن هنا، وجدت «سيزا» نفسها، وأثبتت بجدارة قدراتها، تفوقها، وتميزها داخل الاتحاد النسائى، رغم صغر سنها بالنظر إلى بقية العضوات. إذ شهد العام نفسه أيضًا، مشاركة «سيزا» فى مؤتمر الاتحاد النسائى الدولى، الذى انعقد فى «روما» فى شهر مايو، إلى جانب كل من: «هدى شعراوى، ونبوية موسى»، لتصبح «سيزا» من أوائل النساء اللائى مثلن «مصر» فى الخارج.

وعند عودتهما من المؤتمر، اشتركت «نبراوى، شعراوى» فى واحدة من أجرأ الخطوات التى قامت بها رائدات الحركة النسوية، وهى خلع النقاب، أو (البرقع) أمام الناس، رافضات أن تطمس هويتهن فى المجتمع.

ونقل الدكتور رفعت السعيد فى مؤلفه «مصر» والمرأة فى مواجهة التأسلم «عن «سيزا» قولها، أن: «أذكر يوم عودة «سعد» وفى المظاهرة الهائلة التى استقبلته، بدأت «هدى هانم» بما اتفقنا عليه، فهتفت يسقط الحجاب، وخلعته، وألقت به أرضًا، وفعلت مثلها، وكذلك عدد محدود من النساء، وقد أحدث ذلك ضجيجًا واسعًا، ورفضًا حتى من بعض الوفديين المحافظين».  ورغم صدمة الجموع الحاشدة من فعلتهما، إلا أن خطوتهما أثرت فى النساء المصريات فى غضون سنوات قليلة، حيث أعربن عن رفضهن لطمس هويتهن، وانتهاك حقوقهن.

  «سيزا».. ورحلة النضال 

منذ أن بدأت «سيزا» طريقها الوعر فى كسب حقوق المرأة، لم تتوقف، أو تتراجع لحظة عن نضالها الذى أخذته على عاتقها، سواء نضال النسوية، أو الوطنية.

فقد أدى تميزها بين رفيقاتها إلى اختيارها لرئاسة تحرير مجلة «LÉgyptienne»، أى «المصرية»، التى أصدرها الاتحاد فى العام 1925 باللغة الفرنسية، بهدف توثيق نشاط الاتحاد النسائى، بالتوازى مع نشر المطالب النسوية، والتعريف بأهميتها، وكيفية العمل من أجل تحقيقها. ولكنها، توقفت عن النشر فى عام 1940 عندما بدأت الحرب العالمية الثانية.

لم يوقف هذا عزيمة «نبراوى»، إذ لعبت دورًا محوريًا فى تأسيس «الاتحاد النسائى الديمقراطى العالمى» الذى أنشئ فى ديسمبر عام 1945، أى بعد شهور قليلة من إعلان وقف الحرب العالمية الثانية، بهدف حشد المنظمات النسوية حول العالم، من أجل إنهاء الحروب، ونشر السلام. 

وبالفعل، انطلق الاتحاد من مدينة «باريس» الفرنسية، قبل أن ينتقل إلى مدينة «برلين» الألمانية، بمشاركة 41 دولة حول العالم. ومن ثم اختيرت «سيزا» لتصبح وكيلة للاتحاد. ولكنها، استقالت من منصبها فى وقت لاحق، احتجاجاً على موقفه غير الداعم للقضية الفلسطينية.

وفى إطار الحديث عن القضية الفسطينية، لا بُد من ذكر موقف «نبراوى»، الذى ذكرته اﻷديبة والكاتبة اللبنانية «نجاة فخرى مرسى»، إذ أوضحت أنها تعرفت على «سيزا» فى منتصف الستينيات، وتوطدت علاقتها بها أكثر أثناء عضوية «نبراوى» النشاط النسائى فرع المعادى، الذى كانت تشرف عليه كباقى الفروع. وفى إحدى الجلسات المخصصة لفلسطين، اقترحت «نجاة» أن يقمن معرضًا كبيرًا على مستوى «القاهرة»، يعود أرباحه للعمل الفدائى الفلسطينى، وهو ما رحبت به «نبراوى»، وأقيم المعرض، وحقق دخلاً ونجاحاً. ثم اشترين بالمبلغ الكثير من الملابس الصوفية، التى قدمنها بأنفسهن إلى الجنود المصريين فى «سيناء».

وبالعودة لكفاح «نبراوى»، فقد تولت «سيزا» رئاسة «الاتحاد النسائى المصرى»، بعد وفاة «هدى شعراوى» فى عام 1947، وكان من أبرز خطواتها بعد توليها هذا المنصب، تأسيس (لجنة الشابات) بالاتحاد. 

ولم يتوقف الأمر عند مناصفة النساء، فقد برز دورها الوطنى مرة أخرى فى عام 1951، بعد أن ألغى رئيس الوزراء - حينها - «مصطفى النحاس باشا» معاهدة 1936، فكانت تدعو إلى الكفاح المسلح فى منطقة القناة، واشتركت على رأس مظاهرة طالبت بمصادرة أموال الإنجليز، كما كانت أول من دعت إلى مقاطعة المنتجات الأجنبية، حتى يدرك العالم الغربى، أن المرأة المصرية لا ترضى بالهوان والذل ابداً. ثم عادت وأحيت نشاط هذه اللجنة مجددًا، عندما اندلعت حرب 1956، والمعروفة باسم «العدوان الثلاثى».

 رسالة «غاندى»

فى خضم أحداث النضال المذكورة سابقاً، مرت بعض المواقف على «سيزا»، منها مقابلتها بالزعيم الروحى لدولة «الهند» الـ«مهاتما غاندى»، عندما مر على «مصر»، أثناء عودته لدولته، بعد حضوره مؤتمر المائدة المستديرة بـ«لندن» فى ديسمبر 1931. 

وهنا، فكرت الهيئات فى إرسال وفود عنها لتحيته، وقد ذكرت «هدى شعراوى» فى مذكراتها، أنه قد سافر «محمود فهمى النقراشى» مندوباً عن «الوفد»، والآنسة «سيزا نبراوى» مندوبة عن «الاتحاد النسائى»، وقد طلبت منه أن يوجه كلمة للسيدات المصريات، فكتب بالإنجليزية، ما ترجمته بالعربية: «أرجو أن تلعب الأخت المصرية نفس الدور الذى تلعبه أخواتها الهنديات فى حركة تحرير أراضيهن، لأنى أعتقد أن عدم القسوة هو امتياز المرأة».

كسر تقاليد الزواج

أما الموقف الآخر الذى مر على حياة «نبراوى» أثناء كفاحها، فهو زواجها الذى صدم المجتمع. فكانت أفكارها النسوية، وقسوة الحياة الزوجية التى رأتها فى والديها الحقيقيين، ووالديها اللذين كفلاها تأثير واضح، إذ ظلت عازفة عن الزواج لفترة، وفضلت أن تظل راهبة لقضايا المرأة المصرية، حتى عام 1937، حينما كانت فى عمر الأربعين، لتفاجئ الناس والمجتمع بزواجها، الذى أقل ما يقال عنه أنه الزواج الذى كسر التقاليد والأعراف المجتمعية السائدة فى وقتها، من تهميش المرأة، والانحياز للرجل بشكل صارخ.

فقد تعرفت «سيزا» على الفنان والنحات «مصطفى نجيب»، الذى لم يبلغ من العمر سوى الرابعة والعشرين، وقررت أن تقبل الزواج منه، بشرط أن تكون العصمة بيدها. وقد علقت «سيزا» على طلب الزواج، قائلة إنها لا تستطيع أن ترتبط بحياة، يكون من حق أحد طرفيها فقط أن يتخلى عن التزامه فيها بالطلاق فى أى وقت يشاء. وبالفعل، تزوجها «نجيب» على أن تكون العصمة فى يدها. ولم يدم الزواج أكثر من أربع سنوات.

أعربت «نبراوى» عن جرأتها المتناهية عندما فكت قيود المجتمع بزواجها من شخص يصغرها بـ16 عاماً، وأن يكون لها حق أن تطلق نفسها، ولم تأبه –فى هذا الوقت العصيب للمرأة- بكلمة (مطلقة)!

• لأول مرة.. نساء تترشح للبرلمان

لم تنس «سيزا» وسط الاحتجاجات الوطنية قضيتها الأساسية، وهى مساواة المرأة بالرجل، وبادرت بالترشح إلى الانتخابات البرلمانية، بمجرد أن انتزعت المصريات حقهن فى الترشح والتصويت.. فبعد نضال طويل خاضته المجموعات النسوية فى مصر منذ العشرينيات، ومن بينهم «الاتحاد النسائى المصرى»، جاء الاعتراف الدستورى والقانونى بحق النساء فى الترشح والتصويت فى العام 1956.

ومن ثم أقدمت ثمانى سيدات على الترشح إلى الانتخابات التى أجريت فى العام 1957، وفازت منهن سيدتان، هما: «راوية عطية، وأمينة شكرى». بينما، لم تفز «سيزا»، التى ترشحت عن دائرة «مصر القديمة» فى محافظة «القاهرة». ومع ذلك، لم تحبط الهزيمة من عزيمتها. واستمر نشاطها النسوى بعدها لنحو 28 عامًا، تنادى بالحرية والمساواة. 

فى النهاية، أثبتت «سيزا نبراوى» تمسكها بمبادئها، وحقوقها، وحريتها، كامرأة قوية تعيش فى مجتمع حر. فلم تكل من الدفاع عن حقوق النساء لحظة، من أجل تذليل العقبات أمامهن. فقد واجهت، حاربت، ناضلت، وتماسكت، حتى وافتها المنية فى 24 فبراير 1985، عن عمر يناهز 87 عاماً.