الأربعاء 30 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. بجد بجد أنستونا

كدهوّن!.. بجد بجد أنستونا

كانت قضيتى الكبرى فى مرحلة الطفولة كيف أقنع أبى وأمى  بأن فطوطة كائن مستقل بذاته ليست له أدنى علاقة بذلك الرجل الكبير بتاع مسرحية المتزوجون (هكذا كنت أطلق على الفنان سمير غانم) وأن الخلط الذى حدث لديهما سببه أن فطوطة قد اشترك معه فى تقديم فوازير رمضان فى سنة من السنين ،كما أنهما أيضا يمتلكان تقريبًا نفس الشارب الضخم   وهذا لا يعنى بالضرورة أنهما نفس الشخص ولكنهما بالتأكيد شخصان منفصلان وعبثًا حاول أبى أن يشرح لى بكل ما يملك من قوة إقناع حقيقة شخصية فطوطة وأنه هو نفسه الفنان سمير غانم (بتاع مسرحية المتزوجون).



 

لكن هيهات أن أقتنع فقد تشبثت برأى الأقرب للمنطق (من وجهة نظرى) فكيف لهذا الكائن الصغير المتمرد المرح  الشقى ذو الشعر المنكوش والشارب الضخم  والبدلة الخضراء المبهجة بالفيونكات والحذاء العملاق الذى لا يعوق خطواته الراقصة  أبدا كيف يكون هو نفسه ذلك الرجل الوقور الذى يشبه أصدقاء أبى فى عالم الكبار حيث أراقبهم من بعيد دون أن أحاول أن أقترب منهم أبدا ،وكدهون أخذنى فطوطة لعالم شديد الخصوصية والبهجة بعيدًا عن روتين الواقع وقسوته حيث يتشابه الجميع فى كل شىء وكأنهم أسنان مشط الواحد   ويقف فطوطة منفردًا بشخصية فريدة لا تشبه الآخرين وإن كانت تجمع شيئًا من شىء، وكدهون أصبح فطوطة صديقى الملهم ومثلى الأعلى فى الحياة لامتلاكه القدرة على أن يفتح لى عوالم خفية تسحرنى  وتجعلنى أتامل وأفكر ثم  أثور  على أفكارى وقناعاتى الطفولية التى سبق أن لقنوها لى بضرورة  الطاعة العمياء  والاستسلام للواقع  بل يمنحنى  طاقة من التوهج  الداخلى والإبداع كنت أفتقدها فى ذلك الوقت نظرًا لطبيعة شخصيتى كطفل وحيد  منطوى وخجول جدًا، بينما هو متمرد ومنطلق ومرح وجرىء وصاحب صوت عال ورنان يتغنى بما يحب ويشعر فى أى وقت بينما أنا أهمس على استحياء بما أريد، وهكذا  سحرتنى شخصيته غير الخاضعة للذوق العام  سواء فى الزى أو تسريحة الشعر أو السلوك والتصرفات، فهو كائن حر  فى حياته واختياراته التى لا تتطابق بالضرورة مع حياة ًواختيارات الآخرين وكدهون ،وتطورت علاقتى بفطوطة تدريجيًا فبدأت أولا فى البحث عن بدلة تشبه بدلته وحذاء ضخم فى كل مكان فى البيت و فى الأسواق ومحلات الملابس دون جدوى  حتى إنى لجأت فى النهاية لاستغلال الاشياء المتاحة لى فى المنزل لإعادة تدويرها مرة أخرى لاستنساخ شخصية فطوطة بأقل التكاليف (صنع البيت) مما  تسبب لى بعد ذلك فى علقة سخنة من والدى عندما اكتشف أنى سرقت جاكت بدلته الجديدة وارتديتها على بنطلون بيجامتى وحولت إيشارب أمى الى فيونكة فطوطة الشهيرة وبعثرت شعرى الغجرى المجنون حتى يشبه تسريحته الجميلة ورسمت بألوانى المائية شاربًا ضخمًا كشاربه ،كما وضعت قدمى فى حقيبتين صغيرتين تشبهان حذائه العملاق حتى تكتمل الصورة ولأول مرة أستطيع  بالفعل أن  أغنى بصوت مرتفع دون خجل أو أردد أغنيته الشهيرة  انستونا  أمال إيه انستونا  بجد بجد انستونا  وفرحت أمى كثيرًا بأغنيتى وبالتحول الذى طرأ فجأة على شخصيتى الخجولة وشجعتنى على حفظ المزيد من الأغانى وترديدها ،بل كانت تتباهى بأدائى المحكم لتلك الأغنيات أمام صديقاتها حتى أنى صرت لفترة طويلة أقول لأى ضيف يأتى لمنزلنا انستونا  بجد بجد انستونا  كنوع من التحية الفطوطية وأتعجب جدًا عندما يضحكون وهم يصفقون لى ولأول مرة يصبح لى جمهور  صغير فى محيط الأسرة يصفق لى واشتهرت وسط الأصدقاء وزملاء المدرسة بعشقى لشخصية فطوطة  وقدرتى الفائقة على تقليد حركاته وطريقة كلامه حتى أنى استغللت تلك القدرة لمواجهة حالات التنمر التى كنت أتعرض لها من زملائى أو عندما أتعرض لقسوة بعض المدرسين  كنت أقتبس حركات لفطوطة  كنوع من الرد الساخر  من موقفهم تجاهى ولأخفى عنهم خجلى بهذه  الخيلة الطفولية لينتهى الموقف دائما لصالحى حتى أن مدام أنجيل مدرسة الموسيقى أطلقت على أغنيتى الوحيدة النشيد الفطوطى وكانت تضحك وهى ترانى أنشرها وسط زملائى فى المدرسة  وأحرص على أن  يأدوها بنفس الطريقة الكرتونية لفطوطة حتى تحولنا إلى فريق كامل يتغنى فقط بأغانى فطوطة فى الحفلات المدرسية واللقاءات ويكبر  الجمهور  والمعجبون أكبر  حتى أنى كونت مع زملائى فى المدرسة رابطة محبى  فطوطة وانتشرت تحيتنا للجمهور فى نهاية كل لقاء بكلمة انستونا وكدهون،  تحول حلم الطفولة لعالم رائع لا يدركه الكبار ولكنى أعيشه بكل مفرداته وأتفنن فى توفيق تجميع الأشياء المهملة وربما غير المتناسقة وأستخدمها كإكسسوارات تخدم تقمصى لشخصية فطوطة المتمردة على كل ما هو تقليدى فيما يشبه الفوضى الخلاقة التى تعيد تدوير الأشياء لخلق شىء جديد مبهر  وكدهون، ربما كنت أول مرة أسمع بكلمة مخرج عندما كنت أردد أغنيته فطوطة مخرج أنتيكة اتعلم سينما فى أمريكا  وظل السؤال يلح بداخلى يعنى إيه كلمة مخرج وليه يدرس سينما فى أمريكا مش فى مصر، وكدهون كبرت وأدركت عمق العلاقة الحميمية التى تربط فطوطة بسمورة وأدركت أشياء كثيرة  تجمعهما أكثر من ذلك الشارب الضخم  وكأنهما شخصيتان هاربتان من كتاب الأساطير يمتلكان ردود أفعال طفولية والقدرة على نشر البهجة  فى كل مكان ،والأهم  تلك الشخصية المتفردة لسمير غانم والتى لا تشبه أحدًا غيره من أول الباروكة التى تذكرنا بتلك الباروكات التى كان يستخدمها النبلاء والأمراء فى العصور الوسطى فى أوروبا ونظارته نص الدائرية وكأنها ميكروسكوب ضاحك يبحث عن التعساء لإسعادهم وملابسه ذات الطبيعة الأسطورية كأنها لشخصية قادمة من كتاب الحواديت، حيث تحمل ختم سمورة فقط أنت تحبها عليه ولكنك  لا تفكر أبدًا فى ارتدائها لأنها لا تليق إلا بشخصيته الأسطورية وكدهون،  أخلص سمير غانم  على مدى ستين عامًا لجمهورية  الضحك والضحك فقط  ولم يتورط أبدا فى تقديم أعمال فنية تدعو لإثارة الحقد أو الانتقام أو الكراهية بالعكس نجده حتى فى آخر ظهور فنى له فى أحد الإعلانات التجارية يتصرف كطفل فى الثمانين من عمره ويسخر من نفسه ومن بروكاته، ويقول ببراءة ومرح لابنته إيمى التى تشاركه الإعلان  تحبى تستخدمى الباروكة بتاعتى لو باروكتك مضايقاكى وكدهون، احتفظ سمير غانم لنفسه بابتسامة طفل  وحياد فيلسوف وقلب محب للحياة وهو فى الأربعة والثمانين من عمره وكدهون، سمير غانم إنسان ملهم جدًا بالنسبة لى دون أن يدرى.