الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

«فاطمة اليوسف» من «يتيمة» إلى «أيقونة» هزمت عصر «الحرملك» ورفعت شعار: لو لم أكن سيدة لوددت أن أكون سيدة !

اكتشفت بعد بحث دقيق أن سؤال: (كيف تألقت روزاليوسف؟) أو كيف أصبحت أيقونة؟ أو غيرها من المترادفات التى تؤدى نفس المعنى هو سؤال معروف بين مؤرخيها ومخضرمى سيرتها بأنه السؤال الفخ وأنه كان مثار خلاف كبير بين معاصرى العظيمة فاطمة اليوسف وأيضًا من (أَرَّخُوا) لها بعد وفاتها. 



هو سؤال أصعب من تساؤل من قتل كيندى؟ والإجابة الأسهل والخطأ هى (رص) مشاهد قصة حياتها على «التايم لاين» بتسلسلها المحفوظ .. فإن أردتم ذلك ابحثوا على جوجل وستجدون الإجابة على «الويكيبيديا»!

لكن.. إذا أردت الإجابة النموذجية فسوف تجدها فى الصفحات التى غالبًا ما يتخطاها أى قارئ فى كل كتاب ألا وهى (المقدمة)!

وتحديدًا مقدمة كتاب (ذكريات) الذى كتب مقدمته العظيم إحسان عبدالقدوس بصفته «ولدها» وتحت عنوان «أمى هذه السيدة».. ربما قرأت مذكرات روزاليوسف مرارًا، لكن لم ألتفت مثل كثيرين للمقدمة التى تعد بمثابة الإجابة المثالية عن السؤال «الفخ».. إجابة حقيقية بقدر عظمة كليهما الأم والابن. 

ففى المقدمة التى كتبها «إحسان» لمذكرات العظيمة «روز»:

«إن والدتى السيدة فاطمة اليوسف لم تحدثنا فى هذه الذكريات، عن المشكلة الكبرى التى استطاعت وحدها أن تحلها، والتى لا يزال المجتمع المصرى كله حائرًا أمامها: كيف استطاعت أن تجمع بين جهادها الشاق المضنى الذى بدأته وهى فى السابعة من عمرها.. وبين واجبها كزوجة وكأم؟!

ثم يجيب إحسان:

- أنا نفسى لا أدرى!

لا أدرى كيف استطاعت أن تحملنى تسعة شهور وهى واقفة على خشبة المسرح تعتصر الفن من دمها وأعصابها لتكون يومها أعظم ممثلة فى الشرق.

ولا أدرى كيف استطاعت أن تطرد عنى الموت الذى طاف بى مرات خلال طفولتى وصباى، فى حين أنها كانت دائمًا بعيدة عنى تسعى فى طريق مجدها.

ولا أدرى كيف استطاعت أن تنشئنى هذه النشأة، وأن تغرس فىّ هذه المبادئ وهذا العناد، وأن تقودنى كطفل وكشاب فى مدارج النجاح، فى حين أنى لم ألتق بها أبدًا إلا وفى رأسها مشروع وبين يديها عمل.

كيف استطاعت أن تجمع فى شخصها كل هذا؟

وإذا كانت قد استطاعته، فكيف تستطيعه أى سيدة أخرى تريد أن تسعى سعيها؟!

إنها لم تكن غنية يوم ولدتنى ويوم نشأت فى رعايتها، ولا كان أبى غنيًا.. فلم يكن لنا قدرة على استئجار مربية لتعهد بى إليها، ولم تكن الحياة قد سهلت إلى هذا الحد الذى نراه الآن لتيسر تربية الأطفال.. إنما هى التى صنعتنى بيديها، هى التى أرضعتنى، وهى التى أعدت طعامى، وهى التى بدلت ثيابى، وهى التى قامت على مرضى، وهى التى وضعتنى فى فراشى، وهى التى علمتنى كيف أخطو، ولقنتنى كيف أنطق.

صنعتنى بيديها، كما صنعت مجدها بيديها، كل يوم من أيام هذا المجد، وكل حرف فيه، وكل خطوة من خطواتها.. هى وحدها صاحبة الفضل فيه، وليس لأحد فضل عليها.

هى التى التقطت دروس الفن وجعلت من نفسها «سارة برنارد الشرق» كما أطلق عليها نقاد ذلك الجيل.

هى التى دخلت ميدان الصحافة وفى يديها خمسة جنيهات وأنشأت مجلة تحمل اسمًا يكاد يكون اسمًا أجنبيًا- وهو الاسم الذى اشتهرت به على المسرح- فاستطاعت أن تجعل من هذه المجلة أقوى المجلات نفوذًا فى الشرق.. وأن ترسم بها مستقبل مصر، واستطاعت أن تجعل من هذا الاسم الذى يكاد يكون أجنبيًا، علمًا يضم تحته كل الكتاب وأنضج الآراء، ولا يثير عجبًا فى مصر، كما لا يثير الأهرام أو أبو الهول عجبًا بين بنى مصر.

وهى التى لقنت نفسها أصول الوطنية والمبادئ السياسية إلى أن استطاعت أن تملى أدق الآراء، وأن تتنبأ أصدق التنبؤات.. وفى تاريخ «روزاليوسف» الطويل، لم يسقط رأى من آرائها، ولم تخط مصر خطوة من تاريخها إلا وكانت هى الداعية لها.

وهى.. السيدة التى لا تحمل شهادة مدرسية ولا مؤهلاً علميًا.. هى التى أخرجت جيلاً كاملاً من الكتاب السياسيين ومن الصحفيين.. هى التى أرشدت أقلامهم، وهى التى وجهتهم، وهى التى بثت الروح فيهم، وهى التى انتقتهم ورشحتهم لمستقبلهم.. ولا تزال إلى اليوم تُخَرِّج منهم فوجًا بعد فوج.

وهى.. السيدة اليتيمة التى واجهت مسئوليات الحياة وهى فى السابعة من عمرها.. هى التى استطاعت يومًا أن تتحدى كل سلطات الدولة.. الإنجليز والملك والأحزاب كلها.. وتآلبوا جميعًا عليها يحاولون هدمها ويحاولون القضاء على هذه الصفحات الثائرة التى تحمل اسمها.. ولكنهم لم يستطيعوا إلا أن يجعلوها فقيرة أحيانًا، وأن يسجنوها حينًا، وأن يصادروها عشرات المرات، وأن يحاكموها مئات المرات.. وأن.. وأن.. ولكن الصفحات الثائرة ظلت تصدر دائمًا وبانتظام، لم يستطع أحد منهم أن يقضى عليها، ولم يستطع أحد منهم أن يحنى هذا الرأس العنيد القوى، ولم يستطع أحد منهم أن يكون أقوى من هذه الوحيدة اليتمية.. السيدة!

كيف حدث هذا؟!

أنا نفسى لا أدرى!

وكنت أحيانًا أضع نفسى بعيدًا عنها وأجرد نفسى من عاطفتى نحوها، ثم أحاول أن أدرسها كما يدرسها أى غريب عنها، علّنى أجد مفتاحًا لشخصيتها، وعلّنى أخرج من دراستى بقاعدة عامة لحياتها أطبقها على بنات جنسها.. ولكنى كنت أخرج دائمًا بمجموعة من المتناقضات لا يمكن أن تجتمع فى إنسان واحد.

إنها هادئة رقيقة تكاد تذوب رقة.. يحمر وجهها خجلاً إذا ما سمعت كلمة ثناء.. ويكاد صوتها الناعم الخفيض الرفيع المنغم يشبه صوت فتاة فى الرابعة عشرة.. وهى تفضل العزلة، ولها دنيا خاصة تعيش فيها، وليس لها كثير من الأصدقاء الخصوصيين، رجالاً أو نساءً، وأغلب من يعرفونها لا تعرفهم، وهى تكره المجتمعات وتكره أن تقيم فى بيتها حفلاً أو مأدبة، بل إنها فى بعدها عن الناس يفوتها كثير من المجاملات حتى المجاملات التى يتطلبها العمل.. وهى بعد كل هذا قلب طيب ينشر الحب والسلام حوله، حتى تبدو ساذجة تستطيع أن تضحك عليها بكلمة، ويد سخية تعطى باستمرار وتأبى أن تأخذ نظير ما تعطى.

هذا وجه من أوجه شخصيتها.. وجه تراه فى بيتها، وهى واقفة فى المطبخ تعد طبق ورق العنب، كزوجة مثالية ثم تدور بين الغرف ترتب قطع الأثاث، أو تنمق أوانى الزهر.. أو تراه فى مكتبها وكل شىء هادئ من حولها والعمل يسير فى نظامه الرتيب.

وفجأة يتغير هذا الوجه.. فإذا به أعنف من العاصفة، وإذا بهذا الصوت الرفيع يرتفع ليزلزل مكاتب المحررين وعنابر المطبعة من حوله.. وإذا بها قوية إلى حد القسوة، جريئة إلى حد التهور، لا تخفى رأيًا صريحًا ولا تصون مصلحة من مصالحها.. جريئة إلى حد أن تقول لكريم ثابت عندما جاءها يبلغها تهنئة فاروق بمرور عام من أعوام مجلتها: «قل لمولاك أنى أرفض تهنئته» وجريئة إلى حد أن تقول لإبراهيم عبدالهادى وهو فى سطوة نفوذه: «يا إبراهيم استقل».. وجريئة إلى حد أن تتحدى وحدها مظاهرة ضخمة أطلقها الوفد عليها ليحطم دارها.

وإذا بها مختلطة بالناس إلى حد أن تتردد على دور الأحزاب وتشترك فى الاجتماعات السياسية، وتدعو الزعماء إلى بيتها.

وإذا بها قاسية إلى حد أن تطردنى من العمل أو تستغنى عن خدمات محرر آخر، ربما لم يمض على منحه مكافأة أسبوع واحد، وبخيلة إلى حد أن ترفض قرضًا لعامل قد تكون وهبته بالأمس إعانة من جيبها الخاص.

وتبحث كل هذه المتناقضات.. فإذا بها كانت محقة فى هدوئها، وكانت محقة فى ثورتها، وكانت محقة فى طيبتها وكانت محقة فى قسوتها، وكانت محقة فى كرمها وكانت محقة فى بخلها.

ولكن ما هى الشخصية الواحدة التى تملى عليها كل هذه التصرفات؟

هل يكفى أن نقول إنها ذكية؟

هل يكفى أن نقول إنها قوية؟

هل يكفى أن نقول إنها صادقة الإحساس، وإن تصرفاتها كلها تصدر من هذا الإحساس؟

أنا نفسى لا أدرى!))

كانت هذه هى المقدمة التى كتبها إحسان عبدالقدوس لكتاب والدته «ذكريات» فى  الطبعة الأولى .. ديسمبر 1953.

إحسان الذى كتب هذه الكلمات وهذا الوصف هو نفسه الذى كان يدخل فى مشاحنات مع أمه فاطمة فى المنزل وصاحبة المجلة الست (روز) بسبب نظرته لقضية المرأة ووجهة نظره فيها هى شخصيًا  فقد كتبت فاطمة اليوسف تقول: «إذا قلت إننا متفقان فى كل المسائل المهمة فإننى أستثنى من ذلك مسألة واحدة وهى «قضية المرأة» فما زال «إحسان» يعتقد أن المرأة للبيت وأنها لا تستطيع أن توفق بين بيت وعمل، وأنها مهما تعلمت وتحررت ونجحت فإنها آخر الأمر إلى رجل تتبعه وتكرس حياتها له»!

((كنت كثيرًا ما أناقشه فى ذلك فإذا ضربت له مثلًا بنفسى قال وهو يضحك: أنت راجل يا ماما!

فأحتج على ذلك وأقول له كما قال: «مصطفى كامل» «لو لم أكن سيدة لوددت أن أكون سيدة))!

كانت مقولة الست «روز» نابعة من إيمانها الشديد بكونها امرأة قوية حرصت أن تغير دون أن تتغير وتحقق نجاحها فى عصر «الحرملك» وهى فخورة بكونها امرأة ولم تحاول إثبات أنها لتنجح يجب أن تساوى 100 رجل وأنها واحد على مائة من المجتمع بالعكس فإنها هى من صنعت شهرة ومجد المئات من الرجال فى حياتها وبعد وفاتها كلهم يدينون بكل ما حققوه لها وللدار الصحفية التى أسستها.

وبحثًا عن سطور أخيرة فى إجابة السؤال «المفخخ» كيف تألقت وتحولت إلى أيقونة؟ ربما نجد وجها آخر للإجابة فى هذه السطور التى كتبتها بنفسها لتتساءل ما هى الصعوبة الكبرى التى واجهتها فى إصدار المجلة وكان عليها أن تجتازها؟!

فأجابت بقولها: «لم تكن هذه الصعوبة الكبرى فى المال القليل ولا الجهد المضنى ولا سوق الصحافة الضيقة، بل كانت تتلخص فى أننى سيدة!! فلم يكن من حق المرأة أن تدخل ميدان الحياة العامة، لم يكن المجتمع يعترف بها إلا جارية تضع وكان اقتحام ميدان الصحافة بالذات أمرًا صعبًا جديدًا على الرجال فما بالك بالنساء؟! وفى هذا الجو كان عليّ أن أمضى!

أن أتحمل مسئولية عمل يحمل اسمى، أن أشن الحملات وأتعرض للهجوم المضاد، أن أرأس مؤسسة كل من يعمل فيها رجال، أن أذهب لمقابلة رجال هم أمام الناس وزراء وكبراء، ولكنهم فى حقيقتهم ليسوا إلا رجالًا لا يعرفون عن النساء إلا أنهن لهو ومتاع، كانت هذه فى واقع الأمر مشكلة المشاكل».

ما كتبه العظيمان «روز» و«إحسان» معناه الوحيد أن الإجابة أنها نجحت وتألقت وأصبحت أيقونة لسبب واحد فقط .. أنها امرأة.