الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

قراءة فى رحلة الدم - القتلة الأوائل - لإبراهيم عيسى "الحلقة الأولى".. "حروب الرحماء" تؤرخ "الاقتتال الأهلي" وموقعة الجمل وصفين وواقعة التحكيم الشهيرة بين "علي" و"معاوية"

 لأنه إبراهيم عيسى، فمن الطبيعى أن تجد بين كلماته الكثير من الإبداع المبهر، والتساؤلات الجريئة، والجدل المشتعل، وكأنه جاء إلى تلك الحياة لهدف واحد، هو كشف الألغاز، بطريقة متفردة ومتمردة، ليصحبنا معه دومًا فى رحلة البحث عن الإجابات، سواء كان فى ثوب الصحفى أو الروائى.. تلك الرحلة التى لم تخل يومًا من الإثارة غير المفتعلة، والثقل اللغوى والوصف الفريد، ليكون دومًا عند حسن ظن قرائه، صحفيًا لا يشق له غبار؛ سابقًا لا يُسبق فى انفراداته ومقالاته وحملاته، وروائيًا فذًا؛ لا يختلف أحد على مهارته السردية والتصويرية، ونظرته الفلسفية المتعمقة؛ التى لا تكتفى بتحليل الحدث، بل تسعى وراء أبعاده وأسبابه، لتكشف المسكوت عنه. اجتاز «عيسى» عبر رحلته الصحفية الكثير من حقول الألغام الفكرية، منذ أن بدأ عمله فى «روزاليوسف»، متسلحًا بموهبته التى أثقلها يومًا بعد يوم بمهاراته، حتى صار من أساتذة القلم وعمداء الرأى، لكنه لم يتوقف عن هوايته الجسورة، وواصل رحلته بين الألغام غير عابئ بشىء سوى كشف الحقيقة، مهما كلفه الأمر من حروب، لهذا لم يكن غريبًا أن نجد بين صفحات سلسلته الروائية «القتلة الأوائل»؛ الكثير من المفاجآت المدوية، والحقائق الغائبة، والأسرار الممنوعة، وبجانب كل هذا؛ المتعة الدائمة فى السرد والتصوير والتعبير، بحبكة عصرية لا تخلو من سحر الماضى وعبق المخطوطات النادرة، لنرى التاريخ بعين الحاضر، وننتظر مستقبلًا يحمل إبداعًا جديدًا بين سطور الجزء الثالث من السلسلة، الذى ننتظر صدوره ليضيف للمكتبة العربية كنزًا لغويًا وتاريخيًا؛ يضاهى الجزءين السابقين «رحلة الدم» و«حروب الرحماء».



«رحلة الدم» عاد إبراهيم عيسى بعد أربع سنوات من صدور رواية «مولانا»؛ التى دخلت «القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية – البوكر 2013»، ليتناول المسكوت عنه فى تاريخنا الإسلامى، ففى سرد مبهر وأحداث مشوقة إلى أقصى درجة يربط ببراعة بين صراعات المسلمين الأوائل بعد وفاة الرسول وفتح مصر واغتيال عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب، ليخلق لنا – ولأول مرة – صورة أقرب ما تكون للحقيقة عن هذه السنوات المهمة والتى غيرت وجه العالم للأبد، لذلك سيُذهل القارئ عندما يعرف أن جميع شخصيات هذه الرواية حقيقية، وأن كل أحداثها تستند على وقائع وردت فى المراجع التاريخية المعتمدة. «رحلة الدم» تصدرت قائمة الكتب الأكثر مبيعًا لأشهر متصلة عقب صدورها عام 2016، كما فازت بجائزة نجيب محفوظ فى الرواية عام 2018، والتى يمنحها المجلس الأعلى للثقافة، كل ذلك جعلها أيقونة للعمل المتكامل إبداعيًا وجماهيرًا، وهو ما ظهر جليًا فى حالة الجدل التى أعقبت خروج الرواية للنور، والنقاشات الطويلة التى دارت بين قرائها على منصات التواصل الإجتماعى، والمواقع المتخصصة فى تقييم الكتب، وكأن إبراهيم عيسى أراد أن يكتب تاريخيًا جديدًا للصراعات الخفية والمؤامرات المستترة التى تناقلها الكثيرون طوال قرون؛ دون محاولة للاشتباك، سواء بالربط أو التفسير أو الخوض فى التفاصيل، لكن الكاتب سار فى الاتجاه المعاكس لما سبق، واشتبك مع الوقائع بضراوة منقطعة النظير، لينجح فى التأصيل والتفسير.

جميع شخصيات هذه الرواية حقيقية، وكل أحداثها تستند إلى وقائع وردت فى المراجع التاريخية، مثلما أورد «عيسى» فى تقديم الجزء الأول من السلسلة، ومنها «تاريخ الرسل والملوك» للطبرى، «البداية والنهاية» لابن كثير، «الكامل فى التاريخ» لابن الأثير، «أنساب الأشراف» للبلاذرى، «سير أعلام النبلاء» للذهبى، «الطبقات الكبرى» لابن سعد، «أسد الغابة فى معرفة الصحابة» لابن الأثير، «صحيح البخارى»، «المصاحف» للسجستانى، «النشر فى القراءات العشر» لابن الجزرى، «تاريخ القرآن» لعبدالصبور شاهين، «فتوح مصر» لابن عبدالحكم، «الفتح الإسلامى لمصر» لأحمد عادل كمال، «فتح العرب لمصر» لألفريد ج بتلر، «سقيفة حبى» لجورج كدر.

«رحلة الدم» نجحت بامتياز فى أن تجعل القارئ وسط الحدث، مشاركًا فيه ومتفاعلًا معه، ليرى نفسه يعيش بين أجواء فتح مصر، ويتعرف على دهاء عمرو بن العاص، ويحزن لأحوال قبطها واضطهاد الروم لهم، ويتابع عن كثب خلافات الفاروق عمر بن الخطاب مع بن العاص، وصولَا لعهد ذى النورين عثمان بن عفان، ومعايشة أحوال المدينة من خلال الخليفة وبطانته وزوجته ومعارضيه، وحتى الفتنة الكبرى التى لم تعد مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم كما كانت عليه قبلها، وهذا ما يؤكد نجاح «عيسى» فى السرد المحكم، والحبكة المتفردة، ناهيك عن المهارة اللغوية التى تضاعف متعة القراءة. «الإبداع اللغوى» بدأت «رحلة الدم» بحدث جلل، زاد البداية تشويقًا وإثارة، لكن البراعة لم تكمن فقط فى اختيار الحدث، فمع الفقرة الأولى يشعر القارئ بالزخم اللغوى الذى ينتظره بين صفحات الرواية، إذ استخدم «عيسى» تركيبات لغوية تجمع بين المرادفات والأضداد، والتشبيهات والاستعارات والصور البلاغية، لتخرج مزيجًا من الكتابة الرائقة، والبيان البديع، ليعلم المار بين السطور أنه مقبل على رواية تحمل كنوزًا من لغة الضاد، ولكى تعى هذا الإبداع عليك بقراءة بعضًا من ملامح المشهد الافتتاحى: «ألصق ظهره بالجدار، فشعر كأن السور يهتز من رعشة بدنه، أدار عنقه وخرج بعينيه تطلان من رأسه على ذلك الزقاق الضيق وقد خلا بعتمته من عبور أو مرور، كانت دقات قلبه أعلى صوت فى المكان، رغم الهمهمة والغمغمة والأصوات الصادرة من خلف أبواب البيوت، تعلن عن حركة خافتة ومرتبكة، يصنعها تعقد خيطى الفجر فتنقر راحة النائم. كان موقعه كما بدا له منضبطًا وموفقًا تمامًا، يركن على سور بيت على ناصية الزقاق الذى سيأتى منه الرجل الذى يترصد قدومه، ويطل كذلك على مدخل المسجد حيث بابه الوحيد مفتوح دون حركة، وبصيص ضوء ناحل من جذوة نار فى سبيلها للانطفاء، هى وحدها التى ترمى نورًا على عتمة لم يتمكن منها خيط الصبح الأبيض بعد. زادت رجفة جسده، فأحس خبطة سيفه فى الجدار غفوًا فانتفض فرقًا أن يلمس السيف المسنون جلده، فيبث سمه أو يشق عرق دمه. ندت منه صرخة كتمها، لكن صوتًا قادمًا من قبالته هدد بانكشاف مكمنه. كان يعرف أن رفيقه شبيب فى الناحية الأخرى، لكن بدنه ذاب سوادًا فى عتمة، حتى إنه لم يكن متيقنًا هل لا يزال على نيته ووقفته أم مضى فانقضى أمره. اطمأن حين سمع هفهفة عباءة صاحبه دليل وجوده. لمس بيد مهتزة تحت ردائه عند قصبة ساقه، فلم يشعر أن السيف قد دس سنه أو لمس حده جلدًا ولا عصبًا، فزالت عنه حمى قلقه. هى المرة الأولى التى يمسك فيها سيفًا كل هذا الوقت، فى كل هذا الدهر الذى عبره متنقلًا من أمكنة إلى أمكنة، ولو يقاتل أبدًا فأردى أو أصاب، لم يخدش أو ينخدش، ولم يقل عنه أحد يومًا إنه شجاع أو محارب أو جريء أو بطل أو فارس أو قائد أو صنديد. لم يحتجه جيش، ولم يستدعه وغى، رغم أنه كان وسط غمار الضرب والقتل والسهم والنصل والرمح والقنا والدماء والنزف والنسف والجرح والرشح، لكن لم يصبه منها شىء ولا يصله منها إلا فيء التفضل من فضائل قادة الجيش أو فضلاتهم، فإذا به وقد ذهب بنفسه للسيف وقد اشتراه، ولم يكن ملكًا له يومًا فى متاعه، على قدر معارك خاضها على حوافها أو بين خيامها أو خاضت فيه وخضت روحه، يتذكر هذا الحداد نافخ الكير منذ أيام وهو يدق حواف السيف، وقد طق نظره مع طقطقة الشرر الطائر، وقد دق ببصيرته على كتفه وهو يتمتم متوجٍسًا بهاجس لا شك إنه يقين الخبير بالعميل: • هذا سيف للقتل لا للحرب إذن. من أين عرف؟ لا يعرف. لكن المدينة بهياجها وهمجها السائح فى حرم الموت، والسابح فى نهر الدم الجارى منذ سنين، جعلت من هذا الحداد ليس وحيدًا فى صنعته، وليس فقيرًا فى ماله، وليس بعيدًا عن سياج الميدان. كم يرد له كل يوم من محاربين يطلبون سيوفًا من سيافهم، فيحسن صنع سيف لرجل سيقتل على يد آخر قد خرج توًا من باب دكانه بسيف أحسن صنعًا، أو أسعد حظًا. كان نثر الرمل الذى أثاره الغبار هو أول ما خلع فؤاده حالًا. رأى صاحبه شبيب يجرى ناحية ناصية الطريق وهو يغمغم ويهمهم وكأنما ارتعش جسده، فهز التراب وجر رجليه من مرتفع أرض إلى مهبط. أخذته الحيرة: هل يناديه ليرجع عن مكانه المكشوف، أو يسكت خشية أن صاحبه ربما يرى ما لا يراه؟ رفع سيفه أمام وجهه ولوح به ومسح عرقه الذى غزر فكان يجففه برجفة كفه. فهم ما الذى جرى لصاحبه، فقد وصلته أخيرًا نبرات صوت الكافر وهو ينادى: «الصلاة الصلاة». إنه هو الأمير الكافر، كعادته استيقظ قبل رجاله وتوضأ ومضى يمشى من بيته إلى المسجد ينادى على الصلاة: «يا مؤمنين الصلاة». كان الصوت يقترب ويقظة البيوت تتململ من رقدتها، فخشى أن يصحو أحدهم فيصحب الكافر أو يلحق به فى سيره للمسجد، فرفع رأسه من خلف الحائط وخطف نظرة للكافر يدنو فى مجيئة، كلما اقترب خطوة زاد قرع طبل قلبه، هو نعم، فى خطوه الآمن وثقته المطمئنة ومشية الفارس وهدأة المتوكل. كانت كراهية الرجل تسابق دمه فى عروقه، أنفاسه صارت كبخر غليان لا تسعه القدور، سنتخلص منه ومنهم جميعًا هذه الليلة. لا يريد أن يشتت ذهنه بعيدًا، فالكافر قد جاء أخيرًا. كيف فتنه هذا الرجل عن دينهم؟ كيف غرر به وبهم سنوات؟ لكنه الآن كشف الله عنه غطاءه، فبصره اليوم حديد. فجأة باغته شبيب حين اندفع نحو الرجل، لم يحتمل انتظاره فاندفع يرفع سيفه وجرى عدوًا نحو الكافر، وفى لمحة وسط عتمة انشق شهب من سيفه وهو يهتز فى فضاء الطريق. لكن هذا الأمير الكافر انتبه واستفاق على الهجمة، رجع بظهره بسرعة لافتة، وعاد برأسه للوراء بحركة خاطفة، وأدار جسده للشمال، وتفادى ضربة السيف، وصفع بقبضتيه ظهر شبيب، ومن ثقلهما ارتمى شبيب على الأرض بوجهه منكفئًا، وزاحفًا بركبتيه، وباركًا بفخذيه، يصدر وجعة ألم بآهة صحا عليها الناعسون. حين وقف الكافر صلبًا وثابتًا وراسخًا، كأنه لم تهزه الفجأة ولم تقلقه الصدمة، كان قد وصل إليه ووقف الآن خلف ظهر الكافر الذى أحس خبط قدمه وهفوف ثوبه وقعقعة سيفه يخرج من غمده، وصكة النصل بالهواء، ولهث الجرى وحرارة الأنفاس، وتطاير حبات العرق وانخلاع لفة العمامة، فالتفت بجانب وجهه. وفى خطفة اللحظة إذا بالسيف يهوى على رأسه فتطير العمامة مزقًا وقطعًا، ويشق الجبهة ينفلق عظمها، ويفجر الدم ليكسو صلعة رأسه ويسيل على الجبين والوجه والعنق ويمخر نحو النحر والسرة، ويضرب ثانية فيقطع جلد وجهه، ويحطم عظم ترقوته، فيتناثر الدم دفقًا ويغطى الوجه والصدر، فيرتد مترنحًا بظهره يأبى أن يسقط كأنه يمانع فى السقطة لا الموتة، هطول الدم من رأسه لم يمنع تلك النظرة فى عينيه التى رمقه بها فأشله. ساعتها تدافع من الأبواب والشقوق والجوانب بشر، كأنما انشقت الأرض عنهم فزعين جزعين صارخين صائحين مندفعين محيطين به ومحلقين حوله. وبينما هو يحاول أن يفك الحلقة المستحكمة حوله بضرب سيفه فى أجساد وأذرع وأكتاف وعصى وسيوف، حط غمام عجيب على رأسه كأنها عباءة أو خيمة، فغطت وجهه وأعمته ولفت جسده، فأقعدوه، وانحشر سيفه بين الأرض والعباءة والغمامة فانتزعوه منه، وكان يسمع القوم يصيحون ملتاعين متفجعين مذهولين: • لقد قُتل أمير المؤمنين! هذا اللعين قتل على بن أبى طالب! بينما يذوى وعيه تحت ضربات الأقدام ورفس النعال ووخز أسنة السيوف، امتدت يد فككت قماش العباءة التى رموه بها ولفوا رأسه داخلها، ثم رفعت عن وجهه اللثام، وصاح صوت: • إنه عبدالرحمن بن ملجم!». هنا انتهى المشهد الافتتاحى لرواية «رحلة الدم»، لتبدأ ملحمة بلاغية نجحت فى سرد وقائع استمرت لقرابة عقدين من الزمن، بأسلوب مبهر يجعلك تعيش بين الأحداث بلا ملل ولا كلل، إلا أن هذا المشهد حمل مفاجأة مدوية؛ يكتشفها القارىء مع البدء فى قراءة الجزء الثانى من سلسلة «القتلة الأوائل»؛ رواية «حروب الرحماء». «حروب الرحماء» «رحلة الدم لم تنتهِ إذن.. بل إن الدم أكثر وأغزر.. لم تكن أبدًا فتنة، بل أعمق وأخطر.. انسَ كل ما كنت تعرفه عن الفتنة الكبرى، فأنت تدنو من الحقيقة الآن فى سردٍ أقرب إلى الواقع وأكثر تشويقًا مع رواية «حروب الرحماء» التى استكمل بها إبراهيم عيسى مسيرة سلسلته البديعة، ليتناول السنوات اللغز فى تاريخنا الإسلامى، مؤكدًا للقارئ مرَّة أخرى على أن جميع شخصيات هذه الرواية المبهرة حقيقية، وأن كل أحداثها تستند إلى وقائع وردت فى المراجع التاريخية المعتمدة، وهى ذات المراجع التى اعتمد عليها المؤلف فى الجزء الأول من السلسلة، لكن أضيف عليها: «النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة» لابن تغرى بردى، «موسوعة أم المؤمنين عائشة بنت أبى بكر» لعبدالمنعم الحفنى، «وقعة صفين» لنصر بن مزاحم، تحقيق عبدالسلام هارون، «أطلس الخليفة على بن أبى طالب» لسامى بن عبدالله المغلوث». «حروب الرحماء» جاءت فى 683 صفحة من الحجم المتوسط، وتمتد أحداثها فى الفترة ما بين مبايعة على بن أبى طالب خليفة للمسلمين، وصولًا إلى «الاقتتال الأهلى» الذى وقع إثر ذلك، وما جرى فى سبيله من معارك وفتن تاريخية مثيرة للجدل، مثل موقعة الجمل وصفين وواقعة التحكيم الشهيرة بين على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان. وتستلهم «حروب الرحماء» كما هى الحال فى «رحلة الدم» وقائع التاريخ الإسلامى التى لا يزال أثرها ممتدًا حتى يومنا هذا، رغم مرور أكثر من 1400 عامًا على حدوثها، وتضفى عليها بعدًا روائيًا ودراميًا شائقًا، ولا تكتفى بسرد ما جرى وفقًا لما هو متداول، وإنما تفتش فى الكتب والبحوث الموثقة والمعتمدة، وما وراء المرويات، وتسعى لأن تقيم بناءً روائيًا موازيًا للتاريخ الإسلامى المدون فى كتب التاريخ. المفاجأة أن المشهد الافتتاحى للرواية، جاء مكملًا للمشهد الذى بدأ فى الجزء الأول من السلسلة «رحلة الدم»، وكأن الكاتب أراد أن يمسك بهذا المشهد ليكون النقطة التى ينطلق منها فى بداية كل جزء، مما يحمل دلالة كبيرة، سنكتشفها عند التعمق فى قراءة الجزئين خلال الحلقات القادمة من هذا العرض لرائعة «القتلة الأوائل».  لنستكمل المشهد، ونستمتع بجمالياته مثلما تعودنا من «إبراهيم عيسى».. «بدنه كله يرتجف، كل خلجة من جسمه تضرب فى الأخرى، مكورًا على الأرض، مكومًا فوق التراب، ركبتاه تحت ذقنه، ودم ينزف لزجًا ثقيلًا يقطر من لحيته، يشعر بعظام فكه مدكوكة متورمة الجلد، بينما صدره يئن تحت وجع كنصال سكاكين تنشر فى عظام قفصه. كان يستعيد وعيه الغائب ويتفحص المكان بعينين مكدودتين مضروبتين ومنتفختين؛ سقف معروش بفروع شجر وسعف نخل، ينتهى إلى مساحة صغيرة متروكة مكشوفة للسماء، بينما الجدران طينية، والأرض مفروشة بقش، مع دوارق مملوءة بالماء الذى يبدو عكرًا وممزوجًا بحبيبات من الطين.

حاول أن يتحرك بقدميه قليلًا، فاكتشف أنه مقيد بحبال تلف ذراعيه وتربط قدميه، وهناك هذه المِزق فى ثوبه التى يبين تحتها جلد مزرق محمر من أثر ضرب مبرح. استعاد الساعة الفائتة، فأنهمر الرضا على رأسه كالمطر، وزاد النهار أمام نظراته بياضًا ونورًا، وتألقت روحه مغمورة بتلك الراحة التى سرعان ما طردت تعب الجسد وأنينه. نعم، هو لا يسمع إلا صوت الصمت خارج هذه الغرفة التى يبدو أنها مخصصة لبهائم وأنعام يملكها أصحاب الدار، لكن الصمت لن يخدعه، زاره كل الصخب الذى ملأ أذنيه منذ ساعة، حين وثب على الأمير الكفر على بن أبى طالب فضرب ترقوته وحطمها. نعم إنه يكاد يرى تكسر عظمتها وانخلاعها، وتفتت الجلد وانفتاق الدم ثم انفجاره. وسط غبش الليل، شاهد وجهه كأنما يراه لأول مرة، لا هى تلك الملامح التى وقرت فى قلبه حبًا، ولا تلك النظرات التى كانت تلقى سكنًا فى قلبه. كم صار يكرهه ويكرهها، يكره ذلك الأمير المرتد، وتلك الملامح التى خالها نبوية مطهرة، وتلكما العينين الواثقتين الراضيتين. كان يريد أن يقلع هذا الرضا من عينيه، وتلك الثقة فى حدقتيه، أنت الآن ميت مقتول، وبيدى أنا، حين طارت العمامة، وانكشفت صلعة ابن أبى طالب الذى كان مفاجأ بالسيف مرفوعًا ومشهرًا وهاويًا فوق منتصف دماغه. عاد الصمت الذى يحط خارج حيطان هذه الغرفة يقلق ابن ملجم، ويلكز شكًا فى صدره، وأحس بإعياء هائل يتملكه تمامًا، ويمسك بكل خلجة من بدنه. هل هو إغماء جديد، أم أنه الموت جراء تلك الجروح المفتوحة والضربات الموجعة والكسور المؤلمة؟ لهج لسانه بالدعاء، ثم بدأ يتلو القرآن الكريم مستعيدًا كل ليالى مصر والفسطاط والمدينة وحصار عثمان والبصرة وحرب الجمل والحشد فى الكوفة، والمضى نحو صفين، والمائة يوم وأكثر فى حروب صفين، وجثث النهروان. كان ترتيله يخفت ويسكت ثم يعود فيكمل، كأنما أفاق من غفوة أو رجع من موتة. زعق الباب وانخلعت ضلفته، فانفتح على جلبة وصخب وصيحات، وتدافع العشرات نحوه ينزعونه من رقدته، ويرفعونه من إبطيه وذراعيه، ويحملونه مجرور الساقين والقدمين بين لكز ووخز ووكز ونغز وركل ولكم. • أتقتلوننى الآن؟ أمسك أحدهم بلحيته يشد شعرها، ويمعن بعينين متقدتين متوعدتين نارًا فى وجه عبدالرحمن بن ملجم، وقال له بلهجة هادئة خفيضة وواثقة: • بل إن أمير المؤمنين على بن أبى طالب أمرنا أن نحضرك إليه، فهو يريد أن يراك ويجتمع بك. شحب وجه ابن ملجم وبهت، وشلت ساقاه، وتزلزل صدره، وتجمدت عيناه، فأخذ الرجال يجرونه على الأرض كأنما يزحف فوقها لمقابلة على بن أبى طالب». مع نهاية المشهد الافتتاحى لـ«حروب الرحماء»، نكون قد انتهينا من أولى حلقات هذا العرض، لنبدأ لاحقًا فى قراءة مستفيضة لجزئى «القتلة الأوائل».. انتظرونا.