الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

صوتهن عظيم "3" المرأة فى عالم الصوفية

لا نزال على خُطَى تتبُّع الصوت والحضور النسائى، بين دولة التلاوة النسائية وصياغة دور المرأة وقصصها فى القرآن الكريم، فيما نتطرق فى السطور التالية إلى صوت المرأة فى «مملكة الله» ووجودها؛ بل صوتها المؤثر فى تاريخ التصوف.



وتحمل كتب التراث والسِّيَر الصوفية الكثير من أسماء النساء المتصوفات على مدار التاريخ الإسلامى الممتد، ما يعنى حضورًا فاعلًا للمرأة ووجود بصمة مؤثرة لصوتهن فى مملكة التصوف، ما جذب بدوره عددًا كبيرًا من الباحثين للتأريخ لنساء التصوف، ومناقشة مدى اختلاف التجربة الصوفية النسائية وخصوصيتها، ونظرة الصوفية للمرأة، فضلًا عن الدور الذى لعبته المتصوفات عبر العصور التاريخية المختلفة.

ونجد فيما سَجل ابن الجوزى من أخبار النساء وآثارهن ما يؤكد خصوصية التجربة الصوفية وثراءها من فرد لآخر، سواء كان الناسك رجلاً أو امرأة، فـ«كل ما يصح أن يناله الرجل من المقامات والمراتب والصفات، يمكن أن يكون لمن شاء الله من النساء»، هكذا يقول ابن عربى.

لم يكن المجتمع الإسلامى منغلقًا كما حاول البعض أن يصوره، إذ تشير عدد من الدراسات التى تناولت تاريخ المرأة فى التصوف إلى أن السيدة العابدة كانت تستقبل الرجال لتسمعهم وتجادلهم؛ بل تعلمهم.

«نور الروح لا يُذَكّر ولا يُؤَنّث».. بهذا الرد لقنت إحدى المتصوفات درسًا لرجال الطريقة النقشبندية فى عدم التفريق بين رجل وامرأة اعتمادًا على صورة الجسد، وهى الحكاية التى ذكرها اليافعى فى كتابه «روض الرياحين» عن سيدة متصوفة من مصر، ونظمها الجامى فيما بعد، عند كتابته لديوانه الشعرى «سلسلة الذهب» فى قصيدة بديعة.

 حضور المرأة فى تاريخ التصوف

فى دراسة بعنوان «سيرة المتصوفات فى التاريخ الإسلامى: وقفات أوليّة عبر تأملات منهجيّة»، قدمت الباحثة عزة جلال تناوُلًا نقديًا لتراجم المتصوفات فى كتب الطبقات والأعلام، من خلال الاعتماد بصورة أساسية على كتب ثلاثة: «صفة الصفوة» لابن الجوزى، «ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات» لأبى عبدالرحمن السلمى، «أعلام النساء» لعمر رضا كحالة.

وأشارت إلى أن هذه الكتب اقتصرت فى ترجمة المرأة المتصوفة على التعرض لأحوال مجاهدتها وبعض الأقوال والأشعار المنقولة عنها. موضحة: «إذا كان من الممكن تفهُّم ذلك خلال القرون الأولى (من القرن الثانى حتى القرن الخامس تقريبًا)؛ حيث ظل التصوف خلال هذه الحقبة (باستثناء نماذج قليلة) شأنًا فرديًّا يقوم على الزُّهد والعبادة والاعتزال عن الناس؛ فإن تجاهُل الأبعاد الاجتماعية والسياسية والعلميّة لشخصية المرأة المتصوفة فى القرون التالية؛ حيث تبلورت الطرقية (المدارس الصوفية) وبات التصوف ظاهرة اجتماعية، هو أمرٌ  يَستدعى التساؤل».

لم تسجل هذه الكتب، بحسب ما توضح الدراسة، دورَ المرأة المتصوفة كـ«واقفة» مثلا، خصوصًا فى إطار توجُّه النساء عمومًا للوقف على مساجد وزوايا وتكايا.

وأثارت الدراسة أحد الأسئلة المهمة فى دراسة الوجود النسائى فى مملكة التصوف، بشأن عدم ظهور مدارس صوفية نسائية أو طرُق، كما حدث مع المتصوفة الرجال كالسيد البدوى وعبدالقادر الجيلانى وأبى الحسن الشاذلى. مضيفة: «دار الحديث حول شخص المتصوفة دون ذكر صلتها بمُعلِّم أخذت عنه العلم أو تلميذ تتلمذ عليها، عكس الحال مع المتصوفين الرجال، هذا على الرغم مما يمكن استشفافه من بين سطور كتب الأعلام من وجود نماذج تشى بأنها كوّنت مدرسة وكان لها تلاميذ».

وبحثًا لذلك السؤال عن إجابة تطرح الباحثة عدة احتمالات، ما بين تجاهُل المؤرخين، أو تقاعُس التلاميذ فى حق شيخاتهم المتصوفات، أو أن كون التلاميذ والأتباع فى الأغلب من النساء قد حال دون تشكّل مدرسة صوفية خاصة بالشيخة «القُطب»، بسبب الموانع الثقافية والتقاليد الشرقية التى تنظر للمرأة على أنها كيان قاصر عن منح العلم واكتسابه.

بينما اختلف الحال فى إفريقيا، جنوب الصحراء، بحسب الدراسة، فالتقاليد الإفريقية الموروثة من فترة ما قبل الإسلام، كفلت للمرأة مكانة متميزة، مما أدى إلى ظهور شيخات لهن ذكر وتأريخ ومجالس وطلّاب، وقد امتد تأثير هذه الثقافة فى المغرب العربى الذى عرف شيخات متصوفات.

 بصمات نسائية فى تاريخ التصوف

تذكر الباحثة أسماء مثل «عائشة العدوية» التى انتفع بها أهل مكناس، وقبرها من أشهَر مزارات المدينة، و«شبكة البصرية» التى «كان فى بيتها سراديب لتلامذتها وللمريدات تعلمهن طرُق المجاهدات والمعاملة»، و«عائشة الباعونية الدمشقية» التى «أجيزت بالإفتاء والتدريس ثم أخذت فى الـتأليف حتى اجتمع لديها طائفة من الكتب والرسائل والقصائد»، و«فاطمة بنت عباس البغدادية» المعروفة بـ«أم زينب» التى «انتفع بها الكثير من النساء بمصر ودمشق».. هذه النماذج وغيرها وفق الباحثة تؤكد كسر النساء استبداد الرجال بمجالس العلم الصوفى، وأن القضية فى مسألة تكوين المدارس كانت قضية جمع وتأريخ.

 المسكوت عنه فى تاريخ المتصوفات

أمّا السؤال الأخير الذى تطرحه الدراسة فهو عن الحياة الاجتماعية المسكوت عنها للمتصوّفات بشقّيْهَا الخاص والعام، أى دورها كأم وزوجة، وتفاعلها مع المجتمع بأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فمن ناحية كونها أمًا وزوجة تبرز خصوصية التصوّف النسائى عن تصوف الرجال، فالتصوف الذى يعنى الخروج على حدود الجسد وعالم المحسوس والتحليق فى عالم الروح قد يتعارض مع تصور التفاصيل الحياتية العادية للمرأة.

وتعكس بعض سير المتصوفات ما يمكن وصفه بالصراع بين رغبتها فى التفرغ للعبادة وبين أعباء الزوجية والأمومة، فكان هناك تنازُع بين وجوديها الاجتماعى والروحانى تطلّب ألوانًا إضافية من المجاهدة عانتها المرأة لإدارة هذا الصراع وعقد مصالحة بين الجانبين، مما كان يستحق التسجيل. ومن ناحية أخرى، فرُغم معاناة المرأة تشتتًا بين واجباتها الدنيوية وتطلّعاتها الروحية، لم تتخلّ عن دورها كزوجة وأمّ، أى واجباتها ومسئولياتها تجاه الزوج والأبناء، وذلك لحضور فكرة الاستخلاف والتكليف بالإعمار فى ذهنها- على حد تعبير الباحثة.

ومن ناحية تفاعُل المتصوفات مع مجتمعاتهن، تشير الدراسة إلى نموذج السيدة «نفيسة» التى اجتمع لها كثرة العبادة والبكاء، والإحسان إلى المرضى، والتواصل مع رموز المجتمع كما فعلت مع الإمام الشافعى لمّا قدم إلى مصر، كما أنه لما توفى أمرت بجنازته فأدخلت عليها فصلّت عليه، هذا إلى جانب القيام بدور المعارضة السياسية حين استغاث بها الناس من ظلم أحمد بن طولون وتوجهوا إليها يشكونه فقالت لهم: متى يركب؟ قالوا فى غد، فكتبت إليه تؤنبه فيها بشدة وتحذره من عاقبة الظالمين ووقفت بها فى طريقه.

رُغم قلة النساء المتصوفات التى ذكرتها الدراسات التاريخية مقارنة بالرجال؛ فإن تيار التصوف كان أكثر تقبّلًا لحضور المرأة داخله، فتفوقت النساء فيه فى مقابل التضييق عليهن فى الوسط الفقهى، واستطاعت المتصوفات تجاوز الصورة السلبية التى علقت بهن فى الأدبيات الفقهية، وضمن لأنفسهن حضورًا قويًا فى المجتمع والذاكرة الشعبية عن طريق الأدوار التى أدينها داخل الصوفية والأضرحة التى شيدت لتخليد ذكراهن.