الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

«جمال حمدان» يكشفها فى «شخصية مصر» أسرار الأرض الطيبة "1 - 2"

«فرعونية هى بالجد، ولكنها عربية بالأب، ثم إنها بجسمها النهرى قوة بر، ولكنها بسواحلها قوة بحر، وتضع بذلك قدمًا فى الأرض وقدمًا فى الماء، وهى بجسمها النحيل تبدو مخلوقًا أقل من قوى، ولكنها برسالتها التاريخية الطموحة تحمل رأسًا أكثر من ضخم».



 

كأنها خلاصة «شخصية مصر» التى أراد جمال حمدان أن يقترب منها عن كثب، مسجلًا شهادته فى سلسلة خالدة، كُتب لها أن تكون منارة للحضارة، تشع ضياها عبر الأجيال، لتكشف أسرار الأرض الطيبة؛ تاريخًا وجغرافيًا وبشريًا واقتصاديًا، وتبقى كأثر لرجل عظيم مر من هنا، من مصر، شب وشاب فيها، متأملًا ومتفحصًا ودارسًا مستفيضًا، ليترك لنا تحفته الثرية؛ التى يجد كل مصرى نفسه بين أوراقها، بالطبع هى «شخصية مصر».

السلسلة الفريدة من نوعها وآثارها وأسلوبها، تضمنت أجزاء عدة، سنعكف اليوم على قراءة لجزأيها الأول والثانى، إذ حمل الجزء الأول عنوان «شخصية مصر الطبيعية»، وتضمن ثلاثة أبواب، هى «من الجيولوجيا إلى الجغرافيا، والصحراوات، ووادى النيل»، أما الجزء الثانى من الكتاب فجاء بعنوان «شخصية مصر البشرية»، وشمل أربعة أبواب، هى: «التجانس، الودية والحضارة والنظام، شخصية مصر السياسية، البناء الحضارى والأساس الطبيعي».

اجتهد «حمدان» ليضع بين أيدينا عملاً بديع الأسلوب والمضمون، شاملاً وكاملاً، لا يترك شاردة أو واردة فى بر مصر دون التطرق إليها، والغوص فى تفاصيلها، ليبدع فى الوصف، والتحليل والربط، كاشفًا لخصائص شخصية مصر، عبر مسح لكل شبر وحجر، لكل حبة رمل فى أرضنا، راسمًا خرائط التحولات الجغرافية والبشرية والاجتماعية، بصورة وافية، وكافية لكل قارئ يريد الانخراط فى الطبيعة المصرية، من الحجر وحتى البشر. 

«عبقرية المكان»

أراد الراحل العظيم أن يقتنص روح المكان، ويتمسك به وهو فوار نابض الحياة حتى يضع يديه فى النهاية على كلمة السر فى الإقليم، وعلى مفتاحه أو شفرته التى تمنحه أخص خصائصه وتفتح أعماق أعماقه، ليثبت أن الشخصية الإقليمية شيء أكبر من مجرد المحصلة الرياضية لخصائص الإقليم، أى شيء أكبر من مجرد جسم الإقليم، فهى تتساءل أساسا عما يعطى منطقة تفردها وتميزها بين سائر المناطق، محاولة أن تنفذ إلى روح المكان لتستشف «عبقريته الذاتية التى تحدد شخصيته الكامنة، أو ما يعرف كاصطلاح عام بـ«عبقرية المكان».

دراسة الشخصية الإقليمية لا تقتصر على الحاضر، وإنما تترامى بعيدًا عبر الماضى وخلال التاريخ، لأنه بالدور التاريخى وحده يمكن التعرف على الفاعلية الإيجابية للإقليم وعلى التعبير الحر عن الشخصية الإقليمية، فالبيئة قد تكون فى بعض الأحيان خرساء، ولكنها تنطق من خلال الإنسان، ولربما كانت الجغرافيا أحيانًا صماء، ولكن ما أكثر ما كان التاريخ لسانها، ولقد قيل بحق أن التاريخ ظل الإنسان على الأرض، بمثل ما أن الجغرافيا ظل الأرض على الزمان.

وهكذا نجح جمال حمدان، فى رسم صورة عريضة ولكنها دقيقة بقدر الإمكان لشخصية مصر، التى تمتاز بطبيعة جغرافية واضحة الحدود والتقاطيع، تملك تاريخا ألفيا حافلا، خاصة أنه كان يرى أن مصر جغرافيًا وبالمقاييس العلمية العالمية الرفيعة لا تزال أرضًا بكرًا، فقد كُتب شيئا لا بأس به عن جغرافيتها بمختلف اللغات، إلا أنه على قيمته وخطره مجرد نواة متواضعة نسبيًا أو شظايا متناثرة هنا وهناك، والكل لا يعدو قطرة من محيط إذا كان المستهدف مكتبة جغرافية وطنية بالمعنى العالمي.

«مقاومة الجهل»

أما على مستوى الثقافة العامة فإن الحصاد بائس، إذ دعا «حمدان» إلى الاعتراف بلا مواربة أننا كمواطنين عاديين جهلة جدًا بمصر، وأن أقل من يعرف عن مصر هم المصريون، فما أكثر أن نسمع ونقرأ من أمثلة فادحة على الجهل العام الشائع والمتفشى بأبسط الحقائق عن مصر، لهذا كان من اللازم أن نبحث عن فهم كامل معمق موثق لوجهنا ووجهتنا، لكياننا ومكاننا، لإمكانياتنا وملكاتنا، وأيضًا لنقائصنا ونقائضنا، كل هذا بلا تحرج ولا تميز أو هروب، فى محاولة لإعادة النظر والتفكير فى كيان مصر ووجودها ومصيرها، والإجابة عن أسئلة مهمة، من هي؟ وما هي؟ ماذا تفعل بنفسها؟ وإلى أين؟ وبالعلم وحده فقط يكون الرد.

فى البداية، كان لا بد من ترسيخ فكرة عظمة المكان، حتى يعلم المصريون فى أى أرض ولدوا، ويجدوا تفسيرًا لتعبير «الأرض الطيبة»، التى يرددها الجميع دون البحث فى تفاصيل تلك الأرض ومميزاتها وطبيعتها النادرة، فنحن نسكن بلدًا جمعت فى آن واحد بين قلب أفريقيا وقلب العالم القديم، وظفرت من النيل بجائزته الكبرى دون موقعه الداخلى السحيق المعوق، واستبدلت به موقع البحر المتوسط المتقدم المتألق، واكتفت من العروض السفلى بحرارتها الحيوية المشرقة دون تطرفها الوائد، فباتت صيفًا بلا سحاب، وشتاء بلا صقيع، مثلما هى أصلا؛ حياة بلا مطر، وأصل المتناقضات.

وإذا كان لهذا كله مغزى، فهو ليس أنها تجمع بين الأضداد والمتناقضات، وإنما تجمع بين أطراف متعددة غنية وجوانب كثيرة خصبة وثرية، بين أبعاد وآفاق واسعة، بصورة تؤكد فيها «ملكة الحد الأوسط» وتجعلها «سيدة الحلول الوسطى»، تجعلها أمة وسطًا بمعنى الكلمة، بكل معنى الوسط الذهبى.

«قلب الأرض»

مصر، أفريقية هى إذًا بالموضع، متوسطية بالموقع، بيد أنها كذلك آسيوية بالموقع، فكما أنها تقوم بالجغرافيا فى أفريقيا، فإنها تمت أيضًا إلى آسيا بالتاريخ، فهى البلد الوحيد الذى تلتقى فيه القارتان، ويقترب فى الوقت ذاته من أوروبا، هى أيضًا الأرض الوحيدة التى يجتمع فيها البحران المتوسط والأحمر، الأول قلب البحار وبحر الأنهار، والثانى بحر بلا أنهار ولكنه بطوله وامتداده وموقعه كالنهر بين البحار، مصر إذًا مجمع اليابس ومفرق البحار، أرض الزاوية فى العالم القديم، قلب الأرض ومتوسطة الدنيا.

أضف بالمثل أنها البلد الوحيد الذى يلتقى فيه النيل بالمتوسط، الأول بعد رحلة سحيقة شاقة مفعمة بالأخطار والمخاطر وبالعقبات والسدود، الجيولوجية والطبوغرافية والمناخية والنباتية، كل منها كان يمكن وحده أن يشتته، لكنه يجتازها جميعًا بإلحاح ثم بنجاح، والثانى يصلنا فى أقصى نهايته ونهاية مطافه، الأول أوسط أنهار الدنيا موقعًا وأطولها وأعظمها، والثانى أوسط بحار الدنيا، سيد البحار وأعرقها، إنه لقاء الأكفاء والأنداد والأفذاذ جغرافيًا، أبو الأنهار وأبو البحار، مهد الفلاحة ومدرس الملاحة، نهر الحضارة وبحر التاريخ، والعكس صحيح.

وبهذا اللقاء، مع التحام القارتين وتقارب البحرين، فكأنما كانت الطبيعة تشير إلى مصر، وكأن خطة علوية عظمى قد رتبها الجغرافى الأعظم، لتجعل منها قطبًا جغرافيًا أعظم فى العالم القديم، وبالفعل تحقق الوعد الجغرافى تاريخيًا فكانت حضارة مصر النيل الفرعونية، الحضارة الأولى فى التاريخ، وسواء أكانت صدفة سعيدة أو نتيجة حتمية، أصبحت أول أمة فى التاريخ ثم أول دولة، وبعدها أول إمبراطورية.

«التجانس أرضًا وبشرًا»

مثما كانت مصر القديمة تفوق فى عدد سكانها معظم بلاد العالم المعروف، وتعادل وحدها العديد منها، فإن كثافة السكان فى مصر الحديثة تعادل أو تفوق مثيلتها فى أغنى الدول الصناعية وأشدها ازدحامًا، لم يأت هذا من فراغ، فمصر بكل تأكيد كثافة لا مساحة، إنها بللورة محدودة الرقعة وإن كانت مفرطة الامتداد، غير أنها أساسا مكثفة مركزة بلا حدود ولا هوادة، بل إنها تزداد تكثيفًا وتضاغطًا باطراد، فيبدو الوادى غير قابل للنمو جغرافيًا إلا بالكاد وفى أضيق الحدود، ولكنه مع ذلك ينمو باستمرار وبتسارع، لكن رأسيًا إلى أعلى لا أفقيًا على الجانبين، فسواء فى الزراعة واستغلال الأرض والمحاصيل والإنتاج، أو فى السكن والسكان من مدن أو كثافة، بل حتى فى سمك طبقة الطمى النيلى ذاته، فإن كل ما يفعله النمو كوظيفة للزمن هو أن يرفع الكثافة ويزيدها تكثيفًا على تكثيف بالارتفاع والتكدس والتراكم المطرد إلى أعلى.

التجانس بعد التكاتف، تلك يقينا هى الكلمة المفتاح والنغمة الأساس داخل هذه البللورة المركزة المضغوطة، فرغم عديد الفروق الموضوعية والمحلية والإقليمية، يسود أجزاء الوادى قدر غير عادى من التشابه طبيعيًا وماديًا وبشريًا، ففى هذه البيئة الفيضية، النهر هو موزع كل شيء، وظابط إيقاع كل شيء، الغرين والماء، التربة والخصوبة، الزراعة والإنتاج، العمران والسكان، فالنيل جغرافى مصر الأول وربما الأوحد، إنه النهر الجغرافى بامتياز، وبحكم قوانين الإرساب النهرى، تميل هذه التوزيعات جميعًا إلى الحد الأقصى من التجانس والعدالة والتشابه، وإلى الحد الأدنى من التنافر والاختلال والتباين، وبالتالى فلا انقطاعات داخلية حاسمة ولا نطاقات متبلورة.

ومن جانب آخر، فإن التركيب الجنسى أو التوزيع الانثربولوجى لا يكاد هو الآخر يقل تجانسًا، رغم خضوعه لضوابط أخرى تمامًا بالطبع، فأهل مصر من أشد شعوب العالم تجانسًا فى الصفات الجنسية والمقاسات الجسمية خاصة الرأس، ومن أكثرهم تشابهًا فى السحنة والتقاطيع والملامح.

وفى كل هذه النواحى والجوانب بغير استثناء تقريبًا، فإذا كان ثمة تغيير أو اختلاف فعلى الهوامش والأطراف، ومن ثم تبدو مصر الوادى طبيعيًا وبشريًا، من التضاريس والمناخ حتى العرق والعقيدة والقرية والمدينة، جسمًا متجانسًا إلى أبعد حد ممكن، لا تتطور نحو التباين التدريجى إلا على الأطراف وحدها، حيث تبزغ أو تبرز الملامح المحلية أو الابتعادات الخاصة سواء فى المناخ أو البيئة الطبيعية أو المحاصيل الزراعية، أو الحرف والمهن، أو الموانى والمدن، أو حتى العناصر الجنسية والجاليات الأجنبية.

لهذا تبدو مصر الوادى من وجهة الجغرافيا الإقليمية إقليمًا رئيسيًا سائدًا واحدًا على الجملة، ينقسم فقط إلى إقاليم ثانوية باهتة أو شاحبة نسبيًا، بل وإلى حد قد يتحدى الجغرافى الذى يتصدى لها بالتصنيف، الأمر الذى يلخص التجانس مثلما يؤكده، حتى مصر الصحراء هى الأخرى لا تتطور جديًا نحو التباين والاختلاف إلا على الأطراف، سواء ذلك فى الأرض والبيئة أو فى العناصر الجنسية والأقليات الوطنية

«أم الأمم»

من التجانس إلى الوحدة، نقلة لا شك منطقية ونتيجة حتمية، وهكذا كانت مصر دائمًا، فمنذ فجر التاريخ، وقبل أى بلد آخر بقرون على الأقل، بزغت مصر كشعب واحد تجمعه وطنية واحدة فى وطن واحد على شكل دولة أحادية، تلك أقدم أمة فى أول دولة فى التاريخ، الأمة الدولة، أو قل أم الأمم، ووراء هذه الوحدة السياسية العريقة  الوثيقة والعروة الوثقى، تكمن عوامل التبلور الجغرافى ووحدة البيئة الطبيعية والوظيفية والتجانس الأرضى والجنسى والبشرى، فمنذ ولدت هذه الوحدة فإنها قلما عرفت بالانفراط أو الانحلال، كما لم تعرف التقسيم لا بالطول ولا بالعرض، لا بالتنصيف ولا بالتربيع، لا فى ظل الاستقلال ولا حتى تحت الاستعمار، إن مصر لم تكن قط مجرد تعبير جغرافى وحسب، بل كانت دائمًا تعبيرًا سياسيًا منذ البداية وإلى النهاية.

تأخذنا السلسلة فى رحلة بحث علمية وموسوعية، شارحة خصائص التجانس الطبيعى والمادى والحضارى والبشرى، والوحدة الطبيعية والسياسية، والمراحل المختلفة التى مرت بها مصر، من السبق الحضارى إلى التخلف، من الإمبراطورية إلى المستعمرة، من الطغيان الفرعونى إلى الثورة الاشتراكية، وتفسر الأساس الطبيعى الخارجى للبناء الحضارى، وفكرة المركزية رغم امتداد، والكثافة بلا هجرة، تعدد الأبعاد، التوسط والاعتدال، والاستمرارية والانقطاع، ثنائية الوطنية القومية، ثم تستعرض طبيعة التجانس الطبيعى بالأرض والمناخ، والتجانس المادى فى الزراعة والمحاصيل، والتجانس العمرانى فى توزيع السكان، والتجانس الحضارى بالمدن والقرى، والتجانس البشرى فى السلالة والتكوين الجنسي.

 كما تكشف ماهية الوحدة السياسية بكل مقوماتها ومكوناتها من وحدة إقليمية ووطنية ولغوية ودينية ونفسية، ومنها إلى التطورات التاريخية، وشخصية مصر الاستراتيجية، ثم البناء الحضارى وأساسه الطبيعى ممثلًا أولًا فى الموقع ثم الموضع، وتتطرق إلى شخصية مصر الاقتصادية، عن طريق التركيز على الزراعة والصناعة والثورة المعدنية، ومن الاقتصاد إلى الاجتماع؛ ترسم السلسلة خريطة المجتمع المصرى من حيث السكان والمدن، ثم تتحدث عن آفاق الزمان وأبعاد المكان، فى دراسة لتعدد الأبعاد، ومنه إلى الموضوع الأخير وهو مصر والعرب، والوطنية المصرية والقومية العربية.

على الجانب البشرى، يمكن أن نصنف العمل كدراسة فى الجغرافيا البشرية الأصولية أو فى الجغرافيا البشرية الإقليمية بمفهوم المدرسة الفرنسية، وهنا يرقد مركز الثقل فى العمل ككل، من ناحية تلك هى طبيعة جغرافية مصر، ومن ناحية أخرى لأن الشخصية الإقليمية إنما تبرز وتترجم من خلال الإنسان وأعماله فى الدرجة الأولى.

أخيرًا.. نجح جمال حمدان فى رسم خريطة جغرافية وإجتماعية وإنسانية لمصر، مكتملة الأركان، تبقى أبد الدهر شاهدة على الإبداع الفكرى والثقافى المصرى، لهذا لم يكن غريبًا أن تكون الموسوعة هى الأكثر مبيعًا فى معرض القاهرة للكتاب العام الماضى، بعد اختيار «حمدان» ليكون شخصية المعرض، حيث بيع ما يقرب من 4 آلاف نسخة، ما يكشف شغف القراء للتعرف على «ِشخصية مصر»، ويؤكد أن العمل المتميز لا يموت.