الأربعاء 30 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!.. فنجان أمّى

كدهوّن!.. فنجان أمّى

ضحكتْ «ليلى» طفلتى الصغيرة كثيرًا عندما سمعتْ أمّى تحذرنى من العودة متأخرًا ليلاً، ومن عبور الشوارع المزدحمة بسيارات يقودها مجانين لايعبأون بالمارة من الشباب الصغير (تقصدنى أنا بالشباب الصغير)، ولهذا ضحكت ابنتى وهى تكرّر كلمة «الصغير» كما نطقتها أمّى بتلقائية وكِدَهُوَّن.



تذكرتُ ضحكات شقيقاتى عندما كنا أطفال وغيرتهم الطفولية من خصوصية علاقتى بأمّى وتدليلها لى (من وجهة نظرهم) رغم أنها لم تفرّق يومًا بينى وبين شقيقاتى فى المعاملة أبدًا، فالكل أبناؤها دون تمييز، والكل نال حظه من التربية والتعليم والتدليل بنفس القدر وكِدَهُوَّن.

ضيعت أمّى نُص عمرها فى انتظارى أنا وشقيقاتى فى البلكونة قلقة، حتى يعود آخر فرد فى الأسرة (قبل اختراع الموبايلات)، وعندما تطمئن على سلامتنا تبدأ مرحلة تالية للانتظار وهى مرحلة التعنيف والتهديد بعدم الخروج مرة أخرى بمفردنا، أو الحرمان من مشاهدة التليفزيون، وهو أمْر لو تعلمون عظيم فى ذلك الزمان، ولقد كان هذا التهديد بالعقاب عام لى وشقيقاتى على السواء، وهذا لم أكن أشعر أبدًا بفرق فى المعاملة بينى وبينهم كما يدّعون، فلم تطلب أبدًا من إحداهن إحضار الطعام أو إعداد كوب شاى لى مثلا بصفتى ولد وحيد وهم بنات، فكل منا يخدم نفسه بنفسه مما رسّخ بداخلنا الإحساس بالمسئولية وبفكرة المساواة بين الرجل والمرأة بعد ذلك دون أى خطب أو شعارات رنانة وكِدَهُوَّن.

لكن ذلك لم يمنعنى أنا وشقيقاتى من الغيرة الطفولية على أمّى، فكل منا يريدها أن تكون أمًّا له هو وحده فقط، من دون الآخرين حتى أنى طالبتها مرارًا بعدم تفصيل الفساتين لشقيقاتى، خصوصًا  فى وقت الأعياد والمناسبات السعيدة (فلم يكن شائعًا فكرة شراء الملابس جاهزة) وكِدَهُوَّن، وأن شقيقاتى مزعجات ولا يتوقفن عن إظهار تململهم وعدم رضائهم عمّا تنجزة لهم، ويطالبونها بإجراء تعديلات مستمرة فى موديلات الفساتين وهى مستسلمة تمامًا لطلباتهم بهدوء، مما يثير غيظى وربما غيرتى من دلع البنات.. هذا (من وجهة نظرى).

كنت أطالبها بالكف عن الجلوس على ماكينة الخياطة والاستفادة بالوقت بشىء مفيد كاللعب معى مثلا، فكانت تضحك وتحضر لى أوراق وألوان وتطلب منّى أن أرسم أى مَنظر أمامى فى الغرفة، وعندما أنتهى منه كانت تكافئنى، ونعلق الرسمة على الحائط، حتى يشاهدها كل مَن يحضر لمنزلنا ويشيد بموهبتى وكِدَهُوَّن، هذا بخلاف تشجيعنا جميعًا على القراءة من أول ميكى وسمير حتى روايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتناقشنا كأنها أحداث حقيقية وليست مؤلفة، فكنت أتخيلها شخصيات حقيقية من دم ولحم حتى أنى اعتقدت يومًا بأن بقلظ يبقى ابن ماما نجوى، وعبثا حاولت تقنعنى أنه مجرد عروسة وماما نجوى بنى آدمة إلا إنى صممت أن بقلظ ابن ماما نجوى وصممت أن أقلدة حتى أظهر فى برامج ماما نجوى مثله، صرتُ أضحك وأتكلم بنفس طريقته مما أثار غضب والدى، ولولا تدخلها وعلاجها للموقف لحدث ما لا يُحمد عقباه وكِدَهُوَّن.

ولا أدرى حتى يومنا هذا كيف كانت تنظم يومها مع كل هذه المسئوليات الكثيرة جدّا، التى تتحملها عن طيب خاطر، فقد كنت أتخيلها تمتلك أكثر من شخصية أمّ واحدة وكِدَهُوَّن.

 استمر السيرك العائلى المنصوب بينى وبين شقيقاتى العزيزات دون مهادنة أو استسلام إلا أنها كانت تعامل الجميع بفيض حنان، حتى مَن لم تربطه بها صلة رحم فقد كانت أمّ للجميع، حتى من يكبرها سِنّا وخبرة، إلا أن شقيقاتى دائمًا يتندرون بتلك العلاقة التى تربطنى بها حتى أنهم وصفونى يومًا بأنى الحتة الطرية فى قلب أمّى؛ اعتقادًا منهم بأنها ضعيفة تجاهى، ولذلك تدللنى بشكل خاص؛ لأنى وحيدها، وكانت تضحك وتقول لهم محبتكم فى القلب واحدة، بس حسن هو إللى بيريّحنى وبيسمع كلامى وكِدَهُوَّن.

ولأن مافيش حد بيحس بنفسه خالص، فلم أدرك حجم الإزعاج الذى أسببه لأبويا، ولأنى طول الوقت كنت طفل شقى جدّا ومشاكس طوب الأرض من التلامذة للمدرسين وربما وصلت الذروة عندما أخدت حذاء أحد المدرسين الذى اعتاد خلعه دون داعى أثناء الدرس وقذفت به من نافذة الفصل ولم يعثر عليه بعد ذلك، مما جعل استدعاء ولى أمرى إجراء روتينى فى حياتنا من وقت لآخر.

ولأن أبى دائم الانشغال كان يتحتم على أمّى مواجهة ثورة الناظرة والسادة المدرسين وأحيانًا الضحايا من زملائى التلاميذ بهدوء رزين مع ابتسامة سحرية تعيد علاقاتى بالجميع أفضل مما كانت وكِدَهُوَّن.

أمَّا شقيقاتى فكنت شايفهم مزعجات جدّا بدرجة جعلتنى أقترح عليها أن تعرضهم للتبنّى أو حتى تسيبهم على باب أى جامع حتى نتخلص من زنّهم ومراقبتهم لنا طوال الوقت، إلا أنها رفضت اقتراحى بابتسامتها المعهودة، وظلت تعاملهم كأمّهم وظلوا هم يسخرون على علاقتى الخاصة بأمّى، مما جعلنى فى مرحلة المراهقة أتعمد الابتعاد عنها بقدر الإمكان وكأنى أنفى عن نفسى تهمة أو جريمة بأنى ابن أمّى المفضل؛ معتقدًا أنى بذلك صرت رجلا بعيدًا عن رعاية أمّى واهتمامها بكل شئون حياتى وكِدَهُوَّن.

وعندما كبرت بالفعل عدت لحضن أمّى بكامل إرادتى أستشيرها وأحكى لها كل شىء وأى شىء، وأستمر فى الحكى وتستمر هى فى الإنصات لى مع ابتسامتها السحرية تمسح كل همّى وقلقى، وعندما أنتهى من الحكى كانت تكتفى بجملة بسيطة (ماتزعّلش نفسك)، رغم بساطتها كانت تحمل لى كل طبطبة الدنيا ودواء لروحى القلقة.

كانت هى طبيبى النفسى الذى يعيد توازنى كلما اهتزت وسط تقلبات الحياة وكِدَهُوَّن، لم أكن أشعر بسحر العلاقة بينى وبين أمّى فى وقتها؛ لأن السحر لا يُرَى مباشرة بالعين المجردة، ولكنه سلوك وتصرفات واحتواء وتأثير تراكمى يتوغل بداخلك مع الأيام والسنين، حتى يتمكن من قلبك ويصير جزءًا لا يتجزأ منه وكِدَهُوَّن.

 كبرت أمّى ومرضت ووهن الجسد وقلّت الحركة والكلام، إلا أن نظرة عينيها ظلت مصدر قوتى فى الحياة على ضعفها، فضلت أختبئ فى حضنها وأحكى لها مشاكلى دون توقف، وأنظر إلى عينيها تقول لى ماتزعّلش نفسك.. وظل الأمر بيننا هكذا حتى رحلت عن عالمنا مبتسمة كما عاشت مبتسمة وكِدَهُوَّن.

 وعندما أفتقد وجودها بجوارى وأشتاق إلى صحبتها أحضر فنجان قهوتها الخاص بها والذى ظلت تستخدمه على مدى 40 عامًا لم تغيره أبدًا، حتى أنها كانت تأخذه معها فى كل مكان تذهب له حتى عندما تسافر، لا تشعر بمذاق القهوة غير فى هذا الفنجان الذى أهداه لها أبى فى يوم من الأيام واستمر يصنع لها القهوة بنفسه يوميّا وفى نفس الميعاد حتى رحل أبى ظلت هى على عهدها معه تجلس فى نفس المكان وتشرب من نفس الفنجان وكِدَهُوَّن.

أشرب قهوتى فى فنجانها وأظل أفضفض إليها وأحكى كل إللى يحزنى وأسمعها تقول لى: ماتزعّلش نفسك وكِدَهُوَّن.

أنا لا أجيد الحديث عن أمّى وتلك هى المشكلة، عندما قررت الكتابة عنها وجدتنى حائرًا، ماذا أكتب، فما أسهل أن نكتب كلمات المدح والشكر ونرد الجميل كما يقول مذيع أحد الإعلانات التليفزيونية، ولكن من الصعب أن نكتب عن الحياة ذات نفسها، ولقد كانت أمّى حياة بكل حلوها ومُرّها، وعندما رحلتْ أخذتْ معها الكثيرَ من الحياة.