السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
ناصر- حليم-السعدنى .. حليم يسأل السعدنى عن الطبيب البيطرى! "الحلقة 15"

ناصر- حليم-السعدنى .. حليم يسأل السعدنى عن الطبيب البيطرى! "الحلقة 15"

كان السعدنى يروى هذه القصص بشأن الأطباء للعندليب الأسمر.. وكلما صمت السعدنى كان حليم يستحلفه أن يكمل الحكاوى، وبالفعل كان السعدنى يستجيب لحليم، ولكن يطلب منه أن يتعظ من كلام الأطباء لهم يأمرون المريض بأن يخاصم الطعام ويلتزم بالدواء ويمضى فى الحياة بطريقة تمرضه وتشقيه أكثر من المرض ذاته، وأن المفتى صارح السعدنى وأنيس منصور بأن كسر كلام الأطباء واجب، والإقبال على أطايب الطعام أمر محمود وفيه خير للمريض، لأن الحرمان التام يؤدى إلى عواقب سيئة.



 

 وعندما سأل حليم السعدنى عن السر فى اختيار هذا الطبيب الشهير أنور المفتى وما هو سر علمه وشهرته.. قال له السعدنى: عمك أنور المفتى كان عبقرى زمانه جاء الأول على دفعته ودرس فى أفضل الجامعات فى بريطانيا وعاد ليواصل علمه فى مصر وأخلص للمصريين جميعًا ولأبناء قريته خصوصًا، وعمل أبحاثا علمية دولية ووصل إلى جمال عبدالناصر فأصبح هو طبيبه الخاص وكانت أجرة الكشف عنده أرخص أجرة فى مصر كلها.. بينما كان التمرجى يتناول أحيانًا عدة جنيهات فى الخمسينيات وبداية الستينيات لكى تكشف «كشف مستعجل» مع أنه لا يوجد فى العيادة شىء اسمه كشف مستعجل، فقد كان الأمر يجرى دون علم الطبيب العالم، ولذلك مات أنور المفتى ولم يترك شيئا وراءه، بينما أصبح التمرجى من أصحاب الأملاك، فبنى عمارة ضخمة واشترى قطعة أرض فى قريته، وحكى السعدنى للعندليب عن أبحاثه التى جربها فى البلهارسيا وكيف اكتشف أن الدواء الذى يضعه الفلاح لمقاومة دودة القطن هو نفسه الدواء الذى يقضى تماما على البلهارسيا، وقد كان حليم من عشاق السعدنى، أحبه وارتبط به منذ أول مرة يقع فيها بصره عليه.. وغضب حليم من السعدنى لأنه كان يقاطعه كلما غضب كامل الشناوى من حليم.. وكثيرًا ما عاتب العندليب السعدنى على هذا الموقف غير العادل، فكان السعدنى يقول: إحنا عايشين فى عصر عمك كامل الشناوى، ده نوارة الجيل كله.. ويتساءل السعدنى بحدة: فى حد فى الدنيا يزعل عمك كامل بيه.. وفى حضرة السعدنى كان حليم يصنع الشىء نفسه الذى يصنعه كل محبى السعدنى.. فقد كان عمنا عبدالرحمن الخميسى يقول: إنك عندما تكون فى صحبة محمود السعدنى وهو أصغر منك فى السن لا تملك إلا أن تنسى كل رغباتك وكل أمنياتك وكل اختياراتك وتخضع فقط لرغبات واختيارات السعدنى.. وهذا بفضل سحر شخصيته وحديثه الذى لا يمكن أن تمل منه أبدًا.

وسبحان الله حتى فى المرض كانت أمراضهم متشابهة وطبيبهم واحد، فقد كان أنور المفتى هو الطبيب الذى تستطيع أن تنطبق عليه مواصفات.. طبيب قوى الشعب العامل.. أو طبيب الاشتراكية والعدالة، فهو طبيب جمال عبدالناصر رئيس أعظم دولة فى أفريقيا والوطن العربى والشرق الأوسط، وهو أيضا طبيب أهل الفكر والفن والأدب، وكذلك طبيب الفلاحين والعمال والطلبة والبسطاء والغلابة، والذين هم على فيض الكريم، فهو قادم من قرية اسمها «سحال» فى البحيرة ولا أعرف ما هو سبب هذه التسمية العجيبة.. ولكن الأعجب أنه عندما أصبح طبيبا عظيم الشأن والأثر قرر أن يذهب إلى القرية.. حيث مسقط الرأس، فى حين لم يكن الأمر مقبولا من الأسرة حيث تدرس الابنة «مايسة» وهو ما تطلب وجود أحد الأبوين إلى جوارها، وهكذا أصبح على طبيب أهل مصر أن يعيش وسط أهله من الفلاحين دون أى أحد من أفراد أسرته، فأصبح له أسرة أكبر وأعرض.. وقد أخلص الرجل فى علاج هؤلاء المنضمين إلى أسرته وخفف عنهم الكثير من الألم ووفر لهم الدواء بلا مقابل ومنحهم وقته وعقله وفتح لهم قلبه ولم ينتظر منهم جزاء ولا شكورًا.. ولكن طبيعة المصرى البسيط الطيب.. جعلت أهل القرية يطالبون الأجهزة بأن تطلق اسم هذا الطبيب الإنسان على القرية، خصوصًا أن اسم «السحاتى» اسم لن يتباكى عليه أحد، ولكن على ما يبدو أن الاسم ظل على ما هو عليه ولم يكافأ الرجل المخلص بما يستحق من تكريم منحه إياه أهله وناس وأبناء قريته.. وتمكن هذا الرجل من اكتشاف العلاج لأمراض قريته مثل العقم لدى السيدات، حيث تلجأ سيدات القرية إما إلى أضرحة أولياء الله الصالحين فى القاهرة، أو إلى دجال القرية، حيث يحلب منهم الأموال والهدايا على شكل بيض وسمن وجبن وحمام ودجاج وإوز وبط وكل ما كانت تنتجه القرية المصرية أيام عزها فى عصر عبدالناصر.. وكان العالم الكبير قد وصل إلى علاج غريب من نوعه عن طريق وضع «طلع النخل» فى شكل «لبوس» لدى السيدات بعد أن اكتشف أنه يحتوى على نسبة هائلة من الهرمونات التى تؤثر بشكل خطير فى إعادة الخصوبة إلى السيدات.. وهى بالمناسبة وصفة شعبية يعلمها أهل مصر القدامى والطاعنين فى العمر.. من خلال حكاوى السعدنى.. عشق حليم أنور المفتى.. ولكن مرض حليم لم يكن يتطلب العرض على الرجل فاكتفى بمحبته دون زيارته.. وظل وفيا لحكايات السعدنى عنه يرددها دومًا ويطلب المزيد.. وفى لندن كانت هناك فسحة من الوقت وبراح أمكن معه اللقاء وسرد المزيد من الحكايات عن علاقة المرضى بالأطباء وارتباطهم الذى تحول أيضًا إلى نوع من أنواع المرض. 

ويحكى السعدنى أغرب هذه الحكايات للعندليب عن الرجل الذى كان له الفضل فى اكتشاف موهبة السعدنى وتوجيهها وهو لايزال فى ريعان صباه.. فقد سحب الفنان طوغان الذى سكن الجيزة ــ حديثا ــ صديقه محمود السعدنى إلى راجل قال عنه طوغان.. أنا يا ابنى ح أعرفك على حتة راجل إنما تحفة.. أى نعم.. تحفة بشرية.. وأديب وكاتب وصحفى وقصاص.. وساعتها رسم السعدنى لهذا الرجل صورة فى خياله جعلت منه شيئًا أشبه بالملائكة.. وظلت فكرة لقاء هذا الملاك تراود السعدنى حتى تحقق الحلم.. وذهب بصحبة طوغان إلى بيت الفنان الشعبى زكريا الحجاوى.. وصعدا إلى الدور الثانى وطرق طوغان الباب وفتح رجل غريب الأطوار.. لفت نظر السعدنى أولًا كنبوشه.. أى شعره الغجرى الذى ينطلق فى كل اتجاه، وكرشه الذى أخذ جلبابه وصنع تورما رهيبا أجبر الجلباب على أن يبرز الكثير من الساقين.. كاد السعدنى أن يطلق ضحكة استنكارية لهيئة الرجل.. ولكن طوغان لاحظ أن هناك كارثة.. فقال على الفور وهو يغمز بعينه للسعدنى الفنان العظيم يا ابنى اللى قولت لك عليه. أستاذنا زكريا الحجاوى أكبر خبير فى الفن الشعبى فى بلدنا.. ورحب الحجاوی بالسعدنى وطوغان.. وبعد أن تناولا وجبة الغداء فول وطعمية وكرات وبصل أخضر وحبسوا بطقم شاى فتح الحجاوى خزانة حكاياته الممتعة والتى لا تنتهى أبدًا والتى يضيف إليها من خياله الرحب ما لا يحدث على الإطلاق فى أرض الواقع، وبعد أن تعددت هذه اللقاءات فى صالون الحجاوى الفكرى، حيث الوليمة الدائمة هى الفول والطعمية وأحيانًا السمك البلطى عندما يكون الله قد فرجها على الحجاوى.

لفت انتباه الحجاوى أن للسعدنى أسلوبًا وروحًا مرحة وقدرة على السخرية.. فسأله.. قريت «ألف ليلة وليلة» فقال السعدنى: لأ.. وهنا طالبه الحجاوى بأن يقرأ هذه المجموعة لأهميتها الشديدة.. وقال.. اسمع يا سعدنى يا ابنى.. أنت موهوب لكن الموهبة لوحدها تبقى زى قلتها لازم تقرأ وتستفيد من اللى بتقرأه.. وبالفعل ذهب السعدنى ليبحث عن ألف ليلة وليلة.. وبسببها ترك كتب المدرسة والتهم كل القصص والحكايات.. وأدرك بعد ذلك أن الحجاوى كان يرغب فى أن يوسع خيال السعدنى لأقصى مدى ممكن بعد أن شعر بأن خياله بالفعل على استعداد للتحليق إلى أبعد مدى يمكن للإنسان أن يصله.