الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

نشر فى روزاليوسف العدد رقم 3363 عام 1992.. فى ذكرى ميلاده الـ98 بخط يده إلى «روزاليوسف»: نزار قبانى لست متعهد جنائز العرب

نزار قبانى ماركة مسجلة للتمرد.



الرقة التى يحنو بها على سطور أشعاره تفجر عنفًا وأكياس دم واندلاعات حرائق فى الوجدان.

والوطن العربى عند نزار قبانى .. جنونه.. وهوسه.. ومرضه.

يضج منه ويفضحه ويعريه ويسب فيه، لكنه - هذا الوطن نفسه - يعيش فى كرات دمه وينهل من رحيق أعصابه.. ويسكن فى خلايا مخه.

لهذا كان طبيعيًا حين تعصف بنا ريح العبث فى العالم العربى، حين نشعر بملابسنا وعقولنا وأعضاء أجسامنا معروضة فى سوق نخاسة، حين ندرك أن العالم من حولنا صار مقفلاً على خيبتنا وتشتتنا وتمزقنا.

كان طبيعيًا - والحال كذلك - أن نلجأ إلى سفينة نزار قبانى .. أن نفر إلى حوت نزار قبانى.. يلقمنا ويفطمنا ونحتمى به.. ونسأله وحين ألقى بنا الحوت على الشاطئ، أبصرنا طريقًا فمشينا (..).

هذا الحوار أجرته لينا مظلوم عام 1992 مع الشاعر الراحل ونشر فى العدد 3363 من مجلة روزاليوسف ونعيد نشره فى ذكرى ميلاده

 لماذا لم نعد نسمع صوتك فى كثير من القضايا.. هل الحب له سن.. والشعر له سن؟ هل الأحداث الدامية المتواصلة المتتالية فوق أدمغة الأمة العربية لا تنزعك من مكمنك؟

- إذا كنت تسألين عن مكانى، فأنا أسكن فى قلب القصيدة.. ولكنى لست مراسلاً حربيًا، ولا موظفًا فى وكالة أنباء.. ولا حانوتيًا.. ولا متعهد جنائز..

ليس من وظائف الشاعر أن يركض فى المظاهرات.. أو يرقص فى الموالد.. أو يلقى قصائد الرثاء فى سرادق الموت العربى.. لأن الموت العربى له مليون سرادق وسرادق وعدد الشعراء فى العالم العربى غير كافٍ لتغطية طقوس الموت، واستقبال المعزين.

لقد تعبت من الجلوس على كرسى خشبى - ثلاثون عامًا فى سرادقات الحزن، أستقبل المهزومين.. وأودع المهزومين.

الآن.. أريد أن أتفرغ لشعر متحرر من كل ما هو سطحى، وزمنى، وإخبارى، وصحافى، أريد أن أغسل جسد الشعر من كل ما علق به من طحالب السياسة، وذباب الأيديولوجيات الكاذبة، ونقيق أنصاف السياسيين وأنصاف الثوريين، وأنصاف المتعلمين.

ربما كنت فى الخمسينيات مأخوذًا بالحلم الجميل.. ولكنى اليوم لا أحلم بشىء.. لأن أحلامى الأولى التى كانت مزيجًا من الأخضر، والأحمر، والأزرق، والبنفسجى، تحولت إلى لوحة ملطخة بالأبيض.. والأسود.

القصيدة اليوم.. هى خطاب بالأبيض والأسود.. والحب.. هو إقليم بين الأبيض والأسود.

والحبيبة.. هى وردة مرسومة بالأبيض والأسود والموسيقى.. تتساقط علينا أمطار من اللون الأسود.

فعلى أى المواد الأولية نشتغل؟

وكيف نمارس لعبة الإبداع، إذا كانت كل الخيارات أمامنا محددة.. بين الرمادى الغامق، والكحلى الغامق، والبنى الغامق.. والتراجيدى الغامق.

أنا لا أستطيع أن أرسم تفاحة إلا إذا لمستها.. ولا أستطيع أن أخترع شمسًا إلا إذا جلست على زجاج مكتبى.. ولا أستطيع أن أتكلم عن عصفور الحرية إلا إذا حط على كتفى، إذ ذاك لا يمكنكم أن تسألوا الشاعر أين أنت؟!

لأن الشاعر ليس سيارة إسعاف مهمتها أن تنقل جرحى الحروب العربية.. ولا سيارة إطفاء مهمتها إطفاء حرائق التاريخ العربى.. وجوابا عن سؤالك أقول: ليس الشعر هو الذى شاخ.. ولا الحب هو الذى شاخ.. ولكن العرب هم الذين شاخوا.

 أنت معركة فى حد ذاتك، معركة أنتجتها حروبك مع العالم كله «سياسيًا وثقافيًا وشعريًا.. ماذا ترى بعد غبار الحروب؟

- لا أومن بشعر لا يحدث ارتجاجًا فى قشرة الكرة الأرضية.. ولا يحدث انقلابًا فى الأفكار السائدة، والقناعات السابقة.

القصيدة عندى هى قنبلة موقوتة لا بُدَّ أن تنفجر فى مدينة ما.. فى شارع ما.. فى رجل ما.. فى امرأة ما.. فى ميدان عام.. فى مدرسة.. فى جامعة.

لا أومن بالقصائد التى تمشى على الصراط المستقيم.. لأن الصراط المستقيم قد يوصلك إلى المدينة الفاضلة، ولكنه لا يوصلك إلى مدينة الشعر.

الشعر العظيم هو «فن الشغب» .. ولأن المتنبى كان مشاغبًا كبيرًا.. صار شاعرًا كبيرًا.. وكذلك كان بودلير، ورامبو، وأبونواس، وعروة بن الورد، وغيرهم من الشعراء الصعاليك.

لقد مشيت خمسين عامًا على حد الخنجر.. ولكنى لم أصرخ.. بل كنت أتلذذ بطعم دمى.

فى شعر الحب رجمونى.. وفى الشعر السياسى جردونى من قوميتى واتهمونى بالشعوبية.. وفى حواراتى التليفزيونية والصحفية.. اتهمونى بمخالفة أنظمة المرور.. وعدم الوقوف على الضوء الأحمر.

ماذا يعنى الضوء الأحمر؟ إننى لا أعرف عملاً إبداعيًا عظيمًا.. وقف على الضوء الأحمر.. ولا أعرف قصيدة عظيمة لثمت يد الخليفة.. بل عضتها.

هذا أنا منذ خمسين عامًا.. أقفز من ضوء أحمر.. إلى ضوء أحمر.. فإذا تصادمت مع المجتمع العربى ألف مرة ومرة.. فلأننى مصاب بعمى الألوان.

 بعد صخب بيروت التى كانت تثير استفزازك الشعرى، اخترت أن تأخذ مفرداتك إلى قمة السكون والهدوء فى سويسرا وأخيرًا لندن.. هل يدخل هذا فى بند متناقضات نزار قبانى؟

- أنا لا أبحث عن الطمأنينة فى أى مكان.. لا فى سويسرا.. ولا فى لندن.. ولا فى باريس.. ولا على شواطئ نيس.. وكان وسان تروبيز.

أنا كما قال المتنبى: «على قلق كأن الريح تحتى».. لأننى أعرف أن الشعر مناقض للسلام، والطمأنينة والاسترخاء. أنا دائمًا متوتر إلى حدود الانفجار.. والمنفى لا يعنى أبدًا الابتعاد عن دائرة النار.. بل ربما يعنى السقوط فيها.

يا رب، إن لكل جرح ساحلا

وأنا جراحاتى بغير سواحل

كل المنافى لا تبدد وحشتى

مادام منفاى الكبير بداخلى

هذان البيتان كنت كتبتهما فى جنيف عام 1989، وهما يؤكدان أن لا البحيرات السويسرية.. ولا الجبال السويسرية ولا الريف البريطانى.. استطاعت أن تأخذ منى قلقى الجميل.

إننى أحمل قلقى معى إلى كل مكان.. كما أحمل طول قامتى ولون عينى.. وإذا أردتم أن تكتبوا لى فاكتبوا لى إلى عنوانى فى شارع القلق.

 خريطة العالم العربى السياسية أصبحت معقدة ومتشابكة حتى بالنسبة لأكثر المحللين السياسيين.. كيف يراها الشاعر نزار قبانى؟

- أنا لا أرى أمامى شيئًا.. لا خريطة.. ولا سياسة.. ولا عالمًا عربيًا.. لذلك لا يمكننى أن أتكلم عن شىء لا أراه.. أو عن عالم عربى متخيل.. أو مفترض.

العالم العربى بعد حرب الخليج هو أضغاث أحلام.. بل هو فراغ غير مملوء بأحد.. وغير مملوء بشىء.

أى كما كانت الدنيا قديمًا.. قبل الانفجار الكبير.. وقبل تكون المحيطات.. والنباتات، والزواحف.. والديناصورات.

منذ نحو عشرة أعوام.. فقدت الملهمة والحبيبة والزوجة والسند، هل وجدت هؤلاء.. ولو فى أى بدائل.. هل نجحت فى استعادة توازنك.. وكيف؟!

- بلقيس امرأة لا تتكرر، بفكرها، بنبلها، بكبريائها.. بحضاراتها، بهدوئها الرسولى، وأنا لم أشغل نفسى فى البحث عن بديل لها، لأننى أعرف أنه لا بديل لها.

أما توازنى بعد غياب بلقيس، فلم أضيعه لحظة واحدة.. فكان لا بُدَّ من الوقوف على قدمى.. حماية لشعرى.. وحماية لأولادى.

إن بلقيس لم تذهب.. فهى موجودة معنا، جسدًا ونفسًا، وقد علمتنا خلال حياتها كيف نكون أقوياء، ومتماسكين، ولاتزال تعلمنا الكثير، حتى بعد رحيلها.

 منذ بدأت المشوار، وأنت تحمل راية الديمقراطية الفكرية، كيف تمارس هذا مع زينب وعمر «أولادك»؟

هل تتدخل كأب وتلغى الشاعر فى القرارات الخاصة أو العاطفية لأى منهما.. كيف تأخذ العلاقات شكلها بينكم؟!

- أرجو أن تطمئنى أن الشاعر هو الذى يحكم بيننا.. وحين يتعارك الأب والشاعر.. فإن الذى ينتصر هو الشعر، والحرية، والديمقراطية.

إننى لا أمارس الازدواجية أبدًا مع زينب وعمر.

فأنا فى حياتى.. كما أنا على ورقة الكتابة.. شخص واحد.

هل من المعقول أن ألعب شخصيتى الدكتور جيكل والمستر هايد.. كما فى مسرحية أوسكار وايلد؟!

فأكون فى النهار شاعرًا رقيقًا.. وأكون فى الليل راسبوتين.. أو شهريار.. أو السياف مسرور!

اعتزاز نزار قبانى بأنه «خلطة حرية» ألا يجعله شوكة فى حلق بعض الأنظمة ويغلق أبوابها فى وجهه؟! ورغم هذا تنجح فى التسلل إلى وجدان الشعوب العربية، كيف تفسر ذلك؟

- ومن قال لك إننى أريد أن أكون فى حلق بعض الأنظمة العربية قطعة شكولاتة.. أو مارون جلاسيه؟! إننى متمسك بلاشرعيتى.. وفخور بها.. ولأننى ممنوع فى كل مكان.. فأنا مقروء فى كل مكان.

ولأن الحكام يطاردوننى.. فإن الشعوب تمنحنى حق اللجوء السياسى.

ولأن الرقباء يقصون أصابعى.. فإن القراء يهدوننى أصابعهم.. ولأن الحدود مقفلة أمامى.. تتولى العصافير نقل كلماتى..

وكما يتسلل عطر الوردة دون أن يطلب إذنًا من أحد.. فإننى أتسلل من تحت الأبواب.. وتحت الوسائد.. وتحت الستائر.. وتحت الضفائر.. وتحت الأساور.

إن قصائدى مطلوبة حية أو ميتة فى كل مكان.. ومع هذا فلن أطلب إعادة محاكمتى.. لأن الشعر دائمًا على حق.. والعصافير لا تطلب أبدًا تأشيرات دخول.

 

الحب فى الأرض بعض من تخيلنا لو لم نجده عليها لاخترعناه» هل تؤمن أن الإنسان يستطيع فعلا اختراع علاقة حب؟

- علاقات الحب ربعها حقيقة، وثلاثة أرباعها من صنع المخيلة.. نحن نشكل المرأة التى نحبها كما نريد، ونخلع عليها من الصفات ما يجعلها كائنًا خرافيًا.. والنساء أيضًا يخترعن أبطالاً من الورق، لا علاقة لهم لا بالرجولة.. ولا بالبطولة.

وربما كان من نعمة العشق أنه يستطيع أن يخترع آلاف الأشياء غير الحقيقية.. ويصدقها.

والشعراء والرسامون، والموسيقيون، والنحاتون، والمسرحيون، والروائيون.. هم أقدر الناس على التركيب، والتجميع، والتكبير، والتصغير.. وخلق عالم مصنوع من ألوان الطيف.

المشكلة الكبرى فى الحب.. أننا حين نعشق لا نستطيع أن نميز بين أصابع حبيبتنا.. وبين أصابع البيانو.. وبين زرقة عينيها.. وزرقة البحر الأبيض المتوسط.. وبين استدارة فمها.. واستدارة حبة الفراولة.

 المادة بكل أشكالها أصبحت تحاصرنا - شئنا أم أبينا - ماذا فعلت بالمشاعر والأحاسيس والحب؟!

- مادامت «الروبوتات» ستتولى كتابة الشعر عنا وممارسة العشق عنا.. فسلام الله على الشعر.. وعلى العشق أيضًا، التكنولوجيا المتقدمة هى قبر الإنسان.. ونهايته.

لقد بالغ الإنسان فى استعمال عقله.. حتى لوث كل شىء.. وسمم كل شىء.. وأهلك الأخضر واليابس.. وما أصدق الشاعر بشارة الخورى حين قال: «ومن العلم ما قتل».

ولا أدرى لماذا أشعر أن الإنسان بكل غروره، ومغامراته، وحماقاته.. هو الذى سيصنع «يوم قيامته».

حتى الكواكب أزعج طمأنينتها.. حتى البحار قتل أسماكها.. حتى إفريقيا صرع أفيالها.. وأهلك زرافاتها.

وهذه الزلازل التى تضرب الكرة الأرضية من حين إلى آخر.. أليس الإنسان هو الذى حرضها.. وهيجها.. وأثار غضبها؟

هذا العصر، هو عصر غاز الخردل، وغاز الأعصاب، والقنابل الانشطارية.. وعصر هيروشيما وتشيرنوبل.

أما العواطف.. والأشواق.. ومكاتيب العشق.. ورائحة شجر الزيزفون.. فتجدينها فى كتب مصطفى لطفى المنفلوطى.