الأحد 16 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
ناصر - حليم - السعدنى .. ليلة بكاء بغداد على موت العندليب "الحلقة 12"

ناصر - حليم - السعدنى .. ليلة بكاء بغداد على موت العندليب "الحلقة 12"

من المآسى التى تعرض لها العندليب الأسمر أنه بما هو باكٍ منه.. محسود.. فقد حسدوه على مرضه عندما ادعوا أنه أقدر أهل الله إنسانًا فى ادعاء المرض.. وفى استغلال المرض المزيف من أجل فتح القلوب التى تستعصى على الحنان والرقة.. نعم حتى قساة القلوب انفطرت قلوبهم على هذا المعجون بالحزن الموعود بالألم الذى صاحبه العذاب ورافقه كما ظلّه فى رحلة الحياة.. إلا قليلاً.



 

 

 

شك أناس لا حدود لهم بأن العندليب يتمارض وعلى هذا الأساس تعاملوا معه ومع الأسف الشديد كان منهم أصدقاء اقتربوا منه كثيرًا.. ولكن لم يستطع أحد منهم أن يكتشف حجم الألم الحقيقى الذى كان العندليب يحبسه بين جنباته. ولكن السعدنى يعلم بحقيقة ما يعانى عبدالحليم حافظ من خلال الزيارات المتكررة لياسين عبدالغفار ومع أن الطبيب كان يلتزم الصمت القاتل بشأن أسرار مرضاه الطبية، فإن حليم صارح الولد الشقى السعدنى الكبير بما كان يفيده الطبيب وتنبئ به التقارير.. وقد كانت الأحوال تسير فى الاتجاه الأسوأ، وكان الزمن هو عدو حليم الأخطر، فقد كان المستقبل يخبئ له أوضاعًا تزيد على قوة تحمل هذا الرقيق كأجنحة الفراشات فلو كتب لهذا الساحر الأعظم فى عالم الطرب أن يعيش بضع سنوات معدودة على أصابع اليدين لكان عليه أن يرضخ لإجراء جراحة شديدة الصعوبة.. فيها كان الجراح سيضع خريطة طريق جديدة لمسار الدم بحيث يتجنب الذهاب إلى الكبد، ولم تكن الجراحة فى حد ذاتها هى الألم الأعظم ولكن تبعات هذه الجراحة كانت كفيلة بأن تجعل حليم يختار بمحض إرادته أن يغادر دنيا الأحياء.. فقد كان على حليم أن يعلم كل التفاصيل.. وعندما عرف أن هناك حالات من الغيبوبة سوف تصيبه فى أى وقت وهو يغنى وهو يتكلم وهو يقود سيارته أحيانا فى شوارع القاهرة ليلا كما كان يحلو له.. بالطبع لو كان حليم إنسانًا اعتياديا لطلب السلامة وطول البقاء ولما مانع فى حدوث مثل هذه الأشياء مادامت أبقت عليه ضمن دنيا الأحياء، ولكن حليم وجد أن الأسطورة قد يصيبها فى مقتل مثل هذه التداعيات، وقد استمعت إلى أسرار هذه العملية لأول مرة من صديقى الجميل الدكتور حسام سعد الدين ونحن فى العراق.. جاء ليزورنى وكان يدرس الطب فى جامعة بغداد وكنت أنا فى المرحلة الثانوية دخلنا شقيقاتى وأمى وأبى وأنا فى حالة من الكآبة والحزن والغم الشديد.. لم أعد قادرًا على النظر حتى إلى منظر الطعام، ورغم الشخط والنطر والصريخ الذى كان الولد الشقى يوجهه إلى شخصى الضعيف من أجل أن أتناول الطعام كنت أشعر أننى أضع فى جوفى «زلط أو طوب»، لم يعد هناك أى طعم للحياة بأكملها، وجاءت جارتى فى العراق «نداء» التى عشقت حليم وأم كلثوم وكادت تسجد باتجاه القاهرة باعتبارها هى بلد الفن فى التلاوة والتفسير والأزهر والفن والثقافة والآداب والعلوم.. أقول امتنعت «نداء» عن الطعام واكتفت بشرب اللبن الرايب، وجاء حسام الذى أصبح واحدًا من أهم الأطباء فى العالم فى تخصص أطفال الأنابيب ليقول لى: هل كنت تقبل بأن يعيش حليم فى حالة من اللاوعى؟ قلت له: نعم، لو كان على قيد الحياة بأى شكل كان الأمر ح يسعدنى.. وهنا كشف لى حسام حقيقة الأحوال التى تلازم المريض إذا خضع لعملية التحويل.. يومها انطفأت بعض النيران فى القلب واستمعت نداء إلى كلام حسام وقررت العودة عن الإضراب عن الطعام، ومعًا وبعد مرور ما يقرب من شهر كامل.. بدأنا نداء وأنا نأكل الملوخية لأنها كما صرح العندليب أحب الأطعمة إلى قلبه!

 

 

 

وما جعل القلب يقسو على شخصى الضعيف ألمًا وحزنًا أننا الولد الشقى السعدنى الكبير وأنا ذهبنا إلى لندن لمدة أيام معدودة بسبب أن شقة السعدنى فى لندن تعرضت لعطب فى السباكة وحدث تسريب للمياه على الشقق فى الأدوار السفلية.

وكان علينا أن نذهب ونسلم المفاتيح للشركة التى تدير البناية.. وحجزنا للعودة إلى العراق.. وقبل السفر ونحن نهم بمغادرة البيت رن جرس التليفون ورد السعدنى واكتشف أن المتحدث هو عبدالحليم حافظ الذى قال للسعدنى: أنت وحشتنى أوى يا محمود وعاوز أشوفك ورحب السعدنى بحرارة عبدالحليم وقال له: على الطلاق أنا نازل على المطار ومعايا أكرم سايب المدرسة علشان كان فى كارثة فى الشقة وأنا رايح العراق، وهنا قاطع حليم السعدنى وهو يقول: يبقى مش ح تلاقينى يا محمود ولا ح تشوفنى.. أنا حاسس إن دى هى النهاية.. وعاد السعدنى ليقول للعندليب: على الطلاق أنت حتعيش 50 سنة كمان.. وانت إللى ح توصلنا المشوار الأخير يا عبدالحليم.. وقال العندليب: أشوفك على الخير دايمًا يا محمود.. سلم لى على هالة واستمع إلى نبرات السعدنى وهو ينهى حواره مع العندليب وقد غلف نبراته حزن لم يستطع السعدنى أن يخفيه وواكب ذلك لمعة فى عينى السعدنى بفضل حزن انطلق من القلب ترجمته العين على شكل دموع حرص السعدنى على أن يخفيها بعيدا عنى.. وعدنا إلى بغداد وبعد أيام وجدت حركة غير طبيعية فى شوارع المنصور ببغداد.. ولم تكن بغداد فى هذه الأيام تعرف التمدد الرأسى.. فكل العراق عمرانه أفقى.. على شكل فيلات ودور لا تزيد على دورين أو الثلاثة فى أقصى ارتفاع.

 

 

 

وجدت بيوت بغداد فى حى المنصور وكأن حدثًا جللاً قد أصاب الناس أجمعين الكل هجر داره وخرج إلى الشارع يتهامسون ويندبون ويبكون خصوصًا البنات اللاتى هن من أجمل ما فى عالمنا العربى من الصنف الناعم.. وجدت نداء جارتنا تهيم على وجهها فى أول الشارع الذى نقطن به فى زقاق المتنبى.. وسألتها: أنا تصورت أن الرئيس أحمد حسن البكر وكان معشوقًا فى العراق الكل يطلق عليه الرئيس الأب.. تصورت أن مكروهًا أصاب البكر.. ولكن نداء بددت كل ظنونى وقالت: عبدالحليم «انطاك عمره»، يعنى عبدالحليم ادى لك عمره.. أحسست أن نداء ألقت بحجر فى صدرى وثقلت حركتى وأحسست أننى أجرجر قدماى فيما تبقى من طريق إلى دارنا.. وبمجرد أن دخلت إلى حديقة البيت وجدت الولد الشقى يجلس على «الكراوتيا» وهو يضع سبابته بين فكيه وينظر فى مكان هو بالتأكيد بعيد آلاف الكيلومترات عن موقعنا.. وبمجرد أن ألقى ببصره على شخصى وكنت قد امتلأت بالغم على رحيل أكثر إنسان أثر على وجدانى ومشاعرى منذ الصبا وحتى يومنا هذا.. وسألت الولد الشقى: هو عبدالحليم مات صحيح؟  : مش عارف.. الناس فى الشارع بيقولوا كده!

ونصحنى الولد الشقى بأن أفتح التليفزيون فسوف يذيعون الخبر بالتأكيد، وبالفعل فتحت المحطات العراقية فلم أجد حتى إشارة واحدة إلى الحدث المفجع الذى نزل كما الصاعقة على عالمنا العربى بأسره، فقد كان حليم هو مطرب الأمة المفضل، ولكن الإعلام العراقى لم يذكر حليم بخير أو بسوء أو يتعرض إلى خبر وفاته من قريب أو بعيد.. وهنا ضرب الولد الشقى كفا بكف عندما جاءت نداء وهى تنتحب وتلطم على خديها ورأسها وتضرب صدرها.. وتقول للولد الشقى: إذاعة إيران العربية أذاعت الخبر الأسود يا أبوأكرم.. وهنا سألنى الولد الشقى أن أحضر جهاز الراديو العجيب الذى نزل فى المتجر الشهير بالعراق واسمه «اورذدى باك» الذى هو معادل لعمر أفندى فى مصر، وكان هذا الراديو روسى الصنع عجيب الشأن تستطيع من خلاله أن تستمتع إلى أى إذاعة فى العالم وكان سعره فى متناول الجميع لا يزيد على العشرة دنانير، أدرنا قرص الراديو أولا على محطات «مونت كارلو»، والـ «بى. بى. سى»، والإذاعة الإيرانية كما نصحنا الجيران.. واكتشفنا صدق الخبر فازداد الألم الذى يعتصر القلب ويحطم الوجدان وارتسمت علامات البؤس والحزن على وجوه العراق بأكمله.. وبالفعل بدأت نشرات الأخبار كلها بإذاعة هذا النبأ الذى انفطرت له قلوب الجميع.. وخيم الحزن على منزلنا وعلى شارعنا وعلى كل الشعب العراقى الذى كان مصرى الهوى فنًا وأدبًا وحتى الرياضة المصرية كان أهل العراق منقسمين ما بين أهلاوى وزملكاوى.. إنه أثر مصر العظيم وشعب مصر الخطير فى محيطه العربى بأسره.