الأربعاء 30 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كدهوّن!: إنت فين يا ليلى؟!

كدهوّن!: إنت فين يا ليلى؟!

بَعد أسبوعين فقط من التعليم on line، لثلاثة أطفال مشاغبات وفى مَراحل دراسية مختلفة، فقدتُ فيها (كأب سينجل) أعَز ما أملُك، وهو عقلى بالإضافة طبعًا لبعض الأمراض الجانبية كضغط وسُوء الهضم وضعف الإبصار ليلًا، من كثرة البَحلقة فى الجداول الدراسية وشاشات الكمبيوتر وكِدَهُوَّن.



 

انفجرتْ فى منزلى شلالات من الضّجر والزّهَق والخنقة لدَى أطفالى الأعزاء؛ بسبب الاستيقاظ مُبكرًا وشُرب اللبن مكروهين، ثم ارتداء الزّى المَدرسى مَغصوبين، لينتهى بهم الحال جالسين متكاسلين أمامَ شاشات الكمبيوتر على ترابيزة السُّفرة يستمعون لمُدرستهم، التى تبذل أقصَى مجهود حتى تسيطر على طلبة أطفال غير مُدركين لهذا الوضع الغريب؛ خصوصًا أن المُدرس لايزال يشرح بنفس الطريقة التى كان يتعامل بها داخل فصل دراسى، بينما أبنائى الطلبة الأعزاء يتبادلون ألعابهم الخاصة بهم من تحت التربيزة (زَى أى عصابة محترفة).

وأصبح علىّ (أنا ولى أمرهم) أن أراقب ما فوق الترابيزة وما تحت الترابيزة؛ لإحكام السيطرة وعودة النظام لمَدرستى الأهلية، التى فُتحت فجأة من دون إرادتى داخل منزلى الصغير، الذى كان هادئًا قبل ظهور تلك الـ«كورونا» اللعينة فوق سطح الأحداث الحياتية، لتقلبها رأسًا على عقب؛ خصوصًا أن أبنائى الطلبة يستغلون فرصة غيابى عنهم فى أى وقت، فيتركون أماكنهم ليجتمعوا تحت الترابيزة فى اجتماع طارئ يتبادلون فيه الألعاب والشوكولاتة، وأحيانًا يأخذون معهم جهاز الكمبيوتر لمشاهدة أفلام كرتون فى هدوء.

يَحدث كل ذلك بينما المُدرس الغلبان يعانى الوحدة والفراغ بمفرده وهو يشرح للمجهول وعندما يكتشف أمْرَ غيابهم، يصيح بأعلى صوته: إنت فين يا ليلى.. إنت فين ياليلى؟!.. وهو لا يَعلم أن هذه الـ«ليلى» الصغيرة أصبحت محترفة نَصب إلكترونى، وتتعمد غلق الصوت حتى لا يصل صوت المُدرس إلى ولى أمرها (إللى هو أنا)، فينكشف المستور وتضطر للعودة للدرس مَرّة أخرَى وكِدَهُوَّن!

طبعًا لا ننسَى أو نتجاهل أيضًا تلك الضغوط النفسية الناتجة عن تفاعلات ومشاركات المماميز، اللاتى حولن اجتماعاتهن من الواتساب إلى الزووم، وأصبحت اللقاءات صوت وصورة، بدلاً من الكتابة ووجع الدماغ.

كما أصبح من المعتاد تدخُّلهم المستمر أثناء الدروس لسؤال المدرس: إحنا فى صفحة كام يا مستر؟، أو فين هى الصورة إللى هانلونها يا ميس؟، وبعض المماميز (بياخدها العَشم بزيادة) فتطلب من المدرس تعنيف أبنائهم لتناول اللبن أو الفطار وسماع الكلام (على اعتبار أن هذا المدرس هو المارد إللى خارج من القمقم وهاينفّذ لها كل أحلامها)، هذا بخلاف فقرة ما قبل بدء الحصة، التى يتعاملون معها  كبديل مباشر للنادى الاجتماعى، ولحَبستهم فى المنزل طيلة النهار لمرافقة أطفالهم أثناء الدروس الـ«أون لاين»، على اعتبار أنها نوع من دعم نفسى للطلبة وفرصة لتبادُل التحيات والأخبار والشائعات والمذكرات إللى يجب أن تطبع على حساب أولياء الأمور.

رغم أننا سبق أن دفعنا كامل المصروفات للمَدرسة بما فيها الكتب المَدرسية (عندما امتنعت عن تصوير تلك المذكرات جاء الرد البليغ من المَدرسة أن المبلغ المدفوع لطبع المذكرات بسيط جدّا ولا يُذكر والظروف حكمت بكده يارخم)، والمثير فى موضوع رفضى طبع المذكرات هذا أن أبنائى الأطفال الأبرياء استغلوها كسبب مقنع لعدم المشاركة التعليمية مع المدرس؛ خصوصًا «أمينة» ابنتى الصغرى، التى تتعمد النظر لى وهى تقول بصوت مرتفع: «بابا ما طبعش الورق يا مستر محمد»، بينما أتشاغل بأى شىء حتى أهرب من نظراتها اللئيمة وكِدَهُوَّن.

أصبت بنوبات هستيرية عنيفة جعلتنى أستيقظ مذعورًا فى منتصف الليل لأتاكد من عدم وجود أى مماميز فى المحيط الفضائى، ولا حتى الافتراضى ولا مُدرسين فاتحين كاميراتهم لمراقبتى داخل منزلى، الذى كان أمان فى يوم من الأيام، والأهم من كل ذلك هو التأكد من ارتدائى كامل ملابسى طيلة اليوم وأثناء النوم (احتياطى ) تحسبًا لأى كبسة أو زيارة فضائية وكِدَهُوَّن.

كان لا بُد من أى تدخُّل سريع لإنقاذ ما تبقَّى من عقلى والعثور على شخص أمين لمشاركتى السيطرة على هذه المَدرسة الأهلية المنزلية، بَعد أن خرج الأمْر من يدى وشاعت الفوضَى والتسيب، فظهرت على الفور فى الصورة بدون أى قصد منها الست أم عباس (إللى بتساعدنى فى البيت)، عندما اقتحمت غرفتى صارخة ومنفعلة جدّا وصارخة بأعلى صوت: «الحق يا أستاذ البنات سايبين الدرس ونايمين على السُّفرة» وكِدَهُوَّن!

توهجت الفكرة فى رأسى: لماذا لا أسند مهمة وكيلة المَدرسة الأهلية للست أم عباس؟.. التى أقدمت على المهمة بقلب مفتوح وعقل (موارب قليلًا) مش مفتوح أوى، وده مفهوم طبعًا؛ نظرًا لثقافتها المحدودة فى مجال التعليم عمومًا، فما بالك بالتعليم الـ«أون لاين»، ولكنها اعتبرتها جزءًا من مَهامّها اليومية كالتنظيف والغسيل والطبيخ وإدخال البنات «أون لاين» فى المواعيد المحددة.

والمفاجأة الحقيقية أنى اكتشفت ذكاءها الفطرى (غير المستخدَم من قبل أو على الأقل معايا)، وقدرتها على السيطرة والتنظيم وعدم خلط المواعيد؛ حيث أخذت الأمر بمنتهى الجدّية والاحتراف، فعلقت الجداول الدراسية ومواعيد كل حصص البنات على حائط الغرفة وكتبت الباسورد بطريقتها الخاصة التى يستحيل على أى مخلوق اختراقها ومعرفتها غيرها، وكِدَهُوَّن.

مازلت أتذكر صياح «أم عباس» بمنتهى الجدية: «عايزين طبلة يا أستاذ بسرعة علشان (مستر) المزيكا بتاع «ليلى» عايزها تطبل حالًا، فانتابتنى نوبة من الضحك الهستيرى من عبثية الموقف فما كان منها إلا أن تركتنى ضاحكًا وأخذت هى علبة تلاجة بلاستيكية وحوّلتها لطبلة، وأعطتها «ليلى» لتتعلم فنون التطبيل على أصوله. وهكذا نجحت «أم عباس» بفطرتها البسيطة، فيما فشلتُ أنا فيه، بما دفعنى للتفكير جدّيّا فى تقديم استقالتى كناظر المَدرسة على طريقة ضمير أبلة حكمت، وترك «أم عباس» تصول وتجول وتحرز أهدافًا داخل مَملكتها الافتراضية، وأتفرّغ أنا للهتاف للعبة الحلوة.