
حسن عيسى
كدهوّن!: «كيس» لكل مواطن
اتفق المصرى المعاصر على الاحتفاظ دائمًا بكيس بلاستك فى متناول يده كحائط صد يغنيه عن سؤال اللئيم وتحسبًا لأى ظرف طارئ قد يتعرض له أثناء معركته اليومية، فلا بد أن يكون جاهزًا لها بالكيس الذى تحول مع الوقت والعشرة لشريك أساسى فى حياة الأسرة المصرية على اختلاف ثقافتها أو مستواها.
غالبًا ما يحتوى هذا الكيس العائلى على أشياء عديدة بداخله لا تمت بأى صلة لتلك الحروف الجميلة ذات الألوان الزاهية الجذابة التى طبعت عليه، فطبيعى جدًا أن يصادفك يوميًا فى طريقك كيس بلاستيك يحمل علامة تجارية لأشهر الماركات العالمية.
إلا أنه قد انتهى به المطاف فى مصر فى يد الحاج محمد والست أم شيماء، حيث تستخدمه كدولاب متحرك تحتفظ بداخله بكل أوراقها الشخصية وصيدليتها الصغيرة ودواء الضغط والسكر وبخاخة الربو بجانب عباية أم فتحى اللى جابتها لها من العمرة وجريدة يومية طلبها منها مجدى ابنها، وهذا بالإضافة لكيس آخر صغير احتفظت به بعناية شديدة فى قاع الكيس الأم تضع فيه بقايا حلة المحشى اللى ها تفوتها على أختها عنايات علشان بتتوحم على صوابع ورق العنب من صنع إيديها، وهكذا يتحول كيس أم شيماء لملخص حياة جمعت فيه شيئًا من كل شىء قبل أن تتخلص منه تمامًا فى نهاية اليوم عندما ينتهى الغرض منه وتلقى به فى عرض الشارع ليحمله الهواء مع الأكياس الأخرى إلى سماء القاهرة وكأنها سرب من الطيور المهاجرة تمضى إلى مصير مجهول.
ولقد اعتاد المصرى المعاصر أن يتعامل مع الكيس البلاستيك كما يتعامل تمامًا مع الحب. هناك من يفتخر به ويظهره للجميع معلنًا عما بداخله فى سعادة وربما فى تفاخر بما يحمله نجد هناك من يخفيه عن الأعين كنوع من الستر حتى لا يرى ما بداخله من متعلقات وأسرار قد تعريه أمام المجتمع وتفضح ملامحه الحقيقية التى يحاول أن يخفيها داخل هذا الكيس، ولعلك تلمس هذه الحالة بوضوح وبمنتهى السهولة إذا قمت بجولة حرة فى فى شوارع المحروسة وليكن ميدان رمسيس خير المثال على ذلك، حيث يجتمع الصعيدى بالبحيرى وباين أخوه البورسعيدى بالباعة المتجولين وصانعى الأكلات الشعبية سريعة التحضير وأصحاب بدلة حمادة بجنيه وعروسة للعيل وكلها بضاعة تنتظر دورها كى توضع داخل كيس وكدهون ستجد كل إنسان يسير وفى يده نوع معين من الأكياس البلاستيك تعكس ملامحه وشخصيته وثقافته ومستواه المالى، حيث إن الكيس البلاستيك أصبح البديل غير الشرعى للحقيبة الجلدية لارتفاع أسعارها بشكل مبالغ فيه ترهق ميزانية البعض وكدهون.
وهناك أيضًا هواية تشترك فيها معظم الأمهات عمومًا على اختلاف مستوياتهم وهى هواية جمع الأكياس المستعملة، خصوصًا تلك الأنواع الفخمة ذات العلامات التجارية المميزة تمامًا كهواية جمع الطوابع قديمًا فنجد الأمهات تحتفظ بأعداد مرعبة من الأكياس المستعملة فوق الدولاب وتحت مرتبة السرير بلا هدف واضح تحت بند أنها حاجات يمكن تنفع وغالبًا مش بتنفع فى أى حاجة غير أنها تتحول مع الوقت لنواة لكركبة منزلية تستمر وتنتشر وتتوغل من جيل لجيل تحمل لنا ذكريات وحكايات جميلة وربما غير جميلة، ولكنها حفرت فى وجدانا كشىء من ريحة الحبايب.
وأتذكر فى طفولتى عندما كنت أذهب لبيت جدتى العتيق بأبوابه الضخمة وسقفه المرتفع كانت تثير خيالى تلك الأكياس الغامضة المرصوصة بعناية فائقة فى غرفة صغيرة يطلق عليها أوضة الخزين لا يدخلها أحد غير جدتى فقط ويمنع من دخولها أى شخص آخر؛ وخصوصًا الأطفال، مما أشعل خيالى الطفولى بما تحتويه هذه الغرفة من أسرار وحكايات ومثيرة تختفى خلف تلك الأكياس لدرجة أنى أتخيلها مليئة بكنوز على بابا والست مرجانة وأموال الأربعين حرامى، وعندما امتلكت الشجاعة لاقتحام تلك الغرفة فى خلسة من الجميع حتى أستحوذ على الكنز بمفردى ودون أن يشاركنى فيه باقى أطفال الأسرة، ووقفت على بابها وهمست: افتح يا سمسم، وطبعًا سمسم ما عبرنيش واضطريت أفتح الباب بنفسى لأكتشف سرها وصدمت عندما وجدتها تحمل أعدادًا مهولة من مجلة «طبيبك الخاص» جمعت داخل أكياس بلاستيك بعد موت جدى واتنست مع الوقت، وهكذا تدمرت أسطورتى الأولى فى أن أستحوذ على كنز على بابا المستخبى فى أوضة الخزين وأتحول لرجل أعمال مشهور وأتجوز الست مرجانة وأنتج لها أفلامًا ومسلسلات كتير، وانتهى بى الحلم الكبير إلى أنى أحمل تلك الأكياس المتربة على كتفى وأحاول أن أبيعها بالكيلو لتاجر الروبابيكيا مقابل حفنة جنيهات قليلة اشتريت بها تذكرة سينما لأشاهد فيلم على بابا والأربعين حرامى علشان أعرف الخطوات المطلوبة للدخول للمغارة دون جدوى طبعًا، وعند خروجى من السينما فاجأنى مطر غزير ولم أجد غير تلك الأكياس التى وضعتها فى جيبى لإخراجها على الفور وأضعها فوق رأسى كشمسية وأجرى بها تحت المطر وماتبلش وكدهون.
ستجد دائمًا علاقة حميميه تجمع المرأة المصرية والكيس البلاستيك تحتفظ به دائمًا بجوار قلبها فهو خزنة أسرارها وجامع أشيائها ومنقذها وقت اللزوم، بالعكس العلاقة عند الرجالة يشوبها حالة من توتر وقلق بدأت منذ أن طلبت منه أمه وهو فى ريعان الشباب وكامل أناقته أن يأخذ كيس الزبالة معاه وهو نازل فى سكتة (ويستمر الأمر مع زوجته بعد ذلك مضافة إليه عدة أكياس أخرى) وكدهون.
لعل أشهر أنواع الأكياس المصرية على الإطلاق ذلك الكيس الذى قررت إحدى الزوجات الرائدات فى هذا المجال تجربته للاحتفاظ بقطع صغيرة من جثة المرحوم جوزها داخل هذا الكيس ليكون مستقره الأخير بعد الذبح والتقطيع وخلافه، ثم قذفت بذلك الكيس بكل قوتها لأقرب صفيحة زبالة ليكون طعامًا مغذيًا لقطط وكلاب الشوارع كصدقة جارية على روح المرحوم، وعندما نجحت تجربتها تم تعميمها على باقى الزوجات القاتلات الحائرات بجثث أزواجهن، ثم خلدتها مدام نبيلة عبيد بعد ذلك فى فيلم سينمائى عظيم، حيث شاهدناها تسير فى منتهى الرقة والعذوبة على شاطئ البحر لتخرج أشلاء زوجها المهدور دمه من داخل الكيس البلاستيك الأسود والمخصص أساسًا لجمع الزبالة فى مشهد رائع يلخص نظرة الزوجة المصرية لزوجها لتلقى به فى عرض البحر ليكون طعام السمك ( بعد أن شبعت منه قطط وكلاب الشوارع) وكدهون، وما زلت أتذكر ذلك المحامى الذى أعاد لى أوراق قضيتى فى كيس بلاستيك، وعندما لاحظ اندهاشى ضحك ضحكة العالم ببواطن الأمور وقال لى: صدقنى كده أضمن كثيرًا بدل ما يقع عليها شوية مية تطمس ملامحها ولا واحد غشيم يحط عليها كوباية شاى أو لا قدر الله تقع منها ورقة وتبقى أزمة كده قضيتك فى أمان، وكل قضية ولها كيسها، وهكذا استلمت كيس قضيتى كاملة نظيفة ومرتبة رغم أنى قد خسرت القضية ذات نفسها، ولكنى كسبت الكيس وكدهون.
وفى زمن الكورونا ذهبت لأسحب مرتبى من ماكينة ATM فوجدت سيدة أنيقة ومحترمة تقف أمامى فى توتر وقلق وتنظر يمين ويسار وفجأة التقطت كيس بلاستيك صغير من حقيبتها ووضعت فيه الفلوس التى سحبتها بالجوانتى البلاستيك، وعندما وجدتنى أتابعها بعيون الفضول ابتسمت وقالت لى فى خجل: أعمل إيه الفلوس دلوقتى كلها جراثيم وميكروبات ماقدرش أتعامل معاها مباشرة ولا أحطها فى شنطتى أنا ماعرفش مين إللى كان مسكها قبلى وكان عنده إيه، علشان كده لازم أحتفظ بها فى كيس بلاستيك وأتخلص منه أول ما أتصرف الفلوس.. ابتسمت لها فى تعالى الحكماء وأنا أتحسس كيس البلاستيك بتاعى إللى فيه ساندوتشات البيض بالبسطرمة إللى عملتها لى مراتى قبل ما أنزل من البيت!