
حسن عيسى
«كدهوّن»! مبروك عليك «الرَّكنة»
فضلت يا «منعم» ألِفّ وأدُور وأرجع تانى أدور وألِفّ فى نفس الدايرة الضيقة قوى دى علشان ألاقى خرم إبرة أركن فيه عربيتى الدايخة من كتر اللف على رَكنة فى شوارع مصر المحروسة على أمل إن ربنا يكرمها وتستقر فى مكان محترم أو نص محترم (لما ببقى مستعجل بضطر أقدم تنازلات وأركن صف تانى وأحيانًا تالت)، وفجأة أثناء طوافى فى الميدان الكبير نوّرت عربية قدّام عينى زى الحلم ولمعت فوانيسها وحسّيت إنها خلاص هاتتحرك وأركن مكانها وأترحم بقى يا «منعم» من لف الشوارع وأشوف مصالحى إللى كنت جاى أخلصها (نسيت من كتر اللف أنا كنت بركن فى الشارع ده ليه) وكِدَهُوَّن.
أخدت وضع الاستعداد وكل تركيزى فى اللحظة دى إنى أدارى على الرَّكنة بعربيتى (الحرب خدعة) علشان أبعد المتطفلين والطامعين فيها؛ لأنى أنا إللى حجزتها الأول (مش هاتنازل عنها أبدًا مَهما يكون)، وفضلت قاعد يا «منعم» مستنّى أن صاحب العربية ده يتحرك مافيش فايدة، الجدع أول ما حَس إنى مستنّى إنه يمشى قرّر يعيش حياته ويعمل كل الحاجات إللى كان مأجلها من الأسبوع إللى فات من أول مسح إزاز النظارة لمسح إزاز العربية وتسريح الشعر لترتيب أوراقه فى الشنطة والتخلص من المخلفات، وكل ده وأنا صابر وساكت لغاية لمّا هو ذات نفسه زهق من نفسه وقرر يمشى ويسيب مكانه (أنا فاهم كويس سبب تصرفاته ومقدّر إحساسه وهو بيسيب مكانه ورَكنته لغيره، ولكنها سُنة الحياة يا «منعم»)، ولسّه هاقوله لو دامت لغيرك ماكانتش جاتلك فوجئت بعربية صغيرة وطائشة جات لى (أنا مش هو) وكانت على وشَك تخبطنى لولا ستر ربنا وهى بتجرى بمنتهى الغشومية علشان تقف قدامى وتلحق تحط إيدها ولا مؤاخذة على رَكنتى، وقبل ما أنزل أتخانق مع صاحب العربية الطائشة وأترحّم على أخلاقيات زمن الرَّكنات الجميل (ما يصحش كده) لاقيتها فعلاً عربية طايشة وبتخبط بدون تمييز فى كل العربيات سيئة الحظ إللى واقفة فى سكّتها، وبجد صعب على أصحاب العربيات المركونة ومش عارفة إنها هاتتخبط من عربية أقرب لـ «توك توك» مقلوب مش نص نقل مثلاً (على الأقل تبقى حادثة تشرَّف)، الغريب بجد أن الراجل إللى سايق العربية الطايشة (رغم أن حجمه قليل ومش باين أوى من العربية) قلبه ميت وطايح ومش مخَلّى عربية إلا وساب بصمته عليها، مرّة يطلع خطوة يمين فيكسر فانوس عربية إللى على يمينه، ومرّة يريح شمال على العربية يطلع برفرف، ولمّا أخد خطوتين قدّام دخل فى العمود ودمّر عربيته وكمّل محاولاته القاتلة الرَّكنة عادى جدّا وكِدَهُوَّن.
من هول ما أرى.. أصحوة الموت أرى أمْ غفلة الحياة (على رأى عبدالحليم) نسيت أنزل أتخانق! كنا بنتريق على رَكنات الستات ييجوا يشوفوا الأفندى ده وهو مشحور كل العربيات، على الأقل الستات عندها ذوق وعمرها ما حاولت تسرق رَكنة حد حاجزها زى «الدُّهول» ده ما عمل معايا وكِدَهُوَّن.
فقت من كلامى مع نفسى على صوت فرملة عالية جدّا وشوفت العربية الطائشة بترجع بضهرها بمنتهى السرعة وتقريبًا قصدتنى أنا المرّة دى؛ لأنى وأنا إللى واقف وراها مباشرة وهايخبطنى فعلاً فشهقت شهقة أعلى من شهقة الملوخية فنزلت من العربية وأنا بزعق بصوت عالى قبل ما أوصل له (الصوت العالى بيجيب نتيجة هايلة فى خناقات الشوارع) وكِدَهُوَّن، وبشوّح بإيدى وبقوله يا أخى لو مش خايف على عربيات الناس حرام عليك عربيتك واللى بتعمله فيها ده؟!
وأخدتنى الجلالة فقلت له: لو مش عارف تسوق انزل أنت وأنا هاركنها لك، رغم إنى دى كانت رَكنتى أنا من الأول وأنت اللى... وقبل ما أكمّل تقطيم سكت الكلام فى زورى بعد ما سمعت صوت ناعم ورفيع جدّا طالع من العربية الطائشة بيصرخ فى وشّى بسرسعة مخيفة: ماهو أنت السبب، لازق فى ظهرى زى الطوبة، مش مخلينى أعرف أتحرك وأركن براحتى خالص (الظاهر أنا انشلّيت) يخيبك يا بعيد هو أنت طلعت واحدة ست؟!
وليّة تقص شعرها قصير أوى كده وقعدة كمشانة فى الكرسى مش باين منها حاجة غير صوت ولسان طويل يا «منعم»، قلت ياواد خليك ذوق معاها برضه السّت مزنوقة، فرسمت ابتسامة سمجة على وشى وقلت لها: طيب اتفضلى انت انزلى من العربية وأنا أركنها بدالك، فتعاملت معايا بحذر على أنى متحرش أو على الأقل مشروع متحرش ما لم يثبت عكس ذلك.. وبسرعة قفلتْ زراير القميص (زى مابتعمل المغتصبات فى السيما) وصرختْ فرجعت لورا خطوتين وفضلت (مخضوض) وهى مكملة وبتصرخ فى وشى: أنت السبب.. أنت السبب.. أنت اللى مش عايزنى أركن من البداية كأنى عدوتك.. وانفجرتْ فى بكاء مرير وعميق (أريد حلاً)، لدرجة أنى فكرت أطبطب على كتفها بس افتكرت موضوع التحرش ده ولمّيت حنّيتى فى صدرى وقلت ياواد اعقل كده وسيبها تتفلق، وفجأة قررت تبطل عياط (باين كنت بكلم نفسى بصوت عالى وسمعتنى وأنا بقول لنفسى خليها تتفلق)، وبصّت لى بَصّة مجانين وشتمتنى بالإنجليزى (الشتيمة بالإنجليزى مش بتلزق على فكرة)، وأخدت عربيتها ومشيت بسرعة وسابت لى الرَّكنة (حقى رجع لى تانى)، وطبعًا مانسيتش قبل ماتمشى تخبط العربية إللى فى وشّها وكِدَهُوَّن.
أصبح لدى الآن رَكنة لعربيتى أخيرًا، هى صحيح ضيّقة قوى بس دمّها خفيف وتشرح القلب الحزين وواخدة ناصية شارع، وبعد ما ركنت بصعوبة بصّيت فى الساعة لقيت الوقت فات والسّبت فات والأحد فات والتعلب فات ومعادى كمان فات وماعدش لها أى لازمة الرَّكنة، بس الصراحة استخسرت أسيبها لغيرى بعد كل البهدلة دى وكِدَهُوَّن!
ولسَّه بفكر أعمل إيه وأستثمر الرَّكنة دى إزاى لاقيت واحد من ضحايا العربية الطايشة وصل وهات يا خناق مع دبّان وشه وهو ماسك وش فانوس عربية وعَمّال يشوّح بيها فى الهوا وبيزغّر لى وتقريبًا شاكك إن أنا اللى خبطتها.. (له حق يشك طبعًا) وكِدَهُوَّن.
وقبل ما يقرّب منّى كنت انطلقت زى الصاروخ فى عكس اتجاه الراجل (الضحية)، وبعد ما عدّيت الشارع قلت أبص عليه من بعيد لقيت مظاهرة من باقى الضحايا وتحوّل الموقف لعنبر العقلاء فى فيلم «إسماعيل يس» والكل بيصرخ وبيلطم وماسك فى خناق التانى.. وفى قمة إحساسى بلذة النصر.. إنى لقيت رَكنة وإن عربيتى سليمة.. لقيت عسكرى المرور سايب كل الخناقات والعربيات المخبوطة ووقف قدام عربيتى أنا بالذات وبيلزق مخالفة على زجاج الشباك، عديت بسرعة كان مشى.. ببص على الورقة مكتوب تعمّد تعطيل حركة المرور.. بعد كل المناورات والتكتيك والكر والفر (أنا إللى عطلت المرور وأزعجت السُّلطات).
كِدَهُوَّن؟!.. طيب!
وعنها.. حلفت لاسيب العربية مركونة فى مكانها وأروّح أنا فى المواصلات العامة يا «منعم»!