السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

مدينة الطالبات "7" .. ليلة في مذبح "الإناث"!

قال العمدة كلماته؛ وهو يجلس أمامى على الكرسى المقابل للأريكة، ثم وقف سريعًا، واتجه نحوى مادًا يده، مقدمًا التهانى لى مرة أخرى، صافحته فى هدوء وثقة، وهمّ منصرفًا بعدما رفض دعوة العجوز لتناول العشاء؛ رغم إصرارها، بسبب موعد مهم فى انتظاره، وفجأة بقيت مع السفاحة بين أربعة جدران.. كنت مرهقة جدًا، لا أتفوه بكلمة، واكتفيت برفع قدمى على الأريكة، وجلست القرفصاء، بينما عادت الممرضة إلى مطبخها.



 

وبعد ثوانٍ معدودة، عادت تحمل صينية مستديرة، وكبيرة، وطالبتنى بمساعدتها فى إنزال الصحون على الطاولة القابعة أمامى.. ما هذا الكرم يا امرأة، إنها تقدم كل ما فى مطبخها، حمام ودجاج وبط ولحم.. أهذه الوليمة لى وحدى، لم يهتم أحد بى هكذا بعد أمى.. ورغم جوعى الشديد تماسكت، وأخفيت نهمى للطعام بشدة، لأجدها تستحلفنى بالله أن أأكل جيدًا، بل وتناولنى اللحم بإصرار، وتكاد أن تطعمنى فى فمى.

يكفينى القول إن تلك اللحظات عوضتنى عن حنان عام بأكمله، منذ رحيل أمى،  لكنها بالطبع لا تقارن بلحظة واحدة قضيتها فى أحضان جنتى على الأرض، قبل أن أنتقل للجحيم بفراقها.. على أى حال استمرت العجوز جالسة بجانبى، تتابعنى عن كثب، ولا تتفوه ببنت شفه، وبقى الوضع هكذا لمدة دقائق، حتى انتهيت من الطعام، لكنها أبت أن تجعلنى أنهض إلا بعد أكل حمامة كاملة، تبًا لهذا الحنان الذى كاد يفجر زائدتى.

نهضت من المائدة بأعجوبة، وهى تستحلفنى بالاستمرار فى الطعام، إلى أن يئست ودلتنى على مكان الحمام لأغسل يديّ، كان فى بداية الطرقة الطويلة؛ التى تنتهى بها الصالة، دخلته على عجل؛ كمن وجد بئر ماءٍ فى عمق الصحراء، وبعد دقائق خرجت بهدوء عائدة إلى الأريكة، وما إن جلست حتى وجدت العجوز تخرج من المطبخ، وهى تقول: «قومى نامى وارتاحى». أحسست بأننى غريقة يلقى لها طوق النجاة، أخيرًا حرص أحد على راحتى،  لأجدنى أسأل فى ارتباك وتلهف: «أقوم فين؟!»، وبعدها سمعت العجب!

وقفت أمامى، وقالت: «تعالى معايا». تبعتها دون أن أفكر، أتلهف إلى أن أمدد جسدى، لأجدها ترفع صوتها مرة أخرى، وتقول: «نورتِ البيت». لا أخفى عليكم أن هذا الترحيب كان جديدًا عليّ، يمكن أن تروه عاديًا، لكنه لم يكن كذلك أبدًا بالنسبة لصبية قروية ساذجة وحزينة، لم تر ترحيبًا بها فى الحياة؛ منذ موت أمها.. لذلك ابتسمت وقتها بسعادة؛ وكأننى نسيت أننى أسير نحو تلك الغرفة؛ التى شهدت قبل سنوات، جريمة اغتيالى.

يا ويلتى.. تذكرت فجأة تفاصيل ما جرى، تبدل إحساسى فى لحظة، وضاعت ابتسامتى، عندما استوعبت أننى أخطو نحو غرفة الإعدام، وأقترب من عشماوى الإناث، حتى فتحت العجوز الباب، يا للرعب، سأرى السرير الحديدى الصغير، المشابه للذى أنام عليه فى بيتنا، وسرعان ما مر على عينى بريق مشرطها، مثلما لمع بين ساقيّ يوم الجريمة.

كدت أنهار لكننى انبهرت سريعًا؛ فور عبورى باب الغرفة، إذ وقع نظرى على سرير مستفيض، ودولاب أنيق، وسجادة فاخرة.. «تلك العجوز كسبت الكثير؛ من وراء هتك أنوثة بنات قريتنا».. هكذا قلت بينى وبين نفسى المتألمة المتهكمة؛ عندما دخلت الغرفة.

أبدًا ما رأيت فى حياتي- حتى اللحظة التى دخلت فيها تلك الغرفة - ذلك الأثاث الأنيق الذى وجدته وسط جدرانها، فأنا لم أدخل إلا منازل أعمامى وعماتى، حتى هذه توقفت عن الذهاب إليها؛ بعدما قاطعت العائلة أبى،  بسبب حادث الحقل الشهير؛ عقب ضبطه فى أحضان ساقطة بداخله، فمن وقتها لم أرَ غير منزلى المتواضع، وغرفتى الصغيرة، حتى وصلت إلى بيت تلك العجوز، لذلك انبهرت بما رأيت، خاصة أن كل التفاصيل كانت جميلة، وتتنافى جدًا مع غرفة الإعدام التى رأيتها بين نفس الجدران، يومًا ما.

لكن هذا الانبهار لم يُنسنى مأساتى هنا؛ قبل سنوات.. فهذه المجرمة قتلت إحساسى،  آذتنى نفسيًا، وحطمتنى، وجعلتنى أكره أنوثتى.. تصوروا أننى حتى السابعة عشرة ربيعًا، كنت أتجنب النظر إلى جسدى،  ولا أعلم أى شيء؛ سوى تلك الدماء التى تتساقط منه شهريًا.. كم كرهت نفسى، منذ أن أشهرت هذه السيدة مشرطها فى وجهى.

تماسكت بعد دخولى للغرفة، كان الإرهاق يطعن أرجائى، ورأسى يجتاحه صداع سخيف، وعقلى يكاد ينفجر، لدرجة أننى لم أطق النظر لضوء المصباح، وجدت نفسى أجلس على السرير، وأضع حقيبة ظهرى بجانبى، ولا أبالى بالعجوز، التى كانت تغلق باب شرفة الغرفة حينها، ولحسن الحظ كان السرير بموضع مختلف؛ عن الذى استلقيت عليه يوم ختانى.. يا إلهى، كم بنتًا صرخت فى هذه الغرفة، وقُتِلت معنويًا باسم العفة، كم شبحًا سيطاردنى داخل ذلك البيت، اللهم هون.

وجدت الممرضة العجوز تقترب منى،  وفى عينيها نظرات عطف وحنان، قالت: «نامى وارتاحى». نظرت إليها بعدم مبالاة، لأجدها تضيف: «حاسة إنك متضايقة مني؟». توترت وتصبب عرقى فجأة، كيف أقابل إحسانها بهذه القسوة؟ سألت نفسى هذا السؤال، كنت أعلم الإجابة بالطبع، إلا أننى أصبحت مجبرة على المواجهة.. فلا أستطيع إخفاء ما بداخلى أكثر من ذلك، نظرت إليها بتحدٍ، وسألتها: «ناسية إللى عملتيه فيّ؟!» وجدتها تضحك بسخرية، وكأن ما فعلته كان لهوًا، وسرعان ما فجّرت المفاجأة.

قالت العجوز: «يا بنتى،  أنا وعيت على الدنيا لقيت الطهارة، مفيش بنت فلتت منها فى بلدنا». ثم سقطت دموعها فجأة، وهى تضيف: «لكن اللى عملته كان السبب فى سجنى، ومن وقتها تبت عنه». وبقدر ما سعدت بتوبة هذه السفاحة عن جرائمها، وفرحت بأننى لن أسمع صراخ طفلة فى ذلك البيت؛ طوال مكوثى فيه، تألم قلبى كثيرًا من دموع العجوز، رغم شعورى فى تلك اللحظة فقط، بأن الزمن قد اقتص لأنوثتى المغتالة.

صمت، وتجمدت من تناقض مشاعرى،  لأجد العجوز تسحب نفسها من الغرفة بهدوء، غير مبالية برد فعلى عما قالت، وأغلقت الباب بقوة، لأبدأ أول ليلة فى مملكتى الجديدة، هذه الغرفة لى وحدى،  كانت ضعف مساحة غرفتى الصغيرة فى بيتنا، ومنظمة جدًا.. مددت قدميّ على السرير، وحلّقت بعينى فى السقف، للأسف لم يختلف مظهره عن يوم الجريمة، لذلك أغمضت سريعًا، وتقلبت على جانبى.

كنت أخشى أن يزورنى الكابوس المتكرر، وأفيق من النوم على صرخة، هربًا من بريق المشرط بين ساقيّ.. فهذا المشهد تكرر كثيرًا فى أحلامى، وأفزع أمى أكثر؛ كلما جرت على غرفتى، لتعرف سبب الصرخة التى أطلقتها دون مقدمات، لأخبرها بأن طهارتى ما زالت تؤرق منامى، ومشرط العجوز يستمر فى إيلامى.. كانت أمى تستقبل كلماتى بالبكاء، وتطلب منى أن أسامحها على اشتراكها فى تلك الجريمة، وهو ما كنت أقابله بقبلة على جبينها، وأنا أقول: «عارفة إنه كان غصب عنك».

خشيتى الحقيقية، كانت خوفًا من استيقاظى على ذات الكابوس، وأنا فى نفس مكان وقوع الجريمة، ووقتها بالطبع لن أفيق منه أبدًا؛ فإذا صرخت للهرب منه، سأصحو على صورة سقف الغرفة، الذى كنت أصرخ فى منامى وأنا أنظر إليه، وبريق المشرط يحاصر عينى،  لكن الله لم يدخلنى فى تلك الدوامة، بالعكس تمامًا، نمت بهدوء واستمتاع، على السرير المستفيض، الذى يضاعف مساحة سريرى،  حتى استيقظت على صوت العجوز، الحنون. فتحت عينى على ابتسامتها، وهى تبشرنى بأن مدير مدرستى ينتظرنى فى الصالة، لكى يأخذنى إلى القاهرة لمقابلة الوزير، حاولت الإفاقة أكثر، داعبت عينى بأناملى،  ثم طرت من أعلى السرير.. لا أبالغ فى طيرانى،  لم أعتنِ حتى بلبس حجابى.. وتوجهت إلى الحمام، ضربت وجهى بالماء سريعًا، ونظرت إلى المرآة: «يا حزني؟! كيف سأسافر إلى مصر بهذه العباءة المتسخة؟». 

 

يتبع