الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

مدينة الطالبات مرآة الحب العمياء!

لملمتُ ملابسى فى حقيبة ظَهْر كبيرة، وجميلة، لاتزال علامة على ذوق أمّى،  اشترتها قبل عامَيْن، عندما قررتْ السفر معى إلى الفيوم، كى ترينى البلد الذى ترعرعت فيه، قبل أن يأكل أبى عقلها ويرهن قلبها.. أعلم أنها كذبت على والدى فى تلك السفرية، قالت إننا سنذهب إلى القاهرة، لزيارة الأولياء الصالحين، مثلما كانت تفعل مرتين أو ثلاثًا سنويّا، وتأخذنى فى يدها إلى هناك، لأراها تبكى بحرقة أمام مقامات الحسين والسيدة عائشة وأمّ العواجز، تدعو الله أن يجبر بخاطرنا، وتطلب منهم المَدد، وتتبرّك بهم، وكان ربى كريمًا.



 

والحقيقة أن بلدة أمّى كانت ساحرة، ومفاجأتها لى أيضًا، إذ لم أعلم أننا سنتجه للفيوم، إلا بعد وصولنا للقاهرة فى السابعة صباحًا.. خافت أن تخبرنى فأخشى الكذب على أبى،  كانت تعلم أننى لا أعرف الكذب، وقد أكلفها فى سبيل صدقى كثيرًا، رُغم أنها كذبت لإسعادى؛ حتى تكافئنى على تفوقى فى الشهادة الإعدادية.

وجاءت المفاجأة، حين وجدتها تحتضننى بشدة فى موقف الجيزة، وتقول لى إننا سنذهب إلى بلدها الحبيب، وهى تبكى، وبقدر ما فرحت بمكافأتها؛ شعرت بحزنها الدفين على فراق أهلها، وحنينها لرؤية أماكن ذكرياتها، مَهما تكلف الأمر، وكأنها أمّ سجينة حصلت على حريتها للتو، وتتلهف لرؤية أبنائها بعد سنوات من الحرمان.

كان هذا موجعًا جدّا، رُغم فرحتى بالرحلة المفاجئة، التى أخذتنى بعيدًا عن خزينة أحزانى بالقرية، لذلك هرولت أسأل فى الموقف، عن السيارات المتجهة للفيوم، وسرعان ما قفزنا إلى واحدة، وبعد ساعة ونصف الساعة؛ كنا على شاطئ بُحيرة قارون فى تمام الثامنة والنصف، لأرى لأول مرة السماء تحتضن المياه فى نطاق غير محدود، ولو أننى اعتدت على رؤية نهر النيل؛ لكن تلك المياه الواسعة لم أرَها إلا فى التليفزيون.

لا أتذكر أننى انبهرت بشىء قدر انبهارى بهذا المشهد، الذى تتعانق فيه الطبيعة كلها، الجماد والنبات والبشر؛ فى صورة بديعة تشارك فيها الطيور بالتحليق، بينما السحب المبهجة الهادئة تبتسم لأطفال داخل البحيرة؛ يتخذون من جذوع الأشجار مَراكب، أو يحتمون بإطار كاوتشوك، ويمارسون الصيد بصبر ودأب، وكأن هناك أفواهًا جائعة تنتظرهم على الشاطئ، ويشهد الله أننى لم أرَ أجمل من ذلك، رُغم أننى سافرت بعد سنوات طويلة من هذا اليوم؛ إلى بيروت.. لا تقلقوا؛ سأحكى لكم كل شىء!



المهم أننى لم أغلق فمى طوال الرحلة، من الانبهار الذى سيطر على عقلى وروحى، فلا أنسَى عندما طرت فرحًا حين وصلنا للمحطة الثانية فى رحلتى؛ وادى الريان، كان المشهد بديعًا، المياه تجرى فى شلال كبير، وتتلون فى طريقها للقاع، تمُر على الصخر والعُشب، وتتحدى كل شىء أمامها.. جلست القرفصاء بجوار أمّى، وأخرجت لفافة الطعام من حقيبة الظهر الأنيقة؛ لنأكل بهدوء واستمتاع، ورُغم الدموع التى كانت تصرخ للخروج من عينيها، منذ وصولنا للفيوم؛ فإنها أبت السقوط، فى بئر الذكريات.

فهناك بدأت أمّى حياتها، وأنهتها أيضًا؛ بمجرد اتخاذها القرار الصعب، والمهلك، عندما تحدت أهلها فى سبيل الزواج بوالدى،  الذى كان شابّا وسيمًا وجذابًا، يعمل سائقًا فى شركة سياحة، وشاء القدر أن يلتقى أمّى الجميلة فى مَقر عملها، فندق البوريفاج، أشهَر الفنادق على شاطئ قارون؛ حيث كانت محاسبة متواضعة، تحمل شهادة الثانوية التجارية، إلا أن الحب أعماها، لتتزوج هذا الأمىّ الأنيق، الذى يحفظ عن ظهر قلب؛ القليل جدّا من الإنجليزية، أو كما كان يقول عنهم: «كلمتين لزوم الشغل».

ولأن مرآة الحب عمياء، لم ترَ أمّى مساوئ هذا الرجل، المستعد لأن يضحى بكل غالٍ، فى سبيل شهوته، حتى إنها كانت سببًا فى فصله من الشركة، بعدما حاول التحرش بإحدى السائحات، خلال رحلته الأخيرة فى مسيرة عمله؛ إلى الأقصر، عقب زواجه من أمّى بعام واحد؛ رُغم أنها تحدت الجميع من أجل الزواج به، بسبب سمعته السيئة وأمّيته.

ومع الأيام، استمرت سوءات والدى؛  حيث تفرّغ لاستغلال وسامته فى إغواء النساء، وتوالت فضائحه بالقرية، يكفى أنهم وجدوه يومًا فى أحضان ساقطة داخل الزراعات، ليخرجه جيراننا بالقرية عاريًا من الحقل، ويوبّخوه بكل ما أوتوا من عنف وقسوة، إلا أنه لم يرتدع أبدًا، وواصل السير نحو العاهرات والركض وراء الراقصات، لينفق عليهن ميراثه بالكامل، بعدما باع نصيبه المتواضع من أرض والده؛ بتراب الفلوس.

أطلتُ الحديث عن رحلتى للفيوم، لكننى تذكرت كل تفاصيلها عندما أمسكت بهذه الحقيبة؛ فى غرفتى بعد صفعة والدى،  التى كادت تقلع أسنانى، وابتسمت جدّا رُغم الأسَى، عندما عاد لذهنى مشهد أمّى؛ وهى تركض وراء القطار المتجه إلى الزقازيق، من محطة مصر، بعد عودتنا للقاهرة الساعة الرابعة عصرًا، فى نهاية لرحلتنا البديعة.

كانت والدتى تصر على أن نعود لقريتنا المجاورة لمنيا القمح قبل الغروب؛ وكادت أن تسقط على الرصيف، لولا ستر الله، بعدما علمت أن القطار سينطلق بعد دقيقة واحدة من المحطة، لأجدها تمسك يدى وتهرول نحوه، وكأنها فتاة بالسادسة عشرة فى سباق عَدْو، وفجأة تعثرت قدماها، إلا أننى استطعت إنقاذها من السقوط بأعجوبة، والغريب أننا وصلنا للقطار قبل الدقيقة الواحدة، لكنه أبَى التحرك إلا بعد نصف ساعة كاملة، يا الله على براءة أمى؛ ألم تكن تعلم أننا فى محطة مصر؟!



الضحكة التى ارتسمت على وجهى،  عندما تذكرت هذا المشهد، انتهت بألم بشع فى أسنانى،  اللعنة على تلك الصفعة، قسوة أبى لا يتحملها بشر، لكننى عندما واجهته أمام الملأ، حققت انتصارًا تاريخيّا لكرامة أمّى،  وطموحى،  وحلمى الذى بدأ يتحول إلى واقع ملموس، بعد خروجى من غرفتى بدقائق، محدقة فى أعين الجميع بإصرار، وكأننى أقول: لن يقف أحد فى طريقى بعد الآن.

لكننى كنت على موعد مع مفاجأة أخرى، خرج مدير مدرستى من وسط الجمع، مجتازًا الصحفيين والجيران فى ثوانٍ، ثم رفع يده للجميع ممسكًا بهاتفه، قائلًا: معالى الوزير على التليفون.. اتسعت عيناى بسعادة خيالية، أردت أن أصرخ: الوزير يريد تهنئتى يا ناس.. لكننى تماسكت والتقطت الهاتف سريعًا، وبحثت عن عينىّ والدى،  أردت أن أرى نظرته فى هذه اللحظة، لم أجده، وكأنه انسحب من معركة خاسرة، هربًا من نظراتى المتحدية لقسوته، وسمعت الوزير يقول: ألف مبروك يا ندَى، لكل مجتهد نصيب.

تدافعت كلماتى للرد عليه، أعلم جيدًا أنه لم يفهم منها شيئًا؛ لأنها خرجت بأضعاف سرعة صوتى،  وسط زغاريد انطلقت كالمَدافع من نساء قريتنا، اللاتى شاء القدر أن يصل إليهن النبأ بسرعة البَرق، ليتوافدن على منزلى المتواضع، الضيق جدّا، ويتزاحمن لتقديم التهانى،  بعد انتهاء مكالمة الوزير، لدرجة كادت تصيبنى بالاختناق؛ من ضيق تنفسى،  لكنه كان اختناقًا لذيذًا.

وسرعان ما تقدّم العمدة لحسم لحظاتى الفارقة، أمرنى بحَمل حقيبتى واتباعه، وسمعت زوجة أبى ترفع صوتها: فى ستين ألف داهية.. لم ألتفت إليها، وبدأتُ أخطو وسط الناس بثبات، والحقيبة على ظهرى،  حتى خرجت من البيت وسط عشرات التهانى، والمباركات، فالكل متعجب مما حدث، سمعت أحدهم يرمى كلامًا، قائلًا: يخلق من ظهر الفاسد عالم.. لم ألتفت له أيضًا، كنت أشعر بأننى أقف على قمة جبل، لا أرى الخَلق فى الأسفل، لهذا أسرعت بخُطاى،  واضعة عينى على الأرض، متابعة بصعوبة خطوات العُمدة.

ينتهى شارع، ليبدأ آخر، والجميع يصيح بعبارات التهانى كلما خطوت بقدمىّ، فالخبر انتشر بالقرية؛ كالنار فى الهشيم، وأنا أفكر فى شىء واحد: أين سأنام هذه الليلة؟ على أية وسادة سأضع رأسى المتصدع؟ ولا أجد جوابًا.. سيطر الغموض على المشهد الضبابى؛  ليزيده سوادًا، لكننى على أى حال كنت متفائلة، على الأقل حلمى سيتحقق قريبًا جدّا، سألتحق بكلية الإعلام، وأطل على الجميع من شاشة التليفزيون.. سينبهرون بى حقّا، هكذا كنت أصبِّر نفسى؛ متهكمة على حالى!. 

(يتبع)