الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

رأس «الغنوشي» الطائر

فى أول زيارة له إلى أمريكا واجه أحد الصحفيين «عبد الفتاح مورو» نائب رئيس حركة «النهضة» التونسية السابق بسؤال: ما الذى بقى ثابتاً فى الحركة بعد كل هذه السنوات الطويلة؟ أجاب «مورو» بطريقته الفكاهية: «ثلاثة أشياء لم يمسسها التغيير وهي: اسم الحركة، ورئيسها، وأخيرًا جبتى هذه».



 

إجابة «مورو» تنطوى على بعض المزاح وكل الحقيقة، فميلاد «الحركة» التونسية فى مطلع السبعينيات كأحد فروع تنظيم «الإخوان» الدولى جاء على يد «المهندس الزراعي» راشد الغنوشى الذى قدم له أعضاؤها المؤسسون وقتها «البيعة» التى بمقتضاها أصبح «قائد الحركة» وممثلها والناطق باسمها.

عبر تاريخها الممتد شهدت الحركة أزمات وصراعات داخلية عدة، وكان الاعتراض على دور الغنوشى و«صلاحياته الواسعة» أحد أبرز عوامل الخلاف أحيانًا، ورغم ذلك كان «القائد المفوه» فى كل مرة يخرج منتصراً.. عندما قامت «ثورة الياسمين» وفور عودته من لندن بادر الرجل بإعلان نيته عدم تحمّل أى مسئولية سواء داخل الحركة أو فى «دولاب الدولة»، وأنه سيكتفى بدوره كـ«مثقف ومصلح اجتماعي». 

لم يكن «الغنوشي» بذلك يتخلى عن حلمه القديم ولا يغير خطته كما ظن بعض السذج وحسنو النية، وإنما كان هذا التصريح بمثابة قنبلة دخان ألقاها «الرجل العجوز» فى وجه خصومه حتى يتمكن من الإلمام بخيوط الحركة وضبط موازين القوى داخلها، وعندما اعترض عليه بعض القيادات داخل الحركة لوح بالاستقالة وملازمة بيته فى محاولة للضغط عاطفياً على «أبنائه»، وبالفعل نجحت الخطة كما رسمها.  

قبل أيام واجه الغنوشى أصعب اختبار فى علاقته بـ«النهضة» متمثلًا فى اللائحة التى وقعها 100 قيادى بالحركة يطالبونه فيها بالتعهد مسبقاً بعدم خرق النظام الداخلى أو تعديل الفصل الحادى والثلاثين منه والذى يمنع أى عضو من تولى رئاسة الحركة لأكثر من دورتين متتاليتين.

العريضة التى وجدت طريقها للإعلام أحدثت رجة قوية ليس داخل «النهضة» فحسب وإنما داخل الغنوشى نفسه، فالذين وقّعوها لكل منهم اسمه وإسهامه فى تاريخ الحركة، كما أنهم جميعا جنبوا خلافاتهم والتقوا حول هدف واحد وهو إبعاده عن مقعد القيادة. 

اليوم يطالبه من وقفوا بجانبه تاريخيًا باحترام العهد الذى قطعه على نفسه بعدم ترك المجال مفتوحاً أمام رئاسة الحركة مدى الحياة، ولم لا وهو من سبق وادعى قبل سنوات أنه لم يبق له شيء كثير فى السياسة، وأن العالم الإسلامى واسع بما فيه الكفاية ليحاضر فيه. خلال رسالة سربت بعد تداول لائحة الـ100 قيادى أكد الغنوشى رفضه الإعلان عن عدم ترشحه لرئاسة الحركة خلال المؤتمر القادم، معتبراً «أن ما يسرى على الدول لا يسرى على الأحزاب»، قائلاً إنه «زعيم استثنائى وجلده خشن»، وليست المشكلة هنا فى معرفة إذا ما كانت الرسالة تضمنت تعقيباً على مبادرة المائة قيادي، كتبها  الغنوشى بنفسه أم أنها منسوبة إليه، إنّما فى درجة تعلّق الرجل بالحركة التى يرى فيها قطعة منه، وهو غير مستعدّ للتخلى عنها أو التنازل عن قيادتها. 

 

محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه

 

قد يرى بعض المراقبين فيما يحدث داخل «النهضة» حراكا داخليًا، لكن الحقيقة خلاف ذلك، فمستقبل الإخوان فى تونس بات على المحك فعليًا، فهذا أحد الموقعين على الرسالة وهو عبداللطيف المكى وزير الصحة السابق يحذر فى مداخلة له على «الإذاعة الوطنية» مما سمّاه «الدفع نحو مناطق خطرة» ويقول إن ما يحدث اليوم داخل النهضة هو «حركية وليس انشقاقا»، لكنه لم يستبعد سيناريو الانشقاق، الذى قال إنه سيكون خطيرًا على الحركة، إذا تمسك الغنوشى بتعديل القانون الداخلى أو قرر تأجيل المؤتمر القادم المقرر عقده نهاية العام الجاري.

وإذا كان الموقعون على العريضة الرافضة لبقاء الغنوشى على رأس الحركة يحاولون تسويقَ مبادئ الحركة ونظامها الداخلى كمبرر لتوجههم فإنهم يكتمون ما هو أهم، وهو أن منحاهم هذا يهدف لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من شعبية الحركة التى تهاوت على وقع الفشل الحزبى والبرلمانى والوطنى الذى بات جليًا للجميع داخل تونس وخارجها. 

النتائج التى انتهى إليها أحدث استطلاع للرأى أجرته مؤسسة «سيجما كونساي» المتخصصة هذا الشهر تؤكد ذلك، راشد الغنوشى تصدّر قائمة أسوأ السياسيين فى تونس واختاره 68 % ممن شاركوا فى الاستطلاع كأكثر شخصية سياسية فى البلاد لا يثقون فيها ولا يريدون منها أن تلعب دوراً سياسيًا، وهذه المرة السادسة على التوالى التى يتصدر فيها رئيس البرلمان التونسى قائمة الشخصيات السياسية الأدنى ثقة لدى المواطنين. 

استطلاع الرأى أظهر حفاظ الحزب الدستورى الحر على صدارة نوايا التصويت فى الانتخابات التشريعية المقبلة بنسبة 27.2 %، فيما جاءت حركة النهضة فى المرتبة الثانية بـ23.6 %، يليها حزب قلب تونس بـ11.4 %، ثم التيار الديمقراطى بـ5.6 %، وأخيرا ائتلاف الكرامة فى المرتبة الخامسة بـ5.5 %، فيما لم يكشف 65.6 فى المئة من الذين استطلع آراؤهم عن نوايا تصويتهم بعد.

 

حركة تحمل عناصر فنائها

 

يرجع التهاوى الذى أصاب الغنوشى وحركته إلى عدة أسباب بعضها يتعلق بالحركة نفسها وبعضها يتصل بالسياق المحلى والإقليمي، فعلى صعيد الحركة فإنها تحمل عناصر فنائها فى داخلها ومنذ تصدرهم للمشهد العام تعرضت شعاراتهم التى طالما نادوا بها بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان لأقوى اختبار كذب وفضحت ممارساتهم سواء داخل البرلمان أو على المستوى الحكومى بسعيهم للاستيلاء على السلطة بأى وسيلة، وتقديم مصلحة التنظيم الدولى على حساب المصالح الوطنية للشعب التونسي.

بوضوح يمكن القول أن المزاج العام بات رافضًا لسياسات حركة النهضة على المستويين الداخلى والخارجي، ولعل ردود الفعل الغاضبة على زيارات الغنوشى لتركيا ولقائه برجب إردوغان ومحاولاته جرّ أقدام تونس إلى مواقف تتماهى مع رغبات الإخوان، خير دليل على حجم الاحتقان الذى يعيشه التونسيون ضد الجماعة بفروعها المختلفة.

بالتأكيد ساعد على ذلك وقوف الحركة جنبا إلى جنب مع التنظيمات الإرهابية التى تنتشر على الحدود الجنوبية لتونس وتعاونها معهم فى نقل السلاح إلى المرتزقة داخل ليبيا وهو ما يمثل أحد أهم التحديات والتهديدات الأمنية التى تواجه السلطات التونسية، التى تتوجس من عودة نشاط الجماعات الإرهابية فى البلاد، وتشعر بالقلق من اضطراب الأوضاع فى ليبيا.

 

من حفر حفرة للرئيس وقع فيها

 

انسياق الغنوشى وحركته وراء الأجندة الإخوانية جعلهم هدفًا سهلًا فى مرمى نيران رئيسة كتلة الحزب الدستورى الحر «عبير موسي» التى عطلت كثيرًا مخططات رئيس مجلس النواب لـ«أخونة المجلس وتونس»، وفى لقاء صحفى أكدت أنها عرقلت سعى الغنوشى أيضًا «للاستيلاء على صلاحيات رئيس الجمهورية، وتمرير الاتفاقيات التركية»، ودعت النيابة العمومية إلى فتح جميع القضايا، خاصة التى حركها الحزب الدستورى الحر ضد الغنوشي. 

كان الغنوشى قد دخل فى صراع مكتوم ما لبث أن خرج للعلن ضد الرئيس التونسى قيس سعيد حول صلاحيات كل منهما، بل وسعى لسحب الثقة من الرئيس برلمانيًا، فما كان من قيس سعيد إلا أن أقنع رئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ بتقديم استقالته، لإعادة المبادرة لقصر قرطاج وقطع الطريق أمام نوايا حركة النهضة وحزب قلب تونس لتجميع توقيعات لسحب الثقة منه، وبدلًا من سحب الثقة من الرئيس جرى التصويت داخل البرلمان لسحب الثقة من الغنوشى لكنه أفلت من سيناريو الإطاحة به فى اللحظات الأخيرة.  

بات جليًا الآن لمن يتابع التحركات الإقليمية والدولية مدى التناغم بين التحركات المصرية التى رسمتها رؤية «30 يونيو» والسياسات الأوروبية والفرنسية على وجه التحديد (فرنسا هى اللاعب الأهم فى تونس) وهى تحركات تتلاقى فى نقطة أساسية وهى الموقف الحاسم من تنظيمات الإسلام السياسى سواء فى تركيا أو فى باقى دول المنطقة وذلك نظرًا لكون هذه التنظيمات تمثل خطرًا على هوية المجتمعات بل وعلى مستقبل الدولة الوطنية ذاتها. 

وإذا كان من الصعب فصل الصراع المتزايد داخل حركة النهضة الآن عن مجمل ملامح المشهد السياسى التونسى وعزله عما يجرى فى محيطها العربى والإقليمي، فليس مستبعداً أن تدفع الظروف الحالية إذا ما استمرت إلى ظهور كتل داخل البرلمان وخارجه من أحزاب وتيارات أخرى تلتقى فى مواقفها مع تيار من داخل حركة النهضة ذاتها خاصة بعد أن برز الصراع الداخلى على السطح، ليشكلوا معًا رأس حربة لعمل وطنى يلقى بمشروع النهضة الإخوانى خارج مسار تونس الجديدة .