السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

المسلة فى الميدان.. والمسرح المصرى القديم

بينما أتابع أعمال التطوير بميدان التحرير الذى منحته المسلة المصرية القديمة والكباش صبغة مميزة تشير للهوية المصرية القديمة لتُذكرنا والعالم بأول حضارة فى تاريخ البشرية. ربما يصبح فى إطار تلك السياسة العامة، إعادة طرح سؤال الهوية فى الفنون.



 

طرحُ السؤال هنا يتجاوز الطرحَ المتكرر عن الأشكال الشعبية المصرية كالسامر وخيال الظل والحكواتى وما إلى ذلك من بذور مسرحية مصرية شعبية تم حصر سؤال الهوية فى المسرح المصرى حولها لسنوات طوال.

وإنما ربما يحق لنا الآن مع المسلة الرمز فى الميدان المصرى الأشهَر أن نطرح سؤال الهوية فى المسرح المصرى القديم؛ خصوصًا أن المسرح المصرى القديم شاهدٌ على إسهامنا الباكر فى الفن الدرامى قبل ابتكار الإغريق له فى بلاد اليونان القديمة.

فما قطع به مؤرخو الدراما فى الغرب، من أن المسرح قد بدأ هناك فى اليونان قد ألقى فى روع المصريين والعرب والباحثين والمؤرخين المسرحيين فى العالم كله أن مصر الفرعونية لم تشارك فى التراث المسرحى الإنسانى.

بينما أشار العلّامة المؤرخ المسرحى الشهير ألاراديس نيكول عام 1949م فى كتابه «عالم الدراما» إلى فرضية تستند لدلائل قوية لم تحظ بالاهتمام المستحق، إذ يرى أن: «الدراما وإن رجع تاريخها إلى سنة 490 ق. م حين عرض إيسخولويس أولى تراجيدياته فى أثينا على مشهد من النظارة، لهو أمر يحتاج للتدقيق.

ذلك أن للمسرح وجودًا يضرب فى القِدَم قبل ذلك التاريخ بمئات أو آلاف من السنين، ذلك أن القدامَى من المؤلفين المسرحيين أفادوا كثيرًا فى مسرحياتهم مبنَى ومعنَى من الطقوس الدينية التى كانت لكهنة مصر الأقدمين، ضاربًا المَثل بالمسرحيات التى تُخلد موت أوزوريس».

وما يؤكد صحة الإشارة التاريخية للمؤرخ المدقق ألاراديس نيكول ما جاء ذكره عند هيرودوت بأن المصريين القدماء أطلعوه أثناء زيارته لمصر على نوع من المسرحيات أطلقوا عليها المسرحيات الدينية المحجبة، وطلبوا منه ألا يفشى سرَّ ما أطلعوه عليه.

هذا كما تؤكد الآثار المصرية القديمة المكتشفة حديثا بشكل دقيق وواضح وجود الدراما المصرية القديمة، ذلك أنه فى عام 1896م تم العثور على برديات الرامسيوم الدرامية.

ثم فى عام 1938م عثرت مصلحة الآثار فى سقارة على نقش على أحد جدران مصطبة «حار - نب - كاو» وتقع على جانب الطريق الصاعد إلى هرم أوناس، ويصور النقش أحد مديرى الحفلات ذات الطابع الشعائرى الدينى، وهو يدرب راقصى الاحتفالات الجنائزية، وقد اصطف الراقصون أمامه فى أحد الأوضاع الراقصة، بينما يراجع هو إحدى لفائف أوراق البردى التى تحوى تفاصيل تلك المسرحيات الدينية المحجبة، التى كانت تقوم على شعائر ممزوجة بدراما ذهنية خالصة.

ولكونها دراما سرّيّة طقسية داخل المعبد، فقد حافظت على أسرارها بأن دمجت عناصر التمثيل فيها، بما يجعلها محاكاة ذات خصائص درامية وجوهر رمزى وغاية دينية.

إلّا أن الآثار المصرية لا تصمت عند ذلك الحد من الدراما الطقسية السرية، بل تخبرنا عن نوع درامى عام شاهدته الجماهير المصرية القديمة فى كل أنحاء مصر.

ففى أدفو، فى صعيد مصر، تم العثور على نُصب تذكارى صغير يعود تاريخه للأسرة الثامنة عشرة (1580 ق.م).

وكان هذا النُّصب لواحد من الممثلين ومدون عليه حياة صاحبه، وهو نُصب يدل على رقة حال صاحبه.

ويكاد يوحى بأنه من صُنع عابر سبيل من النحاتين أو الرسامين دفعه الوفاء لصاحبه إلى أن يقيم على قبره هذا النصب الجنائزى.

ومنقوش على هذا النصب تفصيل لجولاته المسرحية مع أستاذه، لنعرف منه أنه انحدر معه إلى الجنوب حتى بلدة (ميو) على أطراف النوبة كما يصعد معه للشمال حتى مدينة (ألوريس).

وإن هذا ليلقى الضوء على فرق مسرحية جوالة كانت تقدم الدراما المصرية القديمة للناس فى التجمعات، ما يلقى الضوء على دراما كانت لاتزال مجهولة لدينا، وهى تشبه ما استمر من تقاليد تمثيل الممثلين الجائلين لمسرحيات شعبية بسيطة إلى وقت قريب فى القرى والمدن والضواحى.

وهو الأمر الذى يدل على وجود المحاكاة الدرامية كجزء من الممارسات الاجتماعية اليومية للمصريين القدماء.

فلقد كان الممثلون المتجولون يقومون فى الميادين أو الدُّور، ويمثلون المسرحيات وفقًا لبرامج مرسومة لهم.

وما لا شك فيه أن الغناء والرقص المصحوبين بالمحاكاة كانا يشغلان فى العروض المصرية القديمة مكانًا مُهمّا، ورُغم الصيغة الدينية التى كانت تحيط بتلك العروض خارج المعبد؛ فإن فهم العلاقة بين الدين والحياة فى مصر القديمة، التى كانت سبيكة واحدة، لا ينفى عن المسرح المصرى القديم صفته الدينية، ولا يحرم عروضه خارج المعبد من صفتها الشعبية.

هذا ومع امتلاك مصر للمتحف القومى للحضارة مؤخرًا، وهو الإنجاز المقتدر الفريد على مساحة 33.5 فدان، ويحتوى على مسرح وقاعات عرض، ومع اقتراب افتتاح المتحف المصرى الكبير بالقرب من أهرام الجيزة، والمنتظر أن يكون أكبر متحف للآثار فى العالم ومع هذه المسلة والهوية المصرية القديمة، هل لى أن أجدد الحلم بوجود فرقة مسرحية مصرية مختصة بتقديم المسرح المصرى القديم، ربما بشكل منتظم فى تلك المتاحف التى تملك دُورًا للعرض المسرحى، وربما بشكل منتظم فى الأماكن الأثرية الكبرى كى تنطق الحضارة المصرية وتغنى وتعود حية من جديد، فى إطار السياحة الثقافية والتربية الفنية للأجيال القادمة، وفى إطار تمتع المصريين بفنونهم التى ابتكروها للإنسانية.

إنه حلم قديم أجدد الدعوة له، وهو يحتاج لتعاون حقيقى بين علماء الآثار والفنانين، فى إطار مؤسّسى يعيد المسرح المصرى القديم حيّا للمصريين وللعالم أجمع.>