
خيرى حسن
عندما تكون الحياة.. زي الهوا!
فى الطريق إلى منزل عبدالحليم حافظ، بحى الزمالك، بالقرب من نيل القاهرة. الشاعر الغنائى محمد حمزة يجلس أمام عجلة قيادة السيارة وبجواره العبقرى بليغ حمدى. السيارة مسرعة. والشارع هادئ. والصمت ثالثهما. ودخان السجائر يتطاير حولهما. فجأة ينظر حمزة إلى بليغ ثم يسأله: لماذا يستدعينا حليم على وجه السرعة هكذا يا بليغ؟
ـ لا أعرف يا حمزة ثم سكت قليلاً، قبل أن يواصل كلامه قائلاً: لكننى شعرت - وهو يحدثنى عبر الهاتف - بحالة من الحزن الشديد، تغلّف نبرات صوته، خاصة وهو يصر على حضورك معى الآن. ثم يكمل كلامه وهو ينظر من نافذة السيارة، لموج النيل بجواره: عمومًا دقائق وسنكون معه، ونعرف، ما لا نعرفه الآن!
(العمارة رقم (12). الدور رقم 7)
[ - وخدتنى من إيدى ..
- يا حبيبى ومشينا
- تحت القمر غنينا..
- وسهرنا وحكينا
- وفى عز الكلام
- سكت الكلام]
- وبعد دقائق، أوقف محمد حمزة السيارة، فى شارع بهاء الدين قراقوش أمام حديقة الأسماك. فى الوقت الذى لم يتوقف فيه الكلام بينهما. ولم «يسكت» صوتهما، وهما يتساءلان عن سبب هذا الاستدعاء العاجل من العندليب. بعد دقائق كان الثلاثى (حليم بليغ حمزة) وجهًا لوجه.
- خير يا «حليم»؟ هكذا بدأ «بليغ» كلامه؟ اعتدل «حليم» فى جلسته، وشرد بذهنه قليلاً، ثم وجه كلامه لـ«حمزة» قائلاً: «ذات يوم تعرفت على فتاة لبنانية فى بيروت. كانت شديدة الجمال، والرقة، والعذوبة. وشعرت تجاهها بالحب، وكنت قد قررت بينى وبين نفسى الزواج منها»!
ـ التفت بليغ حمدى وهو يطفئ سيجارته. وقال بتعجب واستفهام: ماذا قررت يا حليم؟ ثم أكمل وهو يشعل سيجارة جديدة: عفواً.. فأنا لم أسمع هذه الجملة جيداً.
لم يلتفت «حليم» لصديقه، ولم يرد على سؤاله المباغت! وواصل كلامه لـ«حمزة» الذى كشفت ملامح وجهه عن الكثير من الدهشة التى أصابته هو الآخر..لكنه بهدوء قال: أكمل يا حليم الحكاية. قال: كما قلت لكما، فى الوقت الذى كنت قد قررت فيه الزواج منها، وصلنى منها اليوم برقية عاجلة كانت فى واقع الأمر دعوة لحضور يوم زفافها، الذى باغتنى، وأحزننى، وآلمنى أشد الألم. «بليغ» ما زال يطفئ سيجارة ويشعل أخرى. و«حمزة» ما زال يستمع بدهشة. وحليم يحكى بتأثر شديد. بعد أن انتهى من كلامه سكت لحظات، ثم قال: «بس يا سيدى أنت وهو.. هيه دى الحكاية..حكاية كده زى ما تقولوا كانت «زى الهوا» وطارت فى الهوا». بعد لحظات من الدهشة سأله «حمزة»: وما الذى تريده يا حليم منا الآن؟ قال: أن تكتب أغنية تعبر عن قصتى الحزينة هذه مع هذه الفتاة التى تركتنى وتزوجت ابن عمها، من عائلة عريقة وكبيرة فى الشام، ثم أكمل كلامه: وبعدما تنتهى من الكتابة يقوم «بليغ» بتلحينها. قال ذلك ثم تركهما، ودخل إلى غرفة نومه وأغلق الباب وتمدد على السرير.. ونام! بعد دقائق حمل «حمزة» فنجان قهوته الذى كان أمامه، ودخل إلى حجرة خلفه وأمسك بالقلم وكتب:
[- رميت الورد.. طفيت الشمع.. يا حبيبى
- والغنوة الحلوة..
- ملاها الدمع يا حبيبى
- وفى عز الأمان..
- ضاع منى الأمان.. - وأتارينى
- ماسك الهوى.. بإيديا.. - ماسك الهوا
- زى الهوا يا حبيبى.. زى الهوا] *
(الشقة بعد مرور 120 دقيقة)
- رائع.. رائع جدًا يا حمزة. كان هذا تعليق «حليم» على الكلمات.. وما رأيك يا «بليغ»؟ رد بنفس المعنى.. ليبدأ بسرعة فى تلحين الكلمات التى أصبحت فيما بعد أغنية «زى الهوا»!
بعض المصادر تؤكد، أن قصة الحب هذه، التى تحدث عنها العندليب حقيقية. والبعض الآخر قال إنها «وهمية» نسج خيوطها العندليب، حتى يدفع صديقيه - بدافع مشاطرته عاطفياً - فى أن يُخرجا، ما بداخلهما من إبداع.. وبالفعل نجح فى ذلك، وسواء كانت حقيقية أو وهمية، فى النهاية إننا أصبحنا أمام أغنية رائعة غناها العندليب، لكل حبيب عاش معتقداً - ولو بالوهم - أنه أحكم قبضته على حب حبيبه، ليكتشف فى نهاية الأمر أن الحبيب - مثل العندليب لم يمسك أى شىء لا فى قلبه، ولا بين يديه، لأن حبيبه مثل « زى الهوا.. وآه من الهوا يا حبيبى» !
القاهرة - 1950
[ - رددنا الغنوة الحلوة - الحلوة سوا.
- ودبنا مع نور الشمع
- دبنا سوا
- ودقنا حلاوة الحب
- دقناها سوا]
• نحن الآن فى المدرسة الخديوية بالسنة النهائية من إتمام المرحلة الثانوية كان يطلق عليها وقتها البكالوريا مع طالب يكتب الشعر، ويكتب الأغانى. هذا الطالب هو «محمد حمزة» الذى ترك المدرسة ذات صباح رغم أن الامتحانات اقترب موعدها وترجّل فى وسط القاهرة، حتى وصل منطقة السيدة زينب. هناك جلس على مقهى يسمى «مقهى التجارة». وكانت محطة من محطات الملحنين والمطربين يجلسون عليها كل ليلة. وانتظر حتى بدأوا يتوافدون. وبعد ساعة جاء للمقهى ملحن مغمور اسمه «حسن أبوالنجا». اقترب منه محمد حمزة وعرض عليه - أو بمعنى أدق- طلب منه أن يعرض عليه ما يكتبه من أغانٍ. لم ينتظره الملحن حتى ينهى كلامه.. لكنه قال له: اذهب وذاكر دروسك أفضل.
لملم «حمزة» كلماته، وأحلام، وطموحاته، ليعود من حيث جاء.. رغم ثقته فى نفسه، وإدراكه لموهبته، فإن هذا الحوار المحبط الذى دار بينه وبين الملحن، أحزنه كثيراً. فى هذه اللحظة التى كان يستعد فيها لمغادرة المقهى، سمع صوتًا من قريب يناديه. إنه المطرب «شفيق جلال» الذى قال له: أنا استمعت لك منذ قليل. وأراك موهوبًا بالفعل، لكن عليك أن تذهب بهذه الأعمال إلى لجنة متخصصة فى الإذاعة؛ فهى طريقك للنجاح. وبالفعل عمل بالنصيحة، ومن أبواب الإذاعة، عرفت كلماته طريقها للمطربين. وعرفنا نحن الشاعر محمد حمزة الذى ولد فى (يوليو 1940) واشتغل بالصحافة، حيث عمل محرراً فى مجلة «روزاليوسف». وكتب المقالات فى أغلب الصحف المصرية. وفى عام 1963 بدأ مشوار كتابة الأغانى، عندما قدم أغنية للراحلة فايزة أحمد بعنوان «أؤمر يا قمر»، ثم توالت بعدها أعماله مع كبار المطربين، فقدم مع عبدالحليم وبليغ حمدى عشرات الروائع الغنائية. منها «موعود» و«نبتدى منين الحكاية» و«أى دمعة حزن.. لا»، و«حاول تفتكرنى» و«سواح» و«جانا الهوا» و«زى الهوا» و«مداح القمر»، وكتب للمطربات وردة ونجاة وشادية وشريفة فاضل، وللمطرب محمد رشدى، وكل نجوم الطرب فى مصر. تصطبغ كلماته بصبغة رومانسية واضحة، رددها - ومازال- يرددها كل العشاق فى مصر والوطن العربى. تزوج من الإعلامية فاطمة مختار، وله من الأبناء ثلاثة: (أحمد ودينا ودعاء). وقدم ما يقرب من 1800 أغنية منها فقط 37 أغنية من أجمل وأشهر الأغانى المصرية.
مدينة الجيزة - 2017
[ - وخدتنى ومشينا
- والفرح يضمنا
- ونسينا يا حبيبى
- مين أنت / ومين أنا
- حسيت أن هوانا
- هيعيش مليون سنة]
• ولأن هذا الشاعر المرهف المشاعر، يعيش معنا بأعماله الرائعة، مئات السنين. ذهبت إلى عالمه الإنسانى، عندما تحدثت مع ابنته الكبرى دينا تعمل مخرجة بالتليفزيون المصرى فى ذلك العام، حتى نقترب منه، ونعرفه على المستوى الإنسانى. قلت لها: نحن نعرفه كشاعر، وكاتب، وصحفى، لكننا لا نعرفه من الناحية الإنسانية. قالت: كان إنساناً بمعنى الكلمة. رقيقاً، هادئاً، حلو المعشر، ومرهف المشاعر والأحاسيس. ولا يعلو صوته فى البيت إطلاقاً، ولا يتصارع على أشياء زائلة، ولا يسعى إلى مكاسب قد تجعله يقتل الإنسان بداخله. لا تشعر بوجوده من فرط هدوئه، وتواضعه، وحرصه على ألا يكون سبباً فى إزعاج أو إرهاق الآخرين. نحن كبرنا ولا نعرف من هو؟ ولا نعرف أنه شاعر يكتب الأغانى التى يتغنى بها الناس فى الشارع حولنا، لأنه لم يكن يتكلم عن نفسه، ولا يحب أن يمجّد أو يعظّم فيما يكتبه!
(مدينة المنيا - 1950)
[ - وبقيت وأنت معايا
- الدنيا ملك ايديا
- أأمر على هوايا
- تقول أمرك يا عينيا]
• وتمر الدنيا؛ بالطفل محمد حمزة من مدينة المنيا إلى مدينة سوهاج، فى صعيد مصر، مع أسرته الصغيرة، وبسب ضيق العيش، والبحث عن الرزق، لم تستقر وسافرت الأسرة للعاصمة، وفى القاهرة التحق بالعمل فى مؤسسة روزاليوسف، التى تعرف فيها على حب عمره التى تزوجها بعد ذلك، بعدما انتقلت من العمل- كمحررة تحت التمرين إلى مذيعة فى التليفزيون المصرى. وبعد رحلة حياة ممتعة وجميلة ورائعة، أصيبت الزوجة بمرض القلب.
وسافرت للعلاج فى لندن، بعد فترة من العلاج، فارقت الحياة فى عام 2007 . تقول الابنة «دينا»: كانت حبه الوحيد، ورفيقة دربه، وعشرة عمره. وبرحيلها اشتد عليه الحزن. واكتشفنا متأخراً مرضه بالقلب مثلها، ويبدو أنه كان يعرف بمرضه، لكنه تحامل على نفسه، حتى يتفرغ لرعاية والدتى.
(حى المهندسين - 2010)
[ - وخدتنى يا حبيبى - ورحت طاير ..طاير
- وفتنى يا حبيبى
- وقلبى حاير ..حاير
- وقلت لى راجع
- بكرة أنا راجع.]
•• عدت من الجنوب إلى الشمال، ومن الماضى إلى الحاضر، ومن الصحة إلى المرض، ومن الضحك إلى الحزن. عدت من أيامه الأولى إلى أيامه الأخيرة! لقد تأثر برحيل «حليم» وحزن لرحيل «بليغ»، ثم زاد حمل الحزن عليه برحيل زوجته. ومن هنا بدأ المرض يهاجمه بضراوة. واشتد عليه «وجع القلب»، وفى الوقت الذى كان يعالج فيه القلب، أصيب بنزيف حاد فى المخ، تطلب منه البقاء فى المستشفى لفترة طويلة وقد كان حيث ظل بالمستشفى 3 شهور قبل رحيله. هنا تتذكر «دينا» هذه الأيام المؤلمة الحزينة، بقولها: فى المستشفى طلب منا إحضار راديو يضعه بجواره؛ ليستمع للأغانى التى كتبها، والأغانى التى يحبها، لكبار المطربين العرب. وبالفعل خالفنا تعليمات المستشفى وحققنا له طلبه الأخير. بدأ بالفعل والراديو بجواره يشعر بوجود تحسن كبير فى حالته النفسية والمزاجية والصحية، لكن بعد أسابيع قليلة، تدهورت صحته مرة جديدة، ودخل فى غيبوبة الرحيل.
( المهندسين داخل مستشفى خاص)
.. وذات مساء حزين، في شهر يونية عام 2010…
[وفى عز الكلام .. سكت الكلام.]!!
...الآن .. مات الشاعر محمد حمزة.