الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

العدل والدم

تُعتبر تجربة (الفتوة) لـ«هانى سرحان» و«حسين المنباوى» تحديًا حقيقيّا لخوض غابة كثيفة، خطط أشجارها وصاغ طعم أفكارها أول وأهم من جاء على ذكر توت الحرافيش ونبوت الفتوات. أبانا الذى فوق عرش الحكاية «نجيب محفوظ»؛ حيث كان من السهولة أن يتحول العمل إلى مسخ باهت من أصل عوالم راسخة الوجود فى ذاكرة السرد الروائى والدرامى على حد سواء، لكنْ كلا الشابين استطاعا أن يقفزا برشاقة لافتة فوق فخ النسخ الردىء واستطاعا أن يجلسا فى ظل شجرة «الحرافيش»؛ لكى يقصّا علينا حكايتهما الخاصة التى تفوح منها رائحة الناجى الأول مختلطة بلمحات من تراث الملاحم الشعبية المصرية.



 

 

لم يذهب (الفتوة) بعيدًا فى حكايته عن البئر التى صعدت منها الملحمة المحفوظية مغتسلة من دم الطمع بالتوق إلى العدل الذى يحتاج من يدق بابه إلى «براءة الأطفال وطموح الملائكة»، وإذا كانت الحبكة فى الدراما تنبع من الشخصيات وليس العكس فيمكن القول إن (الفتوة) هو من أكثر أعمال الموسم الشاحب تماسكًا على مستوى الشخصيات والإيقاع والانتقال عبر فَهْم حقيقى لطبيعة الصراع الدرامى من موضع إلى آخر حسب خطة بناء واضحة المعالم الفكرية والنفسية باتجاه هدف محدد، وهو أن العدل والدم لا يمكن أن يجتمعا إذا ما أراد الإنسان أن يحافظ على جوهر إنسانيته ولون قلبه صافيًا.

 

ثمة نُضج فى بناء شخصيات أساسية فى الصراع، أبرزها شخصية المعلم «سيد اللبان» التى أداها «رياض الخولى» بملامح طازجة وتمرُّس غير مستغرب على مشخصاتى مخضرم مثله، سواء على مستوى نظرات العين أو نعومة النبرات التى تتلون بتلون رغبات الطمع والاستحواذ وشهوات الأخذ والتمكن التى تتلبسه طوال الوقت، ويمكن أن يضاف إليه فى الدرجة نفسها من نضج الأداء شخصية «المعلم صابر أبودعوة» التى قدمها «أحمد خليل»؛ خصوصًا فى الحلقات الأخيرة قبيل فدائه لـ«حسن الجبالى» ردّا لدَيْن الدم الذى فى عُنقه تجاه أبيه.

 

وينسحب البناء الناضج على ملامح الظهير الإنسانى للشخصيات الرئيسية، مثل شخصية «حورية أُمّ حسن» التى صبغتها «إنعام سالوسة» بطعم معتق قادم من عوالم الجدات القدامَى صاحبات الدم الخفيف والحكمة المجردة والمكر الطاهر، والمقصود بالظهير الإنسانى الشخصيات التى ليست فى مقام الرئيسية، ولكنها تمنح الشخصيات الرئيسية اللحم والروح التى تجعلها أكثر قدرة على تحقيق الإيهام والإقناع اللازمين لتوريط المتلقى فى الحكاية والاستغراق فى بيئتها.

 

ويقودنا الحديث عن الشخصيات إلى التوقف أمام عناصر التكرار المُلح فى العلاقات العاطفية بين رجال ونساء العمل عبر محنة الأجيال المرتبكة بين الطمع والخوف والجرم القديم.

 

ففى لمحة من قصة سعد اليتيم يكتشف «حسن» أن المعلم «صابر» والد «ليل» حبيبته، الذى فى مقام عمه، متورطًا فى مقتل أبيه فى المولد - من أجمل التكوينات البصرية ذات الحس الدلالى مشهد لقاء «حسن» و«صابر» فى نفس موضع اغتيال الأب «الجبالى» مغدورًا أمام المرجيحة التى تمثل تصاريف الحياة والزمن- ثم تعود التيمة العاطفية لتتكرر مع ابنته «نورا» التى تحب ابن «سيد اللبان» عدو أبيها والمتورط أيضًا فى قتل جدها.

 

يمكن اعتبار هذا التكرار نوعًا من الانعكاسات الدرامية بين الخطوط التى تربط ما بين جيل «صابر واللبان والجبالى» وجيل «حسن وليل» وصولًا إلى جيل «عبده ونورا»، فالأخطاء القديمة لا تموت، بل تتوارثها قلوبُ الأبناء.

 

يمكن وضْع المونتاج فى ذيل قائمة العناصر المميزة نظرًا لتفاوت مستواه بالمقارنة لمستويات التصوير والديكور والتمثيل، كذلك لم يُبذل الإخلاص نفسه فى تحقيق لغة حوار إيهامية بالزمن، فكثير من الديالوجات شابتها صور لمخيلة لغوية لا تنتمى للعصر، وكثير من المَشاهد لو استمع لها المتلقى دون أن يراها لظن أن الحوار يدور فى يومنا هذا. هذا التهاون مع اللغة يكسر إيهام المتلقى بالزمن ويجعله يتحول من الاستغراق الشعورى للسخرية من اللفظ الحديث المنطوق من شخصية شبه تاريخية- وانسحب هذا التهاون على الملابس أيضًا ولا نقصد به فقط تصميماتها، ولكن كيفية توظيفها، فنحن نرى نساء العمل بين كاشفة وجهها ومخبئة إياه دون سبب درامى يخص الموقف أو الحدث، فتارة باليشمك وتارة من دونه، وكان الأجدر بالمؤلف والمخرج ومصممة الملابس وضْع المزيد من الجهد فى التساؤل حول توظيف ملابس كل مَشهد ولم ترتدِ الممثلة هنا اليشمك ومتى تسير سافرة، أمّا فوضى كشف الوجه ومداراته فجاءت ضد الجهد المبذول فى تصميم مناظر ممتع وإيهامى وضد تحقق رائع لمصادر إضاءة منطقية؛ خصوصًا فى مَشاهد الليل دون أن تشوبها ظلمة فجة أو ضوء منقطع الصلة عن الزمن.>