
د. ايريني ثابت
الطين محل الطيب
منذ ربع قرن من الزمان كتبت شيرى توركل وتنبأت عن الطين الذى صرنا نعيش فيه الآن.. فى كتابها الشهير: (الحياة على الشاشة: الهوية فى عالم الإنترنت)، تناقش الكاتبة الباحثة كيف ستختلف نظرة الإنسان لنفسه وتعريفه لهويته بسبب استخدام الإنترنت.
أما وقد صرنا كلنا فى عصر الكورونا انترنتيون شئنا أم أبينا، وقد صار زووم بديلا عن كل اجتماعات عملنا وقاعات تدريسنا.. وصار كل تواصلنا عبر شاشات.. إذًا (الحياة على الشاشة) لم يعد مجرد كتاب أو نبوءة بل واقع نعيشه.. أو بالأحرى بديل عن الواقع الذى ينبغى أن نعيشه..
أكثر ما شدنى فى مقدمة الكتاب هو وصف الكاتبة للحياة فى الإم يو دى (MUD) وهو اختصار لنوع من الألعاب على الإنترنت يبتكر فيه اللاعبون شخصيات خيالية ويعطونها الصفات التى يختارونها دون أى تقيد بالواقع.. وتضع الكاتبة عنوانًا جانبيًا ساخرًا للغاية هو (Living in the MUD) وتصير النكتة المبكية هى: الحياة فى الطين..!!
تنبأت شيرى توركل إذًا عن أن البشر سيصنعون لأنفسهم نسخًا إلكترونية بكل ما كانوا يودون أن يكون فيهم من صفات وشكل ولون وعمر وجنس ونوع.. وأن شخصياتهم الوهمية ستصير أكثر واقعية حين تلتقى على أرض الفراغ الإلكترونى بشخصيات أخرى افتراضية يختفى وراءها بشر حقيقيون لتذوب هوياتهم جميعًا فى هويات الشخصيات الافتراضية التى صنعوها فى عالم الطين.. أقصد عالم ال إم يو دي!!!
وكلما زاد تعامل الشخصيات الافتراضية معًا فى عالم الفراغ الإلكترونى، وبنوا ذلك العالم بمعطيات جديدة، سيصير هو العالم الحقيقى ويتضاءل عالمنا نحن.. وسيضع هؤلاء أنماطًا جديدة للحياة بطقوس وتقاليد وعقائد جديدة يثبّتونها يومًا بعد يوم ويعطونها الأوامر من الكى بورد لتتحرك وتتفاعل وكأنها حقيقية جدًا جدًا.. وقد يكون العملاق الكبير فى عالم الطين مجرد صبى صغير عبقرى برمجة!! وتكون سيدة الحفل التى تجذب الرجال من هنا ومن هناك فى العالم الافتراضى ما هى إلا شاب يتحدى نفسه ويظهر قدراته فقط على الشاشة.. وكما تقول الكاتبة إن أحد اللاعبين فى عالم الطين قال إنه يجد هذا العالم أكثر واقعية من العالم البشري!!
وتقف الكاتبة عنذ ذوبان العالم الحقيقى فى العالم الافتراضى وفى كتابها هذا، وهو الكتاب الثانى تنصح البشر كما نصحتهم أيضًا فى كتابها الأول (الشخصية الثانية) أن يفصلوا بين العالمين وأن يدركوا أهمية العلاقات الحقيقية بين البشر لأن الآلات عكس البشر لا مشاعر عندها..
والحقيقة أن المسألة ليست مجرد جمود المشاعر فحسب.. بل هى انتفاء الصفات البشرية واحدة تلو الأخرى عند البشر.. فلكل إنسان عطر ونكهة وصوت وضحكة.. وهو ما نفتقده بشدة فى هذه الأيام الكوارنتينية التى مع الأسف صار فيها التباعد لا التقارب هو الحياة!! فأنت حين تتقابل حقا مع صديق تصافح يده وتشم عطره وتقابل عيناك عينيه وترى ابتسامته وتسمع صوته.. وحين تقابله فى العالم الافتراضى تكتب له ثم تكتب له ثم تنقر على أيقونة المشاعر السخيفة لترسل له قلبا أو بسمة من تلك الأيقونات التى يرسلها كل يوم ملايين الناس لملايين آخرين..
إذا استمرت الحياة على الشاشة سوف تنقرض آذان البشر وأنوفهم.. وتكبر عيونهم وتصير أناملهم رفيعة ودقيقة.. والأهم أن عطورهم الشخصية ستختفى تمامًا.. وأقصد بالعطر الشخصى هنا البصمة التى تخترق أنفك حين تقابل شخصًا ما وتقترب مساحتكما الشخصية قليلا فتسعد أنفك مع عينيك وأذنيك بمقابلته.. أو تنفر أنفك مع عينيك وأذنيك منه.. إذا استمرت الحياة على الشاشة فى الطين، سننسى رائحة الطيب.. ولن نفهم أبدًا غزل نزار قبانى لأن الحب سيكون إنترنتيا وسيضمحل العطر، وكل العطور، وستفنى هذه القصيدة وكل قصيدة..
لجسمك عطر ..
شديد الذكاء، كثير الغرابة
يشابه صوت الكمنجات حينًا
وحينًا يشابه صوت الربابة ..
يشاركنى فى صياغة شعري
ويدخل بينى وبين الكتابة..