
خيرى حسن
شهادات الحسم حول لصوص «مَدَد.. مَدَد»!
ـ ما كانتش تحب تفاصل فى الأشياء
ـ كان مُرّ المُرّ.. وداء الداء..
إنك ما تاخدش كلامها، مُسَلّم بيه
( الواحد بس ح يكدب ليه؟)
كانت، تلعن أم الكلمة اللى بوشين
( إزاى.. ح يكون لك لون..
لو إنك عشت يا ولدى بدون أعداء؟)
«زكى عمر ـ 1962»
(المنصورة 1965م)
هل كان يدرك الشاعر الراحل زكى عمر أنه بسبب موهبته الحقيقية، والأصيلة، والعميقة، سيعيش، حزينًا، ووحيدًا، يواجه مع كل إشراقة شمس، الكثير من الأوغاد، الذين يطاردون، ويحاربون، ويحاولون، مرارًا، وتكرارًا، قتل أى موهبة قد تظهر فى الحياة أمامهم؟ المؤكد أنه مثل أى صاحب موهبة كان يدرك هذا، ويشعر به جيدًا؛ لأنه بعدما أيقن ذلك وأدركه توقف أمامه، وأشار إليه مبكرًا، فى مطلع حياته، من خلال قصيدته الشهيرة «وقفة قصيرة على قبر أمّى» عندما سأل وتساءل: «إزّاى ح يكون لك لون؟ لو أنك عشت يا ولدى بدون أعداء»؟ ولقد عاش الرجل ومات مطاردًا من الأعداء، أعداء الموهبة فى كل زمان ومكان حتى وهو فى قبره الآن؟
(شارع قصر العينى 2020م)
لاأزال أجلس على المقهى، ولايزال هانى عبدالله- رئيس تحرير مجلة «روزاليوسف»- بجوارى يتناول فنجان قهوته الرابع، وربما الخامس، لستُ متذكرًا ذلك جيدًا، ويواصل أسئلته الجادة، والحادة أحيانًا، محاولًا معى أن يستوعب تركيبة ذلك الشاعر الذى ترك غيرَه يستولى على إبداعه وإنتاجه دون أن يتحرك له ساكنٌ؟ قلتُ له: على عكس ما قد يتصور البعض؛ فإن زكى عمر لم يسكت، ولم يتهاون، ولم يلتزم الصمت التام حيال الجريمة، التى ارتكبت فى حق إنتاجه وأشعاره، وحقه الذى اغتصبوه، ونسبوه ظلمًا وغدرًا لشاعر آخر، بل إنه تحرَّك، وجاء للقاهرة من مدينته المنصورة؛ ليقاتل ويدافع ويعلن فى وجه مَن تجاهلوه - بغير حق - أنه سيدافع عن حقه وإبداعه، بكل الوسائل المتاحة أمامه. كان قد مَرّعلى جلستنا تلك قرابة الساعة، والجو لايزال باردًا، والشارع أمامنا هادئًا؛ إلّا من بعض السيارات العابرة، التى تُمرُق مسرعة، فى طريقها إلى ميدان التحرير بوسط القاهرة.
أكملتُ حديثى فى وجود طارق رضوان- رئيس تحرير مجلة «صباح الخير»- قائلًا: إن دفاع زكى عمر عن نفسه وشِعره كان فى مجلة «صباح الخير»عام 1977م عندما استقبله الكاتب الصحفى الكبير منير مطاوع وأتاح له فرصة الدفاع عن حقه.
سُئلت: لكن قبل هذا كله - وهو بالتأكيد شىء مهم، وعظيم، ونفخر به نحن فى مجلة «صباح الخير» التى أتاحت لشاعر الفرصة ليدافع عن حقه أمام ظالميه- نريد معرفة الكلمات الأصلية لأغنية «مَدد .. مَدد» التى تقول إن كاتبها زكى عمر.
(المنصورة 1968م)
فى هذه المدينة تحفظ شوارعها وحواريها وقراها ودروبها كلمات زكى عمر الأصلية التى قال فيها: (مَدد.. مَدد. مدد/ شدّى حيلك يا بلد/ إن كان فى أرضك مات شهيد/ فيه ألف غيره بيتولد/ مَدَد مَدد مَدَد/ بكره الوليد/ جاى من بعيد/ راكب خيول فجره الجديد/ يا بلدنا قومى احضنيه/ دا معاه بشاير ألف عيد/ قومى انطقى.. سيبك بقى/ من النومة جوّه الشرنقة/ دا النصر محتاج للجلد/ مَدَد مَدَد مَدَد/ لو كان فى قلبك شىء قوليه/ الحزن هيفيدنا بإيه/ يا سكة مفروشة بأمل/ مشوارنا حطى العزم فيه / يا بلدنا سيبك م الدموع/ قومى اقلعى توب الخضوع/ دا النصر محتاج للجلد/ مَدَد.. مَدَد .. مَدَد) هذه هى الكلمات الأصلية التى كتبها الشاعر زكى عمر مع بداية حرب الاستنزاف، وبدأ يهتف بها، وترددها خلفه الجماهير فى شوارع المنصورة وعلى مسرحها القومى فى مسرحيته الشهيرة (الشرارة) التى ضمت مجموعة أشعارأخرى له حتى عام 1973م. وهذه الكلمات هى التى سمعها وعرفها وعاش معها الكثير من شهود العيان والذين عاصروا تلك الحقبة الزمنية، ولذلك ذهبت فى هذه الجولة إليهم للاستماع إلى شهاداتهم الحية التى تم تسجيلها بالصوت والصورة والكلمة المكتوبة.. وجولتى بدأت من مدينة الإسكندرية.
(الإسكندرية 2020م)
تركت تلك الفترة الزمنية الملتهبة بالحماس والمقاومة من أدباء مدينة المنصورة وتوجهت إلى مدينة الثغر. وعلى مقهى صغير فى شارع خالد بن الوليد القريب من الكورنيش، كنت أتردد عليه، كلما ذهبت إليها. جلست فى انتظار محمود عوضين- عمره الآن 68 عامًا - وكيل وزارة الثقافة المصرية الأسبق، الذى عاصر وعايش هذه الفترة من موقع الحدث؛ حيث كان يعمل مديرًا لقصر ثقافة المنصورة فى الفترة من 1970م حتى 1972م. من بعيد لمحته قادمًا، بخطوات جادة، وابتسامة واضحة على وجهه، ثم جلس مرحبًا بى، ومعتذرًا عن تأخيره 5 دقائق ثم أدلى بشهادته قائلًا: كلمات مَدَد.. مَدَد هى للشاعر ابن الريف زكى عمر، وأشهد بذلك أمام جميع الجهات، فلقد كنت مدير قصرثقافة المنصورة فى ذلك الوقت، وكنت آخذ زكى عمر من يده وأصعد به إلى خشبة مسرح المنصورة ليلقى بصوته مَدَد مَدَد أمام الجماهير الحاشدة التى كانت تأتى لتسمعه، وتتفاعل معه بشدة، وهو يهتف للبلد: مَدَد.. مَدَد، لكى تتجاوز الهزيمة وتنهض لتحارب، من أجل تحرير سيناء وجميع الأراضى العربية المحتلة منذ نكسة 1967م. بعد دقائق تساءل الرجل مندهشًا: كيف بعد هذا الذى رأيته بعينى، وعشته بنفسى، وسط جميع أدباء وشعراء مدينة المنصورة فى ذلك الزمان، يأتى مَن يأتى ليقول لنا بالظلم والزور والبهتان والتزويرالمخجل إنها كلماته وأشعاره وإبداعه؟! لقد عشت أيامًا طويلة مع هذه الكلمات وتابعت مشوار زكى عمر من المنصورة إلى القاهرة ومعه تلك الكلمات التى هتف بها مع الراحل محمد نوح بعدما تعرَّف عليه وأعجب بكلماته تلك فى مدرجات جامعة القاهرة وسط الطلاب أثناء الحركة الطلابية النشطة فى ذلك الوقت، التى كانت تضغط وتطلب من القيادة السياسية خوض غمار المعركة لتحرير سيناء. ولقد سجلت شهادتى تلك قبل موتى للحق وللتاريخ مع أسرة الراحل زكى عمر بالصوت والصورة؛ لتكون شهادة للحق أمام الباطل، وللعدل أمام الظلم، ومستعد فى الوقت نفسه للحضور أمام أى جهة تحقيق لتقديم هذه الشهادة، متى طلب منّى ذلك».
(جامعة القاهرة 1971م)
عدتُ من الإسكندرية إلى كتاب الكاتب الراحل صلاح عيسى «شاعر تكدير الرأى العام - الملفات القضائية للشاعر أحمد فؤاد نجم» دار الشروق 2007م الذى سجل فيه عن هذه الفترة قائلًا: (وما كاد العام الجامعى الجديد يبدأ فى خريف ذلك العام، حتى استأنفت الحركة الطلابية المصرية، نشاطها السياسى، الذى كان قد توقف منذ عام 1954م، فيما عدا انتفاضة جرت فى عام 1968م ونجحت السُّلطة الناصرية فى استيعابها، ومن هنا بدأ قادة الحركة الطلابية فى جامعة القاهرة على وجه التحديد تنشط فى كل الاتجاهات. لرفض ما كان يسمى وقتها بـ«الحل السياسى»، وكسْر حالة وقف إطلاق النار، وتهيئة الجبهة الداخلية لحرب شعبية طويلة المدى)، وهذا تطالب وجود شعراء يطلقون كلماتهم وأشعارهم من داخل الحرم الجامعى للوطن كله. وكان من بين هؤلاء الشاعر زكى عمر وكلماته الحماسية: «مَدَد .. مَدَد» التى أطلقها داخل كلية الهندسة جامعة القاهرة فى حضور أحد القيادات الحركة الطلابية فى ذلك الوقت أحمد بهاء الدين شعبان. ولقد سجل الرجل شهادته - بالصوت والصورة - عن زكى عمر وقال فيها: «أرجو أن يُسمح لى بأن أدلى برأيى فى الحوار الذى اندلع فى جانب من المجتمع الثقافى والفنى، حول نسب قصيدة «مَدَد مَدَد.. شدّى حيلك يا بلد»، وهى شهادة موضوعية، لا تنحاز إلّا للحقيقة، التى هى ضالة الصادقين فى كل زمان ومكان.
تعود معرفتى بهذه القصيدة إلى أقل قليلًا من نصف قرن من الزمان، أى إلى سنوات النصف الأول من عَقد السبعينيات، عندما تفجَّرت الحركة الطُلابية فى الجامعات المصرية، للمطالبة بخوض الحرب ضد العدو الصهيونى، الذى كانت قدمه النجسة تقبع على ضفة قناة السويس، أى على بُعد مائة وبضعة كيلومترات وحسب، من عاصمة مصر المحروسة القاهرة!.
وفى تلك الفترة المهمة فى التاريخ المصرى، تحوَّلت الجامعات والمعاهد المصرية فيها، وبالذات جامعات القاهرة وعين شمس والإسكندرية، إلى ساحة مفتوحة للحوار المجتمعى العميق حول الهزيمة فى 5يونيو 1967م وأسبابها، والاحتلال وآليات مجابهته وإلحاق الهزيمة به، وطرَق أبوابَ الجامعة كلُّ المفكرين الوطنيين والشعراء والمثقفين البارزين، ومنهم الراحلان الكبير الشاعر أحمد فؤاد نجم، والفنان الشيخ إمام عيسى، والثنائى المُبدع، الشاعر سمير عبدالباقى، والمُلحن والمغنى العظيم عدلى فخرى، والشعراء الكبار: زين العابدين فؤاد، ومحمد سيف، ونجيب شهاب الدين، وفؤاد قاعود، وزكى عمر، ومحمود الشاذلى، ومحمود الطويل.. وغيرهم كثيرون، من الكُتاب والأدباء والمفكرين، الذين تباروا فى بث روح الحماسة والمقاومة فى النفوس، وشحن الوجدان الشعبى بالوعى الضرورى لمواجهة مؤامرة إشاعة الإحباط، ونشر اليأس من إمكانية الانتصار فى الحرب ضد العدو الإسرائيلى.
وكان من ضمن مَن تردّدوا على الجامعة، وعلى كلية الهندسة التى كنت طالبًا بها آنذاك، المُلحن والمُغنى محمد نوح، الذى كان يلهب حماس الطلاب بصوته الرخيم، وهو يغنى كلمات قصيدة يقدمها دائمًا كدُرَّة من دُرَر إبداعات الشاعر زكى عمر، الذى يتردد فيه مقطع: «مَدَد مَدَد.. شدّى حيلك يا بلد/إن كان فى أرضك مات شهيد/ فيه ألف غيره بيتولد»، التى كان لها وقْعُ السّحر فى نفوس الشباب الرافض للهزيمة، والمتعطش للثأر، وكانت الفقرات الغنائية تتخللها قراءات شعرية للشاعر زكى عمر وآخرين.
ولم أسمع طوال تلك الفترة، التى لاتزال حيّة فى الذاكرة، إلّا أن هذه القصيدة التى يتغنّى بأبياتها «نوح»، هى من صميم أعمال الشاعر الراحل الكبير زكى عمر.
فيما قال عبدالغفار شكر- نائب رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان: «نحن كنا فى نهايات عام 1972م عندما كان يصعد الشاعر زكى عمر على مسرح أوبرا المنصورة، وشاهدته بعينى وهو يلقى قصيدته تلك.. وكانت الجماهير تهتف خلفه. وكان الراحل محمد نوح - فى البداية- لا ينكر حقه الأدبى والمادى فيها. ثم حدث- فيما أظن- بينهما خلاف، وهذا الخلاف كان بداية افتراقهما عن العمل معًا. ومن الوارد أن يكون الشاعر إبراهيم رضوان قد أضاف بيتًا أو أكثر، فهذا أمْرٌ لا أعرفه، لكن الحق أقوله للتاريخ إن هذه الأغنية من كلمات الشاعر الراحل زكى عمر.
فيما قال الكاتب الصحفى محمد الشبة: «كنا فى عام 1972م عندما استضفت الشاعر زكى عمر فى بيتى بجوار جامعة القاهرة؛ حيث كنت من القيادات الطلابية لكلية الآداب وقتها، وفى اليوم التالى انضم لنا الملحن محمد نوح وانطلقنا سويّا إلى مدرجات كلية الآداب ووقف زكى عمر يهتف: «شدّى حيلك يا بلد» ومحمد نوح يغنيها خلفه، وهذه شهادتى للحق والتاريخ، ولقد سجلتها بالصوت والصورة، لأسرة زكى عمر. وبالكلمات نفسها أكد الشاعر سعد عبدالرحمن- رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية الأسبق- الذى قال: «مَدَد .. مَدَد هى كلمات زكى عمر وتمت سرقتها، فى عملية سرقة أدبية فاضحة وواضحة». وقال الكاتب الروائى الكبير إبراهيم عبدالمجيد: «زكى عمر عاش مظلومًا.. ومات مظلومًا، وسُرق حيّا وميتًا» وبكلمات واضحة، وحاسمة أعلن الكتاب والنقاد الكبارعن تضامنهم المعلن على مواقع التواصل الاجتماعى مع أسرة الشاعر زكى عمر المغدور به، حتى يعود له حقه الأدبى فى كلمات « مَدَد .. مَدَد» وهم: (زين العابدين فؤاد، فتحى الخميسى، وطارق فهمى حسين وعلى عطا وأشرف عبدالشافى وعمر طاهر وأشرف الشافعى والسيد حافظ ومصطفى عبيد ومحمد عبدالواحد وحمدى حمادة ومحمد خليفة وعبده الزراع وأحمد سراج وعمرو الشيخ ود. فاطمة سيد أحمد، وسهى زكى، وهيثم الغيتاوى، وحمدى الجابرى ووائل سعيد، ومحمد الهادى.. وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكرهم.
(المنصورة 2020م)
ومن القاهرة توجهت إلى مدينة المنصورة، وهناك استمعت إلى شهادات - تم تصويرها صوتًا وصورةً - إلى الأدباء والشعراء هناك، الذين أكدوا على ما هو أصبح مؤكدًا، بالوثائق والشهادات والكتابات النقدية التى سبق عرضها فى الحلقة السابقة من أن شاعر «مَدَد.. مَدَد» هو زكى عمر وليس الشاعر إبراهيم رضوان الذى تُنسَب له الكلمات، وهم: عادل عبدالباقى، صلاح اللقانى، محمد الشربينى، سمير الأمير، يحيى بدير، عوض الشيخ، إبراهيم جادالله.. وغيرهم من أبناء تلك المدينة الجميلة التى لم تنسَ شوارعها وحواريها ومقاهيها صوت زكى عمر وهو يهتف من أجل العبور منذ عام 1969م «مَدَد.. مَدَد.. شدّى حيلك يا بلد».
(القاهرة 2020م)
بعد هذه الجولة مع الشهادات الحية التى أدلى بها الأدباء والشعراء والمثقفون المصريون؛ لإنصاف الحق وإعلاء الحقيقة، عُدت إلى المقهى فى شارع قصر العينى؛ حيث لايزال هانى عبدالله- رئيس تحرير مجلة «روزاليوسف»- وطارق رضوان- رئيس تحرير مجلة «صباح الخير»- يجلسان فى دهشة وحيرة وتساؤلات ساخنة ومستمرة وموضوعية، حول هذه القضية، وقبل وداعهما قلتُ: فى الحلقة المقبلة سوف أعرض لكما الصرخة التى أطلقها الراحل زكى عمر للرأى العام والوسط الثقافى ولم يسمعها أحد وقتها ربما لتوجهه اليسارى فى تلك المرحلة ونشرتها مجلة «صباح الخير» يوم 5مايو 1977م ضد الفنان الراحل محمد نوح تحت عنوان «نوح يجمع النقوط.. على أشعار مسروقة» وعندما لم يسمعه، أحد ولم يسانده أحد، غادر القاهرة إلى مدينة عدن الجنوبية.. ومن هناك.. من غربته التى عاش فيها حتى موته عام 1987م كتب يقول:
«زعق الوابور عالسفر
أنا قلت رايحين فين؟
رايحين تغيبوا سنة والّا تغيبوا اتنين!
يا رايحين والنبى للقاهرة الملايين.
قولوا لحبيبتى، بأن العاشق.. الشاعر
مدبوح.. ودمه، بطعم الغربة ع السكين».